بلاغ البرهان رقم صفر: ضد اللساتك وضد الذاكرة

“تفسير حلم أن تكون في وطنك ولا تملك عنوانًا”
اللوحة السريالية المعدلة
إبراهيم برسي
رأيتُ في ما يرى النائم، أن عبد الفتاح البرهان زارني.
جاءني كما يأتي البلاء: بصمتٍ عسكري، وملامح لا تحمل أي معنى خارج البلاغ رقم واحد،
وكان معه فكي جبريل، إلا أنه كان مختبئًا بالخارج، يحمل في جيب جلابيته فارغ بارود الطلقة الأولى.
كنت في المطبخ حينها، أقف على حافة الصباح،
أعدّ قهوتي بهدوء المساكين الذين لم يتيقنوا بعد إن كانت هذه البلاد حيّة أم في غيبوبة.
النار وادعة، ورائحة القهوة تتصاعد بخشوع،
لكن حضوره — كما فعل في الخرائط — أفسد التوقيت.
دخل عليّ رئيس مجلس سيادة مدينة السواحل المعروضة للبيع.
لم يدخل كضيف،
دخل كفكرةٍ سيئة في كتاب فيلسوفٍ ندم على نشره.
كان يرتدي بزّةً مصنوعة من ورق الصحف الرسمية.
كلما تحرّك، سقطت منها جملة:
“نحن نحمي الدولة من شعبها.”
فارت القهوة تدفقت علي الموقد.
قال لي وهو يبتسم كما تبتسم الأسلاك الكهربائية قبل أن تصعقك: حلم أبي لا يريد ان يتحقق.
نسيت أن أذكر أنه عندما دخل، كان بيده جهاز تحكم تشويش للطائرات صغير الحجم،
يحاول جاهدًا أن يعرف طريقة تشغيله،
وفي عينيه دمعة… لم تُخلق للحزن، بل للإخراج المسرحي.
و كان بجانبه التوم هجو، إلا أن التوم كان مشغولًا بإخراج جزء من سرواله انحشر بين أليتيه،
وكأن القماش قرر أن يخوض تجربة وجودية، متأملًا عبثية الحياة في أضيق زوايا الجسد.
فرغ التوم هجو من مهمته، ثم سأل البرهان:
“هل سقطت المسيّرة على وزارة الداخلية أم على شجرةٍ بلا جذور؟”
أجابه البرهان:
“لا يهم، المهم أن الرسالة قد وصلت.”
تذكّر التوم ذلك الحذاء النسائي الذي طاح علي وجهه،
فهتف بأعلى صوته حتى أصابني بالذعر:
“الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع.”
مسحت عن وجهي الرزاز الذي تطاير من فمه، ثم جلستُ على الكنبة.
قال لي البرهان، بصوتٍ يشبه نشرة إخبار كاذبة تتخللها خُطب ياسر العطا ومحمد الجزولي:
“البلاد لا تنهض بحرق اللساتك.”
قلت له وأنا أمسح القهوة التي تدفقت على الموقد:
“ولا تنهض بالبندقية يا جنرال الغفلة، وهي مصوّبة إلى القلب.”
ابتسم ابتسامة من لا يعرف معنى القلب،
ابتسم كما يبتسم القاتل حين يُطلب منه أحد أن يعتذر.
وغاب.
غيّر فكي جبريل من مكانه تحت الشجرة،
لأن شبكة إرسال الهاتف كانت ضعيفة هناك، وهو يتحدث ويراقبنا.
فجأة، اختفى الاثنان، ولاح شبح سناء حمد، ثم تبخّر،
لكن الريح التي خلّفها كانت نتنة بما يكفي لإصابة الهواء بالغثيان.
تنفست الصعداء،
دخلت الريح النتنة رئتي، فأصابتني بالغثيان..
خرجت أسقي الزرع في الحوش الخلفي، وأُخلّص رئتي من الرائحة،
فعاد البرهان، بينما التوم هجو جلس على الكنبة، ومدّد ساقيه طويلًا كظل لا ينتهي.
كان البرهان يمشي كما تمشي الذاكرة حين تفقد الطريق والبوصلة.
لم يقل شيئًا في البداية، فقد كانت النبتات أكثر لباقة منه.
