مقالات سياسية

صناعة الأعداء في السودان

نبيل منصور

من السهل أن نُسند تهمة الانهيار السوداني إلى العسكر وحدهم، أو إلى الميليشيات، أو إلى النخب السياسية. لكن الأصعب – والأهم – أن نتساءل: كيف ساهمنا جميعًا، بمستويات مختلفة، في صناعة هذا الانهيار؟ هذا المقال يحاول تتبّع مسار صناعة “العدو” في المخيلة السودانية، سواء أكان هذا العدو سياسياً أو إثنياً أو جهوياً أو حتى اجتماعياً. نرصد دور الدولة، والنخب، والمواطنين، في صناعة خطوط الكراهية والانقسام التي انفجرت اليوم في شكل حرب شاملة.

فمنذ الاستقلال، لم تُبْنَ الدولة السودانية على قاعدة التعدد والاعتراف. بدلاً من ذلك، تشكّلت على منطق الهيمنة، حيث احتكرت فئة صغيرة الموارد والسلطة والهوية الثقافية. فصار كل من لا ينتمي إلى المركز النيلي يُعامل كـ”آخر”.

مثلا في المناهج التعليمية، غُيّبت تواريخ وثقافات الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، مما جعل الأجيال الجديدة ترى في هذه المناطق غُرباء لا شركاء في الوطن. وحين اندلعت التمردات، لم تكن هناك إرادة سياسية للمعالجة الجذرية، بل تم اختزال كل حركة مطلبية في كونها تمردًا مسلحًا. هكذا صنعت الدولة المركزية “عدوًا مبررًا” يبرر القمع.
بالتالي، لم تُبْنِ السياسة السودانية على “مشروع”، بل على “مَن نرفضه؟”.
فكان العدو هو الجنوبي، ثم الشيوعي، ثم الأنصاري، الختمي ثم الإسلاموي، ثم “الجلابي”، ثم ” الغرابي “، ثم الدعم السريع، ثم البرهان…
في كل مرة، كان العدو هو الركيزة، لا الرؤية.

أولًا: في عهد الأحزاب – الطائفية وصناعة العدو من الداخل

منذ بداية ما بعد الاستقلال، سيطرت الأحزاب الطائفية – خاصة “الأمة” و”الاتحادي الديمقراطي” – على الحياة السياسية، لا استنادًا إلى برامج واضحة، بل إلى الزعامة الدينية والانتماء الطائفي.

ملامح صناعة العدو:

الولاء لا البرنامج: انقسم المجتمع إلى “أنصاري” و”ختمي”، لا وفقًا لبرامج أو مصالح، بل حسب الولاء للطائفة. هذا الانقسام جعل الطرف الآخر “ضدنا” بشكل تلقائي، وليس “مخالفًا يمكن التحاور معه”.
الخطاب الإقصائي: كان يُنظر إلى أنصار الحزب الآخر كأعداء، وليس كمواطنين يشاركون في الوطن.
إقصاء القوى الحديثة: الأحزاب الطائفية وقفت موقفًا معاديًا للقوى الصاعدة من الطلاب والنقابات ، مما رسّخ انقسامًا حادًا بين “الأصالة الطائفية” و”الحداثة المعادية”، فتم تصوير هذي القوي كخطر على الدين والمجتمع.

ثانيًا: الإسلاميون – صناعة العدو الأيديولوجي والديني

منذ دخول الإسلاميين الساحة بقوة خاصة بعد السبعينيات، ثم استيلائهم على الحكم بانقلاب 1989، كانت صناعة العدو هي جوهر مشروعهم السياسي والفكري. لم يكن مشروعهم قائماً على الشراكة الوطنية، بل على “التمكين” وإزاحة كل مخالف.

• ملامح صناعة العدو:

العدو الشيوعي والعلماني:
منذ وقت مبكر، رُسِّخ في الوعي العام عبر خطاب الإسلاميين أن “الشيوعيين والعلمانيين” هم الأعداء الألداء للإسلام. في المساجد، المدارس، الإعلام، وحتى في مناهج التعليم، جرى تسويق هؤلاء ككفار أو مارقين يجب محاربتهم لا الحوار معهم.

العدو النسوي:
تم تصوير الناشطات النسويات والمطالبات بالمساواة وكأنهن دعاة للرذيلة وتفكيك الأسرة، رغم أن كثيرًا من هذه المطالب كانت تتعلق بحقوق أساسية كالعمل والتعليم والمساواة في الأجور.

