مقالات وآراء سياسية

تشريح عقلية القيادة السودانية في أتون الحرب – بين انهيار الدولة وصناعة البديل

زهير عثمان حمد

 

في مختبر الدول الفاشلة، يُقدّم السودان نموذجاً فريداً لفلسفة القيادة تحت النار. مشهد رئيس الوزراء الحالي كامل إدريس وهو يحاول إدارة دولة بلا أرض سيطرتها موحّدة، وبلا موارد خارج شبكات اقتصاد الحرب، مقابل شبح سلفه عبد الله حمدوك الذي سقط مشروعه الديمقراطي تحت دبابات الانقلاب، ليس مجرد تغيير للأشخاص. إنه انعكاس لتحوّل جيولوجي في ذهنية صنع القرار السوداني، حيث تتحطم كل المقولات التقليدية عن “الشرعية” و”الإصلاح” على صخرة واقع واحد : حرب البقاء.

الأرض المحروقة : الإطار الجديد لصناعة القيادة

لم تعد معايير اختيار القادة في الخرطوم تخضع لمعادلة “الكفاءة مقابل الولاء السياسي” التقليدية. الحرب التي مزّقت البلاد منذ أبريل ٢٠٢٣م أعادت تعريف شروط اللعبة:

جغرافيا السلطة : ٧٠٪ من الأراضي السودانية خارجة عن سيطرة الحكومة المركزية، مما حوّل “رئيس الوزراء” إلى مدير لإدارة الجيوب المحاصرة.

اقتصاد الظل : تحكّم مليشيات الدعم السريع في ٩٠٪ من مناجم الذهب (مصدر العملة الصعبة)، فتحوّلت مهمة القيادة من “الإصلاح الاقتصادي” إلى “التفاوض مع أمراء الحرب”.

موت الاحتكار : انفجار سلاح الدولة بين ١١ فصيلاً مسلحاً جعل “الشرعية” سلعة تُشترى بالتحالفات العسكرية العابرة.

في هذا المشهد، يصبح تعيين إدريس – الخبير الإداري ذي العلاقات الواسعة مع المؤسسة العسكرية – اختياراً عضوياً لذهنية تبحث عن “حد أدنى من الوظائف في حد أقصى من الانهيار”.

مقارنة التمثيلات : حمدوك وإدريس كرمزين لعهدين منقرضين

مشروعية الموت مقابل مشروعية الحياة

حمدوك : مثّل آخر محاولة لاستعادة شرعية ما قبل الحرب : الانتفاضة الشعبية، الاعتراف الدولي، حلم الديمقراطية. سقوطه كان إعلاناً عن موت عصر.

إدريس : يجسّد شرعية الكارثة : وجوده مرتبط بقدرته على إبقاء نوافذ مفتوحة مع منظمات الإغاثة، وترميم أشباح مؤسسات الدولة. شرعيته تقاس بعدد الشاحنات التي تعبر الحدود محملة بالقمح.

 

الدبلوماسية : من قاعات جنيف إلى أسواق الذهب في أم درمان

حمدوك : وظّف رصيده كدبلوماسي أممي في فك عزل السودان، مستفيداً من رأس المال الرمزي للثورة.

 

إدريس : تحوّلت دبلوماسيته إلى مقايضة بالسلاح : اتفاقيات إيقاف النار التي تتحول إلى هدنات تمويلية، حيث تُشترى الهدنة المؤقتة بفتح ممرات للتهريب.

 

العقد الاجتماعي المقلوب

حمدوك – حاول بناء عقد اجتماعي جديد على أنقاض نظام البشير، مستنداً إلى وثيقة دستورية.

 

إدريس -يُدير عقداً طائفياً بدائياً : تحالفات قبلية وعسكرية توزّع مناطق النفوذ كغنيمة حرب. السلطة لم تعد “حقاً” بل “نصيباً”.

 

لماذا نجح نموذج إدريس (مؤقتاً)؟

السبب ليس في كاريزما الرجل أو برنامجه، بل في تطابق بنيته مع تشريح الدولة السودانية الحالية:

 

الجهاز البيروقراطي كبديل عن السياسة – في غياب السياسة، تتحول الإدارة إلى أيديولوجيا. إدريس – مهندس نظم المعلومات – يمثّل وهم “التقنوقراطية” كبديل عن الحل السياسي المستحيل.

 

التحالف مع الهلام المؤسسي – قدرته على العمل داخل شبكة المصالح المعقدة (الجيش، بقايا النظام القديم، رجال الأعمال المتحالفين مع المليشيات) تجعله مقبولاً كـ”واجهة محايدة” في لعبة الدم.

 

. الاستثمار في الانهيار- بينما رهن حمدوك حكمه بتحسين الاقتصاد، يقدّم إدريس نفسه كـخبير إدارة الأزمات المزمنة. الفارق الجوهري : الأول حاول علاج المرض، والثاني يتعايش معه.

 

المعضلة الوجودية – هل يمكن بناء دولة بالمعاول نفسها التي دمرتها؟

الاختيار بين نموذج حمدوك (الذي فشل) ونموذج إدريس (الذي يدير الانهيار) هو في جوهره اختيار بين مستحيلين:

المستحيل الرومانسي : عودة لحظة الثورة التي أطاحت بالبشير، رغم تغير كل المعطيات.

المستحيل الواقعي : إصلاح النظام من داخله، رغم تحوّله إلى كيان هجين بين الجيش والمليشيات.

 

التحدي الأعمق الذي تكشفه هذه المعادلة:

“الدولة السودانية لم تعد منهارة – لقد تحوّلت إلى كيان آخر”. ما يُدار اليوم ليس دولة بالمعنى الكلاسيكي، بل “منظومة بقاء” Survival Complex تعيد إنتاج نفسها عبر:

اقتصاد الريع الحربي (تهريب الذهب – رسوم المعابر – تحويلات المغتربين).

 

شرعية الكارثة (الاعتماد على المساعدات الإنسانية كأداة ضبط اجتماعي).

 

دبلوماسية الابتزاز (استغلال الموقع الجيوستراتيجي في صفقات الإقليم).

 

القيادة في زمن التماسيح

في النهر الذي تجف مياهه، تصبح المعركة بين التماسيح على أكل البقية الباقية. قيادة إدريس تقدم درساً قاسياً:

“عندما تتحول الدولة إلى ساحة حرب، يصبح القائد مجرد حارس لأكبر قطيع من الناجين”.

 

السؤال الذي يطارده هذا المشهد ليس “من الأفضل؟”، بل “هل يمكن اصطناع معنى للقيادة في مكان لم يعد موجوداً على الخريطة إلا كبقعة دماء؟”. الجواب قد يكون في المفارقة التاريخية التي يعيشها السودان:

الدولة تموز لتبتلع قادتها، وفي هذا البلع تصنع شرعيتها الأخيرة – شرعية الغياب.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..