ثم نطق بصوت نَكِرة:
“دخان اللساتك يشوّه صورة الدولة.”
قلت:
“الدولة؟ هي التي شوّهت صورة البلاد يا سيدي، ونحن فقط نرفع المرآة.”
سكت. ثم سألني:
“أين الوطن إذن؟”
قلت:
“الوطن احترق… حين ظننتم أن اللساتك جريمة، وأن الرصاصة حُكم.”
ثم اقترب مني هامسًا — كأنما لا يريد للتاريخ أن يسمع —
وقال بشيء من الحنين:
“أنا فقط… كنت أحاول أن أحقق حلم والدي.
فقد قال لي ذات يوم:
يا ولدي، سيكون لك شأن عظيم في البلد.”
نظرت إليه طويلًا.
كانت عيناه ترتجفان بحنينٍ مستعار، كما لو أنه يحلم بالحكم ويخافه.
فقلت:
“لكن الحلم الذي ورثته، صار كابوسًا عامًا لكل من مرّوا تحت خُطاه.”
كان البرهان، في تلك الزيارة،
أشبه بتقرير أمني فقد صفحته الأولى،
لا يعرف لماذا أتى، ولا كيف يخرج.
قلت له، وأنا أروي جذور الشجر:
“الذين أشعلوا اللساتك، لم يريدوا أن يحرقوا البلاد،
بل أرادوا أن يُنيروا ما أطفأته البنادق.”
توقّف، نظر إلى الماء يسيل على التراب، ثم قال بصوت متردد:
“لكننا خرجنا ببلادنا من الظلام.”
ضحكت، لا على النكتة،
بل على الرجل الذي ظن أن الرصاصة ضوء،
وأن من أشعل شمعةً على الأسفلت، هو السبب في الظلام.
اختفى البرهان فجأة، فارتبك التوم هجو، ونهض على عجل،
نهض بصعوبة من على الكنبة،
فانحشر سرواله مرةً أخرى بين أليتيه، ساحبًا معه جزءًا من قماش جلابيته،
وصار السروال بين خيارين كلاهما مر، وأصبح ضحيةً لتوترات الجسد.
أبعدت وجهي سريعًا، والتفتُّ نحو شباكٍ يطلُّ على ساحةٍ يُجلد فيها الموظفون القدامى لأنهم لم يُجددوا ولاءهم للشيخ الورع.
وكان الناس في الشارع، يجمعون أشلاءهم في أكياسٍ بلاستيكية، ويبحثون عن ياسر العطا…
فسقطت مني دمعة كنت أحتفظ بها للمشهد الأخير.
انتبهت لأثر حذاء البرهان العسكري على البلاط.
لم يكن وحلًا، بل كان شيئًا أثقل:
بصمة من ركام، أو بقايا خيانةٍ عابرة.
غسلت الأرض،
أعدت غلي القهوة،
وتأكدت أن الوطن — رغم كل شيء —
لا يزال يعرف الفرق بين دخان اللساتك، ودخان البندقية.
لكن البرهان لا يعرف.
نزلت إلى الطابق الأرضي. جلست لأكتب،
لكن اللغة كانت مشغولة بالبكاء على قارعة البيان العسكري.
غفوت على مقعدي.
وعندما استيقظت،
كان البرهان نائمًا على سريري،
وفي يده زجاجة فارغة لمشروب كحولي محلي الصنع،
وجهاز تحكم لتشويش الطائرات المسيّرة،
لكن بطارياته تحتاج إلى تغيير.
في الخارج،
عربة إسعاف تتوقف فقط إن تأكدت أن الجريح لا يتبع جهة غير مرغوبة.
في السماء،
المسيّرة تسأل عن الحدود بين الفكرة والجثة.
وفي نشرة الأخبار:
الجيش يعلن السيطرة على الأجواء،
واللغة تعلن انسحابها من البيان.
ومن أنا؟
أنا المواطن،
الذي تأخر عن الطائرة،
حقيبة بلا تذكرة،
جملةٌ نسيتها اللغة،
حين قررت الهجرة إلى “جهة محايدة”.
أنا المواطن،
الذي نام مرةً على أمل أن الغد سيبدأ،
فأيقظته المسيّرة،
لا بخوف،
بل بسؤال:
“هل الحلم قابل للقصف؟”