مقالات سياسية

السودان وإدمان الحروب الداخلية: دعوة للتسامح والنهوض

د. أحمد الضي

تعقيب وتحرير: د. أحمد التيجاني سيد أحمد

يُعد السودان من أغنى دول القارة الأفريقية من حيث الموارد الطبيعية والتنوّع السكاني والثقافي. وتبلغ مساحته الشاسعة أكثر من ١.٨ مليون كيلومتر مربع، ويتنوع فيه النسيج البشري من حيث الأعراق والديانات واللهجات. كما تتوفر فيه أراضٍ زراعية خصبة، وثروات معدنية وباطنية وحيوانية هائلة. ومع هذا الثراء، ما يزال السودان حبيس الفقر والجهل والمرض والحروب العبثية التي لم تهدأ منذ فجر الاستقلال عام ١٩٥٦.

لقد ابتُلي السودان بعقلية نخب مركزية توارثت السلطة والثروة، وأعادت إنتاج عقلية المستعمِر بأسوأ صورها. فعلى الرغم من أن المستعمر غادر البلاد بعد أن ترك بنية تحتية مهمة من طرق وسكك حديد، وجامعات ومشروعات قومية كبرى (مثل مشروع الجزيرة)، فإن النخب الوطنية التي تولت الحكم لم تبنِ على هذا الإرث، بل دمرته تدريجياً وأدمنت الفشل والفساد، كما وصف ذلك المفكر الراحل د. منصور خالد.

وفي العقود الأخيرة، وبخاصة خلال الثلاثين عامًا الماضية، أعادت هذه النخب إنتاج الجاهلية الأولى، عبر ترسيخ القبلية والعنصرية والجهوية والمحسوبية، وصياغة خطاب كراهية أفضى إلى تمزيق البلاد وتشظيها. وكان انفصال جنوب السودان عام ٢٠١١ نتيجة مباشرة لغياب المعالجات الجذرية لأسباب الأزمة الوطنية: من غياب العدالة الاجتماعية، إلى انعدام التنمية المتوازنة، وانسداد أفق العقد الاجتماعي، وغياب الدستور القومي الذي يجيب عن سؤال: “كيف يُحكم السودان؟”

ولم تتوقف الحروب بانفصال الجنوب، بل انتقلت إلى دارفور عام ٢٠٠٣، ثم إلى كردفان، والنيل الأزرق، وأخيرًا إلى شرق البلاد، حتى بات السودان بأسره هامشًا منسيًا، بما في ذلك العاصمة القومية التي تعاني اليوم من العطش وتدهور الأمن والخدمات. وقد توج هذا المسار المأساوي بالحرب الكارثية التي اندلعت في ١٥ أبريل ٢٠٢٣، وأكدت أن كل رقعة من السودان باتت مستهدفة بالعنف والتمزيق.

في هذا السياق، يطرح الدكتور أحمد الضي سؤالاً جوهريًا: لماذا يرزح بلد غني ومتنوع مثل السودان تحت نير الحروب والمجاعات والأمية والتخلف؟

الإجابة لا تقتصر على صراع مسلح بين فصيلين، بل تتجاوز ذلك إلى عمق البنية العقلية السياسية التي تحكمت في مصير البلاد؛ عقلية سلطوية إقصائية مستعلية، حولت السودان إلى ساحة تناحر بين نخب متغوّلة، وهمّشت المواطن، حتى صار هو الحطب في معارك لا تعنيه.

لقد قدّم الدكتور الضي تحليلًا شاملًا ومتماسكًا، متحررًا من الانحياز الجهوي أو الإثني، وطرح مشروعًا وطنيًا جامعًا يستند إلى الاعتداد بالتراث السوداني الأصيل: التراث الكوشي، النيلي، الحامي، البانتو، والسامي العربي، كمرتكزات لبناء سودان جديد. وهو بذلك يدعو إلى استنهاض الوعي الجمعي لتجاوز الانغلاق المحلي، والانطلاق نحو مشروع وطني جديد يقوم على المبادئ التالية:

– التوزيع العادل للسلطة والثروة. 
– إنهاء النظام الشمولي وبناء دولة مدنية ديمقراطية. 
– إعادة صياغة العقد الاجتماعي بمشاركة كافة المكونات السودانية. 
– إدارة التنوع بإيجابية، ودمجه في وحدة وطنية خلاقة. 
– ترسيخ العدالة الاجتماعية وتحقيق التنمية المستدامة. 
– بناء دستور دائم يُستفتى عليه ويعبر عن الجميع. 
– اعتماد عقلية تنافسية حرة تقوم على مبدأ (رابح / رابح) لا (خاسر / رابح).

وفي خضم الانقسامات السياسية القائمة بين كتلة “الصمود” وتحالف “التأسيس”، تظلّ الدعوة الملحة هي: هل آن الأوان للأمة السودانية أن تستيقظ من سباتها، وتوحّد القيادة والإرادة والريادة؟

ختامًا، فإن هذا النوع من الطرح لا ينبغي أن يُقرأ كتحليل سياسي فحسب، بل كدعوة جادة للتفكر والتجديد، لبناء مشروع وطني يليق بتاريخ السودان وإمكاناته.

فهل نُبصر الضوء في آخر النفق؟

إضافة وتعقيب:

لعل الشمولية التي انتهجها الدكتور أحمد الضي في تحليله تشكّل دفعة قوية لتحفيز كل من ضاق أفقه الجهوي، إلى تبني نظرة أوسع وشاملة نحو السودان — نظرة تنبع من الداخل، وتعتد بالتراث السوداني العميق المتنوع، باعتباره مصدرًا للقوة لا للتفرقة.

لقد قدّم قراءة واعية، بعيدة عن التحيّز، لتشريح الفرص التي أهدرتها نخب ما يُعرف بدولة الاستقلال (١٩٥٦)، تلك النخب التي استوطنت البلاد وأعادت إنتاج الفشل، وهي تلهث خلف شعارات عروبية إسلاموية جوفاء. شعارات انتهت بتخريب منظومة التعليم عبر تعريب المناهج، وبتدمير الإرث الإداري والمؤسسي الذي تركه المستعمر، من خدمة مدنية قوية، وجيش وشرطة مهنيين، إلى تعليم وصحة رائدين في محيطهم.

إن تحليل الدكتور الضي ليس مجرد عرض تاريخي، بل مرآة للواقع، ودعوة جادة لدعم المشروع الوطني  التأسيسي بقواعد جديدة.

د. أحمد التيجاني سيد أحمد

٢٧ مايو ٢٠٢٥ روما- نيروبي 

تعليق واحد

  1. – التوزيع العادل للسلطة والثروة.
    – إنهاء النظام الشمولي وبناء دولة مدنية ديمقراطية.
    – إعادة صياغة العقد الاجتماعي بمشاركة كافة المكونات السودانية.
    – إدارة التنوع بإيجابية، ودمجه في وحدة وطنية خلاقة.
    – ترسيخ العدالة الاجتماعية وتحقيق التنمية المستدامة.
    – بناء دستور دائم يُستفتى عليه ويعبر عن الجميع.
    – اعتماد عقلية تنافسية حرة تقوم على مبدأ (رابح / رابح) لا (خاسر / رابح).

    تسلم ايدك لك التحية والتقدير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..