العدو الغربي:
خُلق وهم “المؤامرة الغربية” ضد الإسلام، وتُرجم ذلك عمليًا في خطاب معادٍ للمجتمع الدولي، مما زاد من عزلة السودان وأجهض فرص التعاون الخارجي. مثال: طرد المنظمات الإنسانية وتقييد المجتمع المدني.

• التكفير لا النقد:
لم تكن المواجهة فكرية بقدر ما كانت تخوينية؛ فالمعارض يُكفّر أو يُخوَّن، وأحيانًا يُزال بالعنف أو الإقصاء التام. ومثالا لذلك اغتيال المفكر محمود محمد طه، وغيره ممن زهقت أرواحهم بطرق مختلفة إضافة لذلك القمع المفرط للسياسيين المناوئين وللحركة الطلابية وللجماهير التي كانت تخرج مطالبة بأبسط الحقوق.
• تمزيق النسيج الاجتماعي:
بدلاً من رؤية التنوع الإثني والديني كثراء، تعامل الإسلاميون مع غير المسلمين والعرقيات الأخرى بنزعة فوقية، ساهمت في تصعيد النزاعات الأهلية خاصة في الجنوب، ما أدى لاحقًا للانفصال.

ثالثًا: اليساريون والليبراليون:

رغم أن اليساريين والليبراليين لعبوا دورًا محوريًا في مقاومة الأنظمة الشمولية والدفاع عن الحريات، إلا أنهم لم يسلموا من منطق “صناعة العدو”. فقد وقع بعضهم في فخّ شيطنة كل من لا يتفق معهم بالكامل، سواء من القوى السياسية الأخرى أو حتى من داخل التيار المدني ذاته، كأنّ الاختلاف يُساوي التواطؤ، وكأن النقاء الإيديولوجي شرط مسبق لأي تقارب.
هذا المنطق، الذي يمكن تسميته بـ”الطهورية السياسية”، أنتج رفضًا واسعًا لأي تحالفات مرحلية، حتى تلك التي كان يمكن أن تشكل جبهة عريضة ضد السلطوية أو الانقلاب، فقط لأن بعض أطرافها “غير نقية بما يكفي”.
لكن الإشكال الأعمق أن هذا التمسك بالنقاء كثيرًا ما انتهى إلى صناعة “عدو جديد” داخل معسكر المقاومة ذاته، وأدى إلى تشظي الصف المدني. في أوقات الأزمات الكبرى، مثل الانقلابات أو الحروب، يكون التمييز ضروريًا بين التنازل التكتيكي والتنازل القيمي:
فالتنازل التكتيكي هو تحالف مرحلي على هدف مشترك، مثل إسقاط انقلاب أو إيقاف حرب، دون التنازل عن المبادئ الكبرى.
أما التنازل القيمي، فهو تحالف يفرّط في الحقوق أو المبادئ الأساسية (كالعدالة أو مدنية الدولة) من أجل مكاسب آنية، وهو ما يهدد المشروع من جذوره.
إن الفشل في هذا التمييز، والانغلاق على الذات باسم النقاء، أسهم في تغذية خطاب “العدو الداخلي” بدل توسيع جبهة التغيير، وأبقى المشروع الديمقراطي معلقًا بين المثال والرغبة، دون أدوات واقعية لتحقيقه.

رابعًا: العسكر: من حماة الدولة إلى صُنّاع الأعداء

منذ فجر الاستقلال، لم تكن المؤسسة العسكرية في السودان مجرّد أداة لحماية البلاد، بل أصبحت تدريجيًا طرفًا سياسيًا يرى في كل قوة مدنية ذات طموح سياسي خصمًا وجوديًا. فبدل أن تنحاز للمشروع الوطني، انحازت لسلطتها، وصنعت لنفسها أعداءً في كل انتفاضة أو مرحلة انتقالية.

أمثلة تاريخية:

• في عهد إبراهيم عبود (1958–1964): استلم الجيش السلطة بحجة فشل الأحزاب، ثم واجه الحركة الجماهيرية المتصاعدة بالقمع، خاصة الطلاب والمثقفين، واعتبرهم تهديدًا لـ”أمن الدولة”. بذلك، تحولت القوى المدنية المناهضة للعسكر إلى “عدو داخلي” في نظر الدولة العسكرية.

• نظام نميري (1969–1985): جاء عبر انقلاب عسكري بدعم يساري، لكنه ما لبث أن انقلب على داعميه بعد سنوات. شيطن الشيوعيين بعد محاولة انقلابية فاشلة عام 1971، ونكّل بهم، رغم أنهم حلفاؤه الأوائل. ثم تحالف مع الإسلاميين لاحقًا، قبل أن يدخل في صراع معهم هم أيضًا. نميري كان يصنع عدوه بحسب الحاجة السياسية لا المبدأ، لكن الدائم في خطابه هو أن المدنيين، بمختلف أطيافهم، مصدر تهديد.

• في عهد عمر البشير (1989–2019): اتحدت السلطة العسكرية مع التيار الإسلامي الحاكم، وشكّلا معًا سلطة مستبدة شيطنت كل قوى المعارضة المدنية، من اليسار إلى الحركات المسلحة إلى المجتمع الدولي. ووُصف المعارضون بالخونة والعملاء والمُفسدين، بينما الجيش والأمن هم “حماة العقيدة والدولة”.

• بعد الثورة (2019–2023): عقب سقوط البشير، كان يمكن للعسكر أن يكونوا شركاء في التحول المدني، لكن سرعان ما عادوا لنغمة “المدنيون خطر على الوطن”.
البرهان وحميدتي صورا أنفسهم كصمام أمان للبلاد، وأن القوى المدنية غير جاهزة للحكم، ووصموها بأنها نُخب ناعمة وفاشلة.

• في انقلاب 25 أكتوبر 2021، أعاد الجيش إنتاج سردية “العسكري المُنقذ” في مواجهة مدنيين طامعين، مع تجاهل تام للإرادة الشعبية.

عقلية “التهديد المستمر”:

المشكلة الجوهرية ليست فقط في الانقلابات، بل في أن المؤسسة العسكرية ترى في السياسة المدنية مشروعًا مضادًا لها في جوهره، لا مختلفًا عنها فحسب. فلا تفرّق بين معارض، ومنافس، وخصم مؤقت. الكل “عدو محتمل” يُبرر احتكارها للسلطة.
وفي المقابل، صار بعض المدنيين يرون في الجيش كيانًا واحدًا معادٍ للديمقراطية بالكامل، دون تمييز بين الضباط المنخرطين في الانقلابات والمؤسسة كجهاز وطني.
هكذا، تبادلت الأطراف إنتاج “العدو المطلق”، فتآكلت الثقة، وتكررت الانقلابات، واستُهلكت طاقة المجتمع في إعادة إنتاج ذات المواجهة: جيش ضد مدنيين، بدل دولة تتسع للجميع.

خامساً: لمجتمع السوداني: من التعايش إلى الاستقطاب وصناعة العدو الداخلي

رغم أن المجتمع السوداني تميّز تاريخيًا بقدر كبير من التسامح والتنوّع الثقافي والديني والإثني، إلا أن عوامل متعددة – دينية، جهوية، إثنية، وسياسية – أسهمت في زرع بذور الكراهية وإنتاج صورة العدو داخل النسيج الاجتماعي ذاته، لا فقط في دوائر النخب.
عوامل تفكيك التعايش وبناء العدو المجتمعي:
1. الجهوية والقبلية:
في غياب مشروع وطني موحِّد، تحوّلت الجهوية إلى أداة لحشد الدعم السياسي، وصار كل إقليم ينظر بعين الريبة للإقليم الآخر، سواء في فرص التنمية أو المشاركة في السلطة.
أصبح أبناء الأقاليم الطرفية يرون في “المركز” عدواً تاريخيًا، بينما يتوجس المركز من “الهامش” باعتباره بيئة خصبة للتمرّد والاضطراب.
2. الخطاب الديني الإقصائي:
الجماعات الدينية (خاصة منذ عهد نميري ثم البشير) أسست خطابًا يعتبر الآخر المختلف في الدين أو المذهب أو الرؤية السياسية “ضالًا أو كافرًا أو عميلاً”.
هذا الخطاب حوَّل المجتمع إلى “فسيفساء من الخنادق العقائدية”، كل خندق يرى الآخر تهديدًا له.
3. الحروب الأهلية والتشويه المتبادل:
الحرب الطويلة في الجنوب ثم دارفور وكردفان، صنعت ذاكرة شعبية ترى “الآخر المقاتل” كوحش لا إنسان.
هذا التصور ترسّخ بالإعلام والكتب المدرسية والتنشئة، لا فقط بالبندقية، ما أنتج أجيالًا ترى في الآخر الجهوي أو الإثني “تهديدًا وجوديًا”.
4. وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي:
أدت وسائل الإعلام، خصوصًا الحديثة، إلى توسيع دائرة الاستقطاب بدل خلق وعي نقدي.
بدل تفكيك الصور النمطية، صارت منصات التواصل تُعيد تدوير خطاب الكراهية وتضخيم العدو المجتمعي.
النتيجة: مجتمع يستهلك نفسه.
تحوّل المجتمع السوداني من “نسيج اجتماعي متداخل” إلى فسيفساء من الهويات المتصارعة.
فبدل رؤية الاختلاف كغنى، صار يُنظر إليه كتهديد يجب عزله أو القضاء عليه.
ومع كل أزمة، تتوسع دائرة “العدو”:
• الإسلاميون يشيطنون الشيوعيين والغرب.
• اليساريون يرون في من لا يتطابق معهم في رؤاهم خصما بغض النظر الي ماذا يدعو له.
• سكان المركز يرون في الهامش خطرًا، والعكس بالعكس.
• العرب ضد الزُرقة، والزُرقة ضد العرب، والمسلمون ضد المسيحيين، وهكذا…

النتيجة السياسية والاجتماعية:

هذا الإنتاج المتواصل لـ”العدو المجتمعي” جعل من بناء الدولة الوطنية أمرًا بالغ الصعوبة.
فلا مشروع وطني يمكن أن ينجح إن لم يُبنَ على الاعتراف بالآخر، لا نفيه.
ومع استمرار الحرب الراهنة، صار حتى السوداني داخل أسرته أو حيّه يخشى التعبير عن موقفه السياسي، خشية أن يُصنّف عدوًا.

:من تفكيك الداخل إلى تصدير العداوة للخارج

ولم تسلم هذه الذهنية، التي تشوّهت عبر عقود من الاستقطاب، من أن تمتد في نظرتها العدائية حتى إلى الجوار الإقليمي، فصار المواطن السوداني يُغذّى بخطابات الشك والتخوين تجاه بعض الدول المجاورة، باعتبارها “تتربص بالسودان” أو “تتدخل في شؤونه” أو ” تريد نهب ثرواته”.
لكن هذا الخطاب تغافل عن مسؤولية الحكومات المتعاقبة التي لم تعمل على بناء علاقات سياسية واقتصادية متوازنة قائمة على المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، بل استخدمت المواطن – عبر الإعلام أو التعليم أو التعبئة – كأداة لإدارة معاركها السياسية أو الأمنية بالوكالة.
وهكذا، صار جوار السودان الإقليمي انعكاسًا لصراعاته الداخلية، لا فضاءً للتعاون أو التكامل، ما عمّق مناخ العداء ووسّع خريطة “العدو” لتشمل حتى الشقيق القريب.

خاتمة: من هوية ضدية إلى مشروع وطني جامع
لقد كنا – ولا نزال – نُدير خلافاتنا في السودان عبر صناعة الأعداء لا عبر صناعة الرؤى. لم تُبنِ السياسة، منذ الاستقلال، على برامج واضحة، بل على نفي الآخر. لا فرق بين حكومة ومعارضة، ولا بين مدني وعسكري، ولا بين إسلامي ويساري، فالجميع – بدرجات متفاوتة – وقع في فخ الهوية الضدية: أن تعرّف نفسك بما ترفضه لا بما تحمله من مشروع.
إن أخطر ما في هذا المسار ليس فقط تفكيك الوحدة الوطنية، بل أنه يجعل الخروج من الأزمات مستحيلاً، لأن كل طرف يرى في الآخر خصمًا وجوديًا، لا مجرد منافس سياسي.
مقالنا “صناعة الأعداء” ليس بحثًا في اللوم أو الإدانة، بل محاولة لفهم هذه البنية الذهنية والسلوكية التي جعلتنا نصنع خصومًا أكثر مما نصنع حلولاً، ونبني جدرانًا أكثر مما نبني جسورًا.
والسؤال الجوهري الذي نطرحه في هذا السياق هو:
كيف نتحول من وعي الخصومة إلى وعي الشراكة؟
من خطاب النقاء إلى منطق التنازل الذكي؟
من ردود الفعل إلى مشروع وطني طويل النفس؟
إن هذه التحولات ليست مجرد أمنيات مثالية، بل شرط لازم للنجاة، لأن السودان – ببساطة – لم يعد يحتمل مزيدًا من الأعداء، بل في أمسّ الحاجة إلى أن يُعيد بناء ذاته من خلال هوية جامعة… ولو على جراحه.

٢٩ مايو ٢٠٢٥
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..