المقالات والآراء

 ما وراء خلاف ترامب ونتنياهو

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.

شهدت العلاقة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحولًا جذريًا، تجاوز مجرد التباين في وجهات النظر ليصبح تصادمًا حادًا أظهر تراجعًا غير مسبوق في الدعم الأمريكي لإسرائيل. لم يعد الحديث عن تحالف غير قابل للكسر ينسجم مع الوقائع، بل بات يعكس صراع إرادات وتغيرًا في الأولويات الأمريكية يضع نتنياهو في موقف لا يُحسد عليه.

تجلت الشرارة الأولى لهذا الصدام في اكتشاف ترامب أن نتنياهو تجاوز البروتوكولات السيادية بتواصله سراً مع مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايك والتز، للتحضير لضرب إيران دون علمه. هذا التجاوز لم يكن مجرد خرق دبلوماسي، بل كشف عن محاولة سافرة لفرض أجندة إسرائيلية على السياسة الخارجية لواشنطن، ما أثار غضب ترامب الشديد. هذه الواقعة لم تكن حادثة عابرة، بل أكدت لترامب أن العلاقة لم تعد تقوم على شراكة متوازنة، بل على محاولات إسرائيلية متكررة للعب دور الرئيس في العلاقة، وهو ما يتنافى مع مبدأ (أمريكا أولاً) الذي يتبناه ترامب.
الرد الأمريكي جاء حاسماً، تمثل في عزل مستشار الأمن القومي فوراً، وبدء الضغط المكثف على نتنياهو لإنهاء حرب غزة. هذا التحرك لم يكن مجرد رد فعل، بل إشارة واضحة بأن زمن الشيكات على بياض قد انتهى، وأن سيادة القرار الأمريكي ليست محل تفاوض، وأن ترامب عازم على استعادة كامل السيطرة على دفة السياسة الخارجية الأمريكية، حتى لو كان ذلك على حساب حليف تقليدي.

لم تقتصر الأخطاء على نتنياهو وحده، بل امتدت لذراعه اليمنى، رون ديرمر. ففي محاولة يائسة لاستعادة الدعم وتغيير موقف ترامب من حرب غزة والملف النووي الإيراني، قام ديرمر بالتواصل مع نواب الحزب الجمهوري، لكن بلهجة آمرة أثارت استياءهم الشديد. هذا الخطأ الدبلوماسي الفادح لم يقوض جهود نتنياهو فحسب، بل دفع بالنواب الغاضبين إلى إقناع ترامب بضرورة تقليل الدعم المقدم لنتنياهو، ليصبح ديرمر عاملاً مسرعاً في تدهور العلاقة، بدلاً من ترميمها. هذا يعكس ضعفاً في فهم ديرمر، وبالتالي نتنياهو، للديناميكيات الداخلية المعقدة للداخل الأمريكي.

الخلافات لم تكن محصورة في الكواليس الدبلوماسية، بل امتدت لتطال مجلس الحرب الإسرائيلي نفسه. فبينما كان قادة الجيش الإسرائيلي يميلون إلى عقد صفقة لتبادل الأسرى وإنهاء الحرب، إدراكاً منهم لتكاليفها البشرية المتزايدة وتآكل الدعم الشعبي، أصر نتنياهو على الاستمرار في الحرب حتى لو على حساب الأسرى. هذا الموقف المتشدد، الذي يعكس أولويات سياسية وشخصية لنتنياهو تتجاوز في بعض الأحيان الاعتبارات الأمنية البحتة، أدى إلى انسحاب أعضاء مجلس الحرب ثم إقالة وزير الدفاع، ما أحدث فراغاً أمنياً وسياسياً خطيراً في قلب الصراع. هذا التصدع الداخلي في القيادة الإسرائيلية لم يغب عن ترامب، الذي استغله لتعزيز موقفه.

بناءً على هذه التوترات، اتخذ ترامب سلسلة من القرارات الجريئة وغير المتوقعة التي أكدت أن المصالح الأمريكية هي الأولوية القصوى، حتى لو جاء ذلك على حساب حليف تقليدي كإسرائيل. لقد تجاوز ترامب الخطوط الحمراء الإسرائيلية المعتادة، مبيناً بشكل لا لبس فيه من هو صاحب القرار النهائي في هذه العلاقة المعقدة. لم تكن هذه القرارات مجرد تكتيكات، بل تعكس دوافع عميقة لدى ترامب لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي بما يخدم مصالح أمريكا أولاً، ورغبته في إنجاز صفقة القرن بنسخة جديدة تُسجل باسمه، حتى لو تعارضت مع الأجندة الإسرائيلية.
فجاءت قراراته لتشمل:
1/ التصالح مع الحوثيين دون الرجوع لنتنياهو: هذا التحول الاستراتيجي أشار بوضوح إلى أن اهتمامه ينصب على حماية المصالح الأمريكية، خاصة السفن التجارية في البحر الأحمر، وهو ما يعني تراجعاً للدور الأمريكي في حماية إسرائيل من صواريخ الحوثيين، وإعادة توجيه للموارد نحو الملاحة الدولية.
2/ إلغاء فكرة ضرب المنشآت النووية الإيرانية واستبدالها بالمفاوضات المباشرة: صرح ترامب بأنه لا يريد حروباً إضافية في المنطقة، وأن حروباً كغزة وأوكرانيا والسودان والهند وباكستان كافية. هذه الخطوة تمثل تراجعاً عن نهج التصعيد العسكري وتبني الدبلوماسية كوسيلة لتحقيق الأهداف الأمريكية مع إيران، ما وضع نتنياهو في مأزق استراتيجي، ويعكس رغبة ترامب في تخفيف التزامات أمريكا العسكرية في الشرق الأوسط.
3/ التفاوض المنفرد مع حركة حماس: في خطوة غير مسبوقة، أجرى ترامب مفاوضات مباشرة مع حماس، نتج عنها موافقة الحركة على نزع السلاح مقابل الاستمرار في حكم غزة بعد الحرب. هذه الخطوة تكشف عن براغماتية ترامب القصوى، ورغبته في إيجاد حلول خارج الأطر التقليدية التي طالما قيدت السياسة الأمريكية في المنطقة، حتى لو كان ذلك على حساب الإملاءات الإسرائيلية، وتُشير إلى استعداده للاعتراف بواقع جديد على الأرض.
4/ تجاوز ملف التطبيع السعودي مع إسرائيل: مؤكداً على أولوية مصالح بلاده، أشار ترامب إلى استعداده للاعتراف الأمريكي بدولة فلسطين دون الحاجة لتطبيع سعودي مع إسرائيل، إذا كان ذلك يخدم المصالح الأمريكية. هذا يمثل تراجعاً عن أحد أهم أهداف نتنياهو الخارجية، ويؤكد أن صفقة القرن لم تعد أولوية لترامب بنفس الشكل الذي يرضي تل أبيب، بل أصبحت جزءاً من رؤيته الأشمل التي تضع المصالح الاقتصادية الأمريكية في المقام الأول.

