مقالات وآراء

فتاوى فوق رؤوس الجياع : حين تحرّم السلطة الدعاء وتسمح بالفساد

زهير عثمان حمد

 

نشرت إحدى الصفحات السياسية المعروفة مؤخرًا فتوى فقهية مطولة حول “حكم الدعاء على المسلمين”، تؤكد فيها أن الدعاء بالسوء على عموم المسلمين محرم، ولا يجوز إلا في حال الظلم أو الاعتداء، محذّرة من عبارات مثل “الله يقرفهم” و”يجعل كيدهم في نحورهم”، وموضحة أن مثل هذا الدعاء إذا خرج عن المظلمة العادلة، يدخل في أبواب الغيبة، والفسوق، والعدوان.

 

هذا الطرح في ذاته يحمل أهمية أخلاقية لا يمكن إنكارها، ويستند إلى أصول شرعية معتبرة. لكنه ــ في السياق السياسي والاجتماعي الذي قُدّم فيه ــ لا يبدو بريئًا تمامًا. فحين يأتي هذا الخطاب من حزب سياسي أو سلطة تحتكر الحديث باسم الدين، دون أن تعي حجم المأساة التي يعيشها الناس، فإنه يفضح فجوة عميقة بين ما يُقال باسم الشرع، وما يُفعل باسم السلطة.

 

في خضمّ واقع مأزوم، يعاني فيه المواطن من الجوع، والنزوح، وانعدام الأمن، وغياب الخدمات، يصبح من السخرية أن ينشغل بعض السياسيين بتقنين الأدعية، بينما يغضّون الطرف عن دعوات الضعفاء والمهمّشين، وصرخات المطابخ الشعبية التي تُطعم مئات الجياع كل يوم، بدعم من متطوعين ومنظمات لا تملك ظهرًا سياسيًا ولا ضوءًا إعلاميًا.

 

السلطة التي تدّعي أنها تعرف أحوال الناس، لا تسند ظهرها إلا للتقارير الرسمية، ولا ترى المآسي إلا عبر بيانات المكاتب. أما أولئك الذين يعرفون الواقع فعليًا ــ من منظمات المجتمع المدني، الجمعيات الطوعية، لجان الأحياء، والمبادرات الشبابية ــ فهم يُهمَّشون، ويُعرقلون، ويُتعامل معهم كغرباء في وطنٍ يطفو على أوجاع أهله.

 

اللافت أن تلك السلطة ــ أو الحزب الذي يمثّلها ــ لم يتذكر خطورة “سباب المسلم” إلا حين تعلّق الأمر بالخصوم السياسيين أو المختلفين في الرأي، بينما يتغافل الخطاب ذاته عن خطورة القصف والتشريد والفساد والتجويع وسرقة الإغاثة، وكأن هذه الجرائم لا تندرج تحت باب “الظلم” الذي يبيح الدعاء!

 

إنّ الشرع لا يُجزَّأ، والرحمة لا تُنتقى، والعدالة لا تُوزّع حسب الموقع السياسي.

من يدعو إلى تهذيب اللسان، ينبغي أن يدعو إلى إغاثة الإنسان.

ومن يحرّم الغضب اللفظي، يجب أن يُدين الغضب المسلح، والفشل الإداري، والغياب الكامل للرؤية الاجتماعية العادلة.

 

إنّ منظمات المجتمع المدني ليست طارئًا في هذه البلاد، بل هي التي حفظت الحد الأدنى من الحياة الكريمة في أقسى الظروف.

ومن ينكر دورها، أو يتجاهله، يسيء إلى الحقيقة، ويزيف الوعي، ويكرّس مركزية فارغة لا علاقة لها بواقع الناس.

 

أن الدعاء، في جوهره، هو مح العبادة ونداء للمظلوم، وبكاء من القلب.

فلا تمنعوه عنه، ولا تُسقِطوه من سياقه.

وإذا أردتم محاربة الفجور، فابدؤوا بمحاربة الظلم، وإعادة الاعتبار لمن يخدم الناس في صمت.

 

[email protected]

تعليق واحد

  1. بصرف النظر عمن أصدر تلك الفتوى فهي فتوى صحيحة لا غبار عليها.

    أما حديث الكاتب المتذمر عن الفتوى فكمن يقول متضجرا: “نحن في حالة حرب وجوع وتشريد وأنتم تحدثونا عن حرمة شرب الخمر”!!

    أو كمن ينتقد الطبيب المدخن الذي يبين للناس أضرار التدخين ويحضهم على تركه.

    أو كمن ينتقد من ينهى الناس عن المنكر وهو يأتيه، كمن يشرب الخمر وينهى الناس يشربها.

    فليس من شروط الأمر بالمعروف أن تكون فاعلا له، وليس من شروط النهي عن المنكر أن تكون منتهيا عنه.

    هناك مثل شعبي يقول: “كل شوكة بسلوها بدربها”.

    والآية القرآنية تقول:
    {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}.

    فكل يسد ثغرته ويؤدي ما يليه من المهام.

    صحيح مراعاة الأولويات هامة، ولكن من قال أن موضوع النصيحة أو الفتوى المتعلقة بحكم الدعاء على عموم الناس ليست مهمة؟
    وحتى إن كان ذلك في نظرك أمرا صغيرا فمن قال أن بيان حكم شرعي في أمر صغير مثل كيفية التيمم أو حد مسح الرأس أو حكم قص الأظافر لا يجزز في أوقات الحروب والمجاعات، أو أنه يعيق الفقيه أو المفتي عن بيان حكم أمر كبير؟

    وهل أنت تحققت مما نصح به أو أفتى به من تعنيه طوال أشهر او سنوات الحرب فلم تجده نصح أو أفتى إلا في هذا الأمر، أم أنك إنتقيت هذه الفتوى من بين ما سمعته أو لم تسمعه من فتاوي الرجل لحاجة في نفس يعقوب قضيتها؟
    يبدو أنك تلقفت هذا لأنه يصلح أن يكون موضوعا للكتابة؟

    ما تراه أمرا صغيرا قد يراه غيرك أمرا كبيرا، فالبقالة أو السوق مثل برنامج ما يطلبه المستمعون، يلزمها توفير
    ما يطلبه جميع الزبائن.
    وقديما قيل: (لولا اختلاف الأمزجة لبارت السلع).

    أما قضايا الفساد التي ترى أولوية الحديث عنها، فعلى الرغم من أنك لا تدري ما إذا كان من تعنيه قد نصح وتحدث عنها أم لا، إلا أن إتهام الناس بالفساد دون بينه يدخل في نفس الإطار الذي تحدث عنه بنهيه الناس عن تعميم الدعاء على الجميع، فتعميم الدعاء على الجميع لا يختلف عن إتهام الجميع بالفساد.
    كما أن لزوم التنبيه عن الفساد أوجب بمن رآه وله عليه بينه من وجوبه على أي مفتي أو عالم لم يره وله عليه بينه

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..