الاستهداف الغربي : بين الفعل السوداني ورد الفعل الدولي

نبيل منصور
القول بأن الغرب “يستهدف” السودان بشكل متعمد ومنفصل عن سياق أفعاله الداخلية، يعكس فهماً قاصراً لطبيعة العلاقات الدولية. فالعداء لا يُنشأ من فراغ، وردود الفعل الغربية كانت – غالباً – استجابة مباشرة أو استغلالية لأخطاء سياسية كارثية ارتكبها النظام السوداني نفسه.
السودان، خصوصاً في تسعينات القرن الماضي، لم يكن مجرد دولة ذات توجه “إسلامي متطرف”، بل تحوّل إلى منصة مفتوحة لكل من يحمل أجندة صدامية مع العالم : من كارلوس، إلى بن لادن، إلى دعم علني لجماعات مثل القاعدة وحماس، ودول مثل ايران. هذه السياسات لم تكن مجرد تحدٍ أيديولوجي، بل إعلان صريح لحرب على النظام الدولي. فهل يُعقل أن تستقبل دولة فقيرة وناشئة كل خصوم النظام العالمي، ثم تشتكي من الحصار والعزلة؟
كما أن استضافة الإرهاب لم تكن وحدها المشكلة، بل كانت مصحوبة بخطاب استعلائي وتكفيري تجاه الآخر، وسعي للتدخل في شؤون الجيران (إريتريا، إثيوبيا، تشاد، مصر)، مما جعل السودان في نظر المجتمع الدولي خطراً عابراً للحدود.
إذن هل السودان مستهدف من الغرب؟
وللإجابة على ذلك لا بد من تجاوز الخطابات الدعائية التي تكرس لفكرة المؤامرة، والنظر إلى تاريخ العلاقة بين السودان والغرب بواقعية. فالعلاقات السودانية الغربية شهدت مدًّا وجزرًا، كانت في كثير من الأحيان انعكاسًا مباشرًا لخيارات النخب السودانية، لا لسياسات غربية ممنهجة تستهدف السودان لهويته أو موارده كما يروّج البعض.
خلافًا لما يروجه الإسلاميون، فإن الغرب لم يكن يومًا سببًا مباشرًا في أزمات السودان، بل كان في أحيان كثيرة أحد الداعمين لفكرة الانتقال المدني والديمقراطي، خاصة بعد ثورة ديسمبر 2018م. وقد ظهر هذا في:
• الدعم السياسي والدبلوماسي المتواصل لقوى الثورة من الاتحاد الأوروبي، والترويكا (أمريكا، بريطانيا، النرويج)، والأمم المتحدة، في سبيل الوصول إلى نظام مدني مستقر.
• رفض الغرب المتكرر لانقلابات العسكر، بدءًا من انقلاب 25 أكتوبر 2021م، حيث أوقفت واشنطن والبنك الدولي المساعدات، وفرضت بعض الدول قيودًا دبلوماسية على السلطة الانقلابية.
• استمرار الضغط الغربي حتى اليوم لرفض عسكرة الدولة، ودعم مشاريع العدالة الانتقالية والمحاسبة.
في المقابل، تبنّى نظام الإنقاذ خطًا عدائيًا تجاه الغرب، ليس دفاعًا عن الدين، بل لحماية سلطته. فاستضاف جماعات إرهابية مطلوبة، وارتبط اسمه بعمليات مثل:
• تفجير السفارة الأمريكية في نيروبي ودار السلام (1998م)،
• وتفجير المدمرة الأمريكية كول (2000)،
• وتقديم دعم لوجستي وتنظيمي لعدد من الجماعات المصنفة إرهابية، مما جعله دولة منبوذة دوليًا.
إذن الاستهداف الغربي ليس ناتجاً من شهية استعمارية بحتة، بل من:
• فعل داخلي متهور أو غبي جعل السودان هدفاً سهلاً.
• فراغ سياسي مزمن يُغري الأطراف الخارجية للتدخل.
• نخب فاقدة للبوصلة لم تستطع قيادة أو حتى توجيه السودان لبر الأمان رغم مرور ما يقرب من السبعين عامًا على استقلال السودان.
الاعتراف بهذه الحقائق لا “يُبرئ الغرب”، لكنه يمنحنا الوعي الذي نحتاجه لتجنّب إعادة إنتاج نفس الكارثة.
تفنيد الروايات الإسلاموية عن الاستهداف:
الإسلاميون روجوا ولا زالوا يروجون لفكرة أن الاستهداف الغربي كان بسبب تمسكهم بالدين لكن هذا ادعاء يتناقض مع سلوكهم :
• لم يكن النظام نموذجًا دينيًا بل استخدم الدين غطاءً للفساد والقتل وإرتكاب انتهاكات جسيمة في حق السودانيين وفي غيرهم.
• الاستهداف السياسي الذي وُوجه به النظام كان رد فعل مباشر على دعمه للإرهاب، وليس عقوبة على تدين مزعوم.