هذه القرارات الحاسمة لم تكن بمعزل عن رغبة ترامب في الاستفادة من الصفقات الهائلة مع السعودية وقطر والإمارات، والتي تقدر بحوالي 2 تريليون دولار، مقابل إنهاء الحرب في غزة. هذا المبلغ، الذي يفوق ضعف حجم التجارة الأمريكية التي تمر عبر بحر الصين الجنوبي، يمثل حافزًا اقتصاديًا هائلاً لترامب، ويضع حجم المصالح المالية في مقابل المصالح الأمنية لإسرائيل، كاشفاً عن معادلة جديدة في المنطقة حيث الاقتصاد يطغى على التحالفات التقليدية. وفي خضم هذه الديناميكية، جاءت زيارة ستيف ويد كوف، مبعوث ترامب للشرق الأوسط، إلى إسرائيل ولقائه بعائلات الأسرى في غزة. رسالة كوف كانت واضحة وصادمة، موجهة مباشرة إلى الرأي العام الإسرائيلي ومخاطبة أعمق مخاوفه وهي أن هذه الحرب الجارية الآن هي التي سوف تدفع بأبنائكم للمحرقة. يجب على نتنياهو إيقاف هذه الحرب حتى نستطيع أن نعيد لكم أبناءكم. هذه الضربة النفسية لنتنياهو من قلب إسرائيل، تهدف إلى زيادة الضغط الداخلي عليه لإنهاء الحرب وتقويض شرعيته، محملة إياه مسؤولية مباشرة عن مصير الأسرى ومُهددة بتآكل قاعدته الشعبية.

تبعت ذلك التطورات إخطار مصر وقطر بموافقة ترامب على حكم حماس لغزة بعد الحرب، ولكن بشرطين مهمين الأول، الإفراج عن عشرة أسرى إسرائيليين مقابل هدنة لمدة سبعين يوماً. والثاني، نزع سلاح حماس مقابل ضمانات أمريكية بانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، وحماية قادة الحركة من الاغتيال، ودخول المساعدات. كان رد حماس، عبر الوسطاء، هو الإفراج عن جميع الأسرى، وليس عشرة فقط، مقابل شروط شاملة تتضمن قبول حماس بنزع السلاح على أن يحتفظ به الوسطاء (قطر ومصر)، ووقف تدريب مقاتليها وأنشطتها العسكرية، وإيقاف حفر الأنفاق والتصنيع وتهريب السلاح، مقابل إنهاء الحرب للأبد، وتحويل شرطة حماس إلى أجهزة أمنية يتم توزيعها في غزة، وإفراج إسرائيل عن الأسرى الفلسطينيين، وبدء إعادة الإعمار، وتوفير حل سياسي.

في مواجهة هذا الاتفاق المحتمل، كان الالتزام الأمريكي واضحاً في حال رفض إسرائيل لهذه الاتفاقية، سترفع واشنطن يدها بالكامل عن الجيش الإسرائيلي. رد نتنياهو الأولي كان بالإصرار على مواصلة الحرب في غزة وضد الحوثي وإيران، لكن التحليل العميق يشير إلى أن إسرائيل لن تتمكن من مواصلة الحرب وحدها. بتكلفة 70 مليار دولار في حرب غزة وحدها، وعجز في الموازنة بقيمة 40 مليار دولار، واعتمادها شبه الكلي على السلاح الأمريكي، فإن قدرتها على الاستمرار في حرب متعددة الجبهات (غزة، لبنان، اليمن، إيران) دون الدعم الأمريكي تصبح مستحيلة.

لقد كشفت هذه الأحداث عن تغير جذري في استراتيجية ترامب تجاه الشرق الأوسط، حيث أصبحت المصلحة الأمريكية المباشرة هي المحرك الأساسي للسياسة الخارجية، حتى لو تطلب ذلك تجاوز حلفاء تقليديين. لم يعد نتنياهو يتمتع بشيك على بياض من واشنطن، بل أصبح في موقف تفاوضي صعب، يواجه فيه ضغوطاً أمريكية داخلية وخارجية غير مسبوقة. إن مستقبل العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، ومسار الصراع في غزة، باتا يعتمدان على مدى استعداد نتنياهو للتكيف مع هذه الحقائق الجديدة أو مواجهة عواقب العزلة الاستراتيجية التي قد تُغير وجه المنطقة إلى الأبد وتُنهي فعليًا مفهوم التحالف غير القابل للكسر الذي طالما حكم العلاقة بين البلدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..