مقالات وآراء سياسية

منهج الماركسية متجدد مع تغير الواقع

تاج السر عثمان

 

١. كما هو معلوم منهج الماركسية متجدد مع تغير الواقع ، والماركسية تركت بصماتها على تطور الفكر الإنساني العالمي ، بتصديها لتحرير الإنسان من القهر الطبقي والقومي والاثني والجنسي ومن لعنة الحاجة وتحقيق الفرد الحر بوصفه الشرط لتطور المجموع الحر . وبالتالى من السذاجة القول أن الماركسية أفل نجمها بانهيار التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوربا.

قبل ان ندخل في الموضوع مهم أن نحدد النقاط التى نريد أن نركز عليها في هذا المقال ، لأن الموضوع كبير ومتشعب فماركس وانجلز انجزا 65 مؤلفا ، ولكن من أهم مؤلفاتهما الأيديولوجيا الألمانية (1846) لماركس وانجلز، ورأس المال لماركس (1867 المجلد الأول ،1885 المجلد الثانى نشر بعد وفاة ماركس ، 1894 المجلد الثالث) ، وفي هذين المؤلفين انجز ماركس وانجلز أعمالهما الأساسية : اكتشاف المفهوم المادي للتاريخ كما جاء في الايديولوجية الالمانية ، ونظرية فائض القيمة كما جاء في مؤلف ماركس رأس المال . اذن سوف نركز في هذه المقال على أهم اكتشافين للماركسية .

 

٢. ما هما أهم اكتشافين للماركسية ؟

أشار انجلز في مؤلفه انتي دوهرينغ (1877) الى أن الماركسية تحولت الى علم باكتشاف المفهوم المادي للتاريخ، ونظرية فائض القيمة التى كشفت سر الاستغلال الرأسمالي .

بهذين الاكتشافين تحولت الماركسية الى علم ، بحيث يصبح الواجب تطويرها في كل الاتجاهات ، ولأن العلم لايعرف النهائية والاكتمال، فان تجديد الماركسية عملية مستمرة ، وتنبع من منهجها الديالكتيكي الذي ينظر للظواهر في حركتها وتطورها وشمولها وتحولها وتغيرها الدائم ، وعليه فإن التجديد كامن في طبيعة ومنهج الماركسية ، المشكلة كانت في الجمود الذي جرد الماركسية من طابعها النقدي والثوري .

المفهوم المادي للتاريخ :

انطلق ماركس في الفهم المادي للتاريخ من حقيقة بسيطة وهى الناس قبل أن يمارسوا السياسة والفن والدين عليهم أن يوفروا احتياجاتهم الأساسية من ماكل ومشرب وملبس ومأوى ، ولكى يتم ذلك عليهم ان ينتجوا ، ولكى تتم عملية الانتاج لابد من توفير وسائل الانتاج والعمل البشري ، وأثناء عملية الإنتاج تنشأ علاقات بين الناس تسمى علاقات الإنتاج وتتعلق بالملكية والتوزيع ، وحول البنية التحتية للمجتمع التى تتكون من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج تنشأ بنية فوقية تتعلق بأفكار الناس السياسية والدينية والفلسفية والفنية .. الخ . ووحدة البنية التحتية والفوقية أطلق عليها ماركس التشكيلة الاجتماعية .

على أن العلاقة بين البنية التحتية والفوقية معقدة ومتشابكة وذات تأثير متبادل ، صحيح ان البنية التحتية لها تأثيرها على البنية الفوقية ، ولكن البنية الفوقية ايضا لها تأثيرها في البنية التحتية ، فالعلاقة ديالكتيكية بحيث يصبح من الصعب الحديث عن ادنى واعلى وخاصة في مجتمعات ما قبل الرأسمالية .

وهذا ايضا يقودنا الى العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي والتى ذات تأثير متبادل ، صحيح أن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي ولكن الوعى الاجتماعي يؤثر في الوجود الاجتماعي ويعمل على اعادة تشكيله.