أما فكرة أن السودان مستهدف بسبب ثرواته فهي مبالغ فيها، فلو كان ذلك صحيحًا:
لماذا لم يُستهدف الخليج، وهو أغنى من السودان بمراحل؟ الإجابة ببساطة لأن الخليج لم يكن مصدر تهديد أمني بالنسبة للغرب كما فعل السودان في التسعينيات.
ولماذا لم نرَ شركات غربية كبرى منذ مدة طويلة والي اليوم تستثمر أو تسيطر على الذهب أو النفط السوداني؟
في الواقع، فإن الدول الغربية لم تكن هي الأكثر حضوراً اقتصادياً في السودان، بل كانت الصين وروسيا والإمارات وماليزيا. فالغرب لم يدخل للاستثمار في السودان بنفس الثقل أو الطمع المزعوم، وهو ما يضعف حجة أن ثروات السودان وحدها هي سبب الاستهداف.
قد يكون بعض الفاعلين الغربيين قد استثمروا سياسيًا في هشاشة السودان، لكنهم لم يصنعوا الأزمة، ولم يستفيدوا اقتصاديًا منها كما تفعل قوى إقليمية أخرى.
الغرب لم يصنع الأزمة لكنه استثمر فيها
وهنا تأتي المفارقة : الغرب لم يصنع الجنون السياسي السوداني، لكن يمكننا القول إنه حاول ويحاول أن يوظفه لصالحه. لم يحتج إلى مؤامرات عميقة أو خطط سرية، فقط استثمر في فشلنا المتكرر:
• في بناء دولة وطنية متماسكة.
• في إدارة التنوّع.
• في توحيد القوى السياسية حول مشروع وطني جامع.
والسؤال المهم الذي نطرحه بذكاء : لماذا لم يُستهدف جيران السودان بنفس الطريقة؟
الإجابة ببساطة : لأنهم، رغم أزماتهم، لم يجعلوا أنفسهم عرضة للاستخدام كمنصة تهديد للنظام العالمي، ولم يُغلقوا أبوابهم أمام الإصلاح الداخلي إلى حد المواجهة العدمية مع العالم.
ولو هناك مكاسب حقيقية قد يكون حصل عليها الغرب – إن صح التعبير – كانت سياسية أو أمنية: تقليل الهجرة غير الشرعية، خفض التهديدات الإرهابية، محاولات تحسين صورة حقوق الإنسان.
علي الاقل هذا ما يقوله وهذا ما شاهدناه لا. وهناك أدلة وشواهد كثيرة تأكد ذلك اهمها الحقيقة الاتية:
الغرب – اقتصاديًا – لا يُدار من خلال الحكومات وحدها، بل من خلال شركات ومؤسسات كبرى تبحث عن الربح والاستقرار. وهذه الشركات لن تخاطر بأموالها في دولة تعاني من:
• نزاعات مسلحة وانقلابات متكررة،
• غياب الشفافية القانونية،
• ضعف المؤسسات البنكية والقضائية،
• فساد إداري وعدم وضوح في السياسات الاقتصادية.
الاستثمار يحتاج بيئة مستقرة وآمنة، وهذا ما يفتقده السودان منذ عقود، لذلك فضّلت الشركات الغربية الابتعاد، وترك الساحة لقوى أخرى (مثل الصين وروسيا والإمارات) التي تتعامل بعقليات مختلفة، بعضها أقل اكتراثًا بالشفافية أو الديمقراطية.
بل إنّ بعض الاستثمارات الغربية القليلة التي حاولت الدخول في السابق (مثل بعض شركات النفط أو الاتصالات) انسحبت لاحقًا بسبب التدهور الأمني أو ضعف البنية التحتية والبيروقراطية الطاردة.
إذن، الغرب لا يختبئ خلف شعارات الاستهداف، بل يُفكر بمبدأ بسيط:
هل هذه الدولة تضمن أموالي واستثماراتي؟
وفي حالة السودان، الجواب – للأسف – كان ولا يزال : لا.
خلاصة القول :
لا الغرب بريء تمامًا، ولا هو شيطان أزلي. ولكن تحميله كامل المسؤولية هو هروب من الحقيقة . فالسودان أضعف نفسه بنفسه، وترك الباب مفتوحًا لكل من أراد أن يعبث به، سواء كان من الشرق أو الغرب أو حتي من الجيران ضعيفهم وقويهم . باختصار لكل من هب ودب ان جاز التعبير .وقد آن الأوان لأن نكفّ عن تعليق فشلنا على مشجب “المؤامرة الخارجية”، ونبدأ في محاسبة الداخل أولاً. بدلاً من أن نحاول إختلاق “عدو خارجي” وادعاء “استهداف بسبب الدين أو الثروة” كمحاولة لتبرئة الذات مما نرتكب من جرائم وفظائع وفضائح.