أشار انجلز في خطابه على قبر ماركس أنه مثلما اكتشف داروين قانون تطور الأنواع بالانتخاب الطبيعي ، اكتشف ماركس قانون تطور المجتمع البشري ، فقبل ماركس كان علماء الاجتماع يرجعون تطور المجتمع البشري إلى أفكار الناس ، ولكن ماركس انطلق من العكس ، من الإنتاج المادي وإعادة إنتاج النوع البشري باعتبار ذلك القوى الحاسمة في تطور المجتمع البشري . أما المفكر الماركسي الفرنسي لويس التوسير فقد أشار الى أن مساهمة ماركس لاتقل عن مساهمة طاليس في تأسيس علم الرياضيات أو أعمال جاليلي في الفيزياء ، وأن أعمال ماركس تحتاج الى دراسة متأنية ، وبالتالى من المهم تحرير الماركسية من الجمود الذي ران عليها .

ومنذ اكتشاف ماركس حدثت تطورات كثيرة في علوم الاجتماع والاثار والتاريخ والأنثروبولوجيا وغيرها أثرت الفهم المادي للتاريخ ، مثلما حدثت تطورات في علم البيولوجيا أثرت وطورت نظرية داروين حتى اكتشاف الشفرة الوراثية في عصرنا الحالى . كما حدثت تطورات في علوم الفيزياء والفلك والجيولوجيا ، كان لها الأثر الكبير في تطور تلك العلوم و الفكر البشري . فما أن تظهر نظرية تفسر ظواهر معينة ، حتى تظهر ظواهر جديدة تحتاج لنظرية جديدة لتفسيرها وهكذا تطورت النظريات والعلوم .

في علم الاجتماع على سبيل المثال كانت مساهمة عالم الاجتماع مورغان الذي درس المجتمعات البدائية للهنود الحمر بعد أن عاش وسطهم لمدة عشرين عاما ، استند انجلز على تلك الدراسة في مؤلفه : أصل الدولة والعائلة والملكية الخاصة (1884) ، والذي أشار فيه الى أن الدولة هى نتاج تطور المجتمع في لحظة معينة بعد تفكك المشاعة البدائية وظهور الملكية الخاصة ، أو بعد ظهور المجتمعات الزراعية الرعوية ، كما أشار فيه الى التقسيم الاجتماعي للعمل بين المرأة والرجل في المجتمعات البدائية حيث يذهب الرجال الى الصيد ويقوم النساء بالعمل المنزلى من نسيج واعاد الطعام وتربية الأطفال والتقاط الثمار وصيد الحيوانات الصغيرة غير المؤذية . واشار ايضا الى المساواة بين المرأة والرجل في المجتمعات المشاعية البدائية ، وتفكك المجتمع البدائي وظهور المجتمعات الطبقية بعد اكتشاف الزراعة والرعي ظهرت عدم المساواة بين الرجال والنساء ، وكان ذلك اول هزيمة لجنس النساء في المجتمع البشري .ومنذ دراسة انجلز تلك تطورت الدراسات التي تناولت قضية تحرير المرأة بمدارسها المختلفة .

وبعد مورغان تطورت دراسات الثقافات للمجتمعات البدائية ، مع الاختلاف النابع من ظروف كل مجتمع ، ولكن السمة العامة تؤكد صحة المفهوم المادي للتاريخ والذي كان هاديا ومرشدا لدراسات كثيرة حول النوع ، ودراسة العلاقات المتبادلة والمتشابكة بين الاقتصاد والدين والسياسة وانظمة القرابة التى تتداخل فيها العلاقة بين البنية التحتية والفوقية للمجتمع . وقد تناول الماركسي إرنست ماندل في مؤلفه (النظرية الاقتصادية الماركسية) امثلة كثيرة من دراسات معاصرة في علوم الآثار والاجتماع والانثروبولوجيا وثقافات المجتمعات البدائية ، أكدت صحة المفهوم المادي للتاريخ الذي اتخذه ماركس كمرشد له في دراساته وأبحاثه مثل رأس المال .

كثيرون من الفلاسفة المعاصرين أشادوا بالمفهوم المادي للتاريخ ، على سبيل المثال يورغن هابرماس الذي اشار في محاضرة له بعنوان (من اجل اعادة بناء المفهوم المادي للتاريخ) قدمها في إطار المؤتمر الذي نظمته جمعية هيغل العالمية في شتوتغارت عام 1975 ، أشار هابرماس :

(ليس المفهوم المادي للتاريخ بالنسبة لى دلالة كشفية فحسب ، بل هو نظرية ، وبالتدقيق نظرية للتطور الاجتماعي ، يمتلك بفضل مكانته التأملية قيمة استدلالية بالنسبة للعمل السياسي ، ونستطيع الى حد ما أن تفضي الى نظرية واستراتيجية للثورة).(هابرماس : بعد ماركس ، ترجمة محمد ميلاد ، دار الحوار للنشر والتوزيع 2002 م ، ص 65) .

أشار هابرماس الى استخدام ماركس المنهج المادي للتاريخ في مؤلفه (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت) ، اما إنجلز فقد اتخذه خيطا ناظما ومنهجا .

لا اعتقد أن هابرماس كان يقصد تجاوز الماركسية كما أشار د . هشام عمر النور في مقالات كتبها في صحيفة الصحافة عن هابرماس وضرورة انفتاح المفهوم المادي للتاريخ على التعدد ، ولكن هابرماس كان يقصد باعادة بناء المفهوم المادي للتاريخ تحريره من الجمود ، انتقد هابرماس الاحكام القطعية لستالين والذي حاول أن يقنن المفهوم المادي في احكام حاسمة بالنسبة للمستقبل في مؤلفه: (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ، 1938م) . وبالتالى كانت مساهمة هابرماس في اعادة بناء للفهم الخاطئ الذي كرّسه ستالين (ص 65) ، كما انتقد هابرماس الاشتراكية البيروقراطية التى كانت قائمة يومئذ وضرورة استكمال توفير حاجات الانسان الاساسية بالحرية والكرامة والسعادة وتحقيق الذات ، ص 103 ، المرجع السابق . وهي إشارات ذكية وسليمة .

وعلى سبيل المثال في مؤلفه المشار إليه سابقا ، حاول ستالين أن يعمم اللوحة الخماسية والتى أشار اليها ماركس لنشأة وتطور الرأسمالية في أوروبا (تشكيلة بدائية ، ورق ، واقطاع ، و رأسمالية ، واشتراكية) على كل التاريخ البشري ، في حين أن ماركس كان يعارض تحويلها الى نظرية فلسفية وتعميمها على كل بلدان العالم ، وأشار الى ضرورة دراسة خصوصية كل مجتمع بذهن مفتوح وبطريقة مستقلة ، وفي هذا الاطار أشارماركس في مؤلفه (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) الى نمط سادس خاص ببعض بلدان الشرق ( طالصين ، ومصر ، والهند ، .. الخ) ، يتمايز عن الأنماط المشار لها في لوحته الخماسية ، اطلق عليه نمط الانتاج الاسيوي ، وهو يتعلق بملكية الدولة للأرض والرى مقابل خراج يدفعه الفلاحون للدولة . وقد حاول بعض الماركسيين تعميم نمط الإنتاج الآسيوي على كل البلدان غير الأوروبية وهذا ايضا غير صحيح ، والسليم هو الدراسة المستقلة لكل مجتمع بذهن مفتوح لمعرفة واقعه وخصوصيته .

الجانب الآخر الذي انتقده انجلس في كتاباته الأخيرة اعتبار الاقتصاد هو العامل الوحيد الحاسم في التغيير ، فالى جانب الاقتصاد هناك عوامل أخرى : دينية ، وقومية ، وسياسية ، وتقاليد كل بلد وشخصيات القادة فيها تسهم في التغيير ، للاقتصاد دور حاسم ولكنه ليس الوحيد . اما الماركسي انطونيو غرامشي ، فقد طور ملاحظة إنجلس ، وأشار الى أنه من الصعب تحديد اى العاملين الاقتصادي أو الثقافي هو الحاسم في التغيير ، وأن الثقافة ضرورية لبناء القاعدة الاجتماعية نفسها ، وأن النظام الرأسمالي لايعيد انتاج نفسه بوسائل اقتصادية او بالقهر ، وانما يعيد انتاج نفسه بوسائل ثقافية ايضا وبالتالى من المهم التأثير الثقافي والاخلاقي للطبقة العاملة وأن يكون لها مثقفين عضويين مرتبطين بها ، كما انتقد المفهوم المبتذل للمادية الفلسفية التي تلغي دور الإنسان والممارسة باسم الحتمية التاريخية وتلغي التفكير النقدي ، وأشار الى ان التاريخ ليس له معنى الا بارتباطه مع التاريخ الانساني ،وكما أشار ماركس ان الإنسان ليس نتاج سلبي للبيئة ، بل يسهم في اعادة تشكيل البيئة نفسها .

النقطة الثانية التي ركز عليها انجلز في نقده لمريدى المفهوم المادي للتاريخ الذين اعتبروه بديلا لدراسة التاريخ ،وأشار الى أن المفهوم المادي للتاريخ ليس بديلا لدراسة تاريخ كل بلد على حدة بهدف معرفة واقعه وخصائصه بذهن مفتوح ، وليس حشره في المخطط المسبق للوحة الخماسية أو نمط الإنتاج الآسيوي أو اى مخطط ايديولوجي مسبق .مثل هذا الفهم ضار بالمفهوم المادي للتاريخ .

النقطة الثالثة هى ضرورة الاشارة الى أن ماركس لم يضع نظرية مكتملة حول الدولة ، وقد طورت دراسات معاصرة نظرية الدولة لماركس مثل مساهمة غرامشي ، و نيكوس بولانتزاس …. الخ ، والذين أشاروا إلى توسيع وظائف الدولة الرأسمالية المعاصرة والتى تعيد انتاج نفسها بها  والابتعاد عن الفهم الضيق بأن الدولة تعبر فقط عن مصالح الطبقة أو الطبقات الحاكمة ، وان الدولة تحظى بالقبول بوظائف اقتصادية وسياسية وايديولوجية وثقافية وتاريخية . وبالتالى من المهم توسيع زوايا النظر في وظائف الدولة ودراسة الاشكال المختلفة التى تعيد انتاج نفسها بها .

نقطة جوهرية أخرى أن الماركسية كانت في حوار وجدل مع التيارات المعاصرة لها ، وانها كانت تتخصب بهذا الحوار وتسقط ما عفى عليه الزمن في استنتاجاتها وتضيف الجديد في ضوء المتغيرات الجديدة فماركس وانجلز بعد اربعين عاما على صدور البيان الشيوعي (1848) كتبا في مقدمة له أن البيان شاخ في بعض جوانبه ، وأن البيان نفسه يوضح أن تطبيق المبادئ يتعلق دائما وفي كل مكان بالظروف والاوضاع التاريخية في وقت معين . وضرورة عمل تحليل جديد يستوعب المتغيرات الجديدة التي حدثت في الرأسمالية .

الجانب الآخر هو المتغيرات التى حدثت في تركيب الطبقة العاملة بفعل الثورة العلمية التقنية حتى اتسع مفهوم الطبقة العاملة نفسه وأصبح يضم العاملين اليدويين والذهنيين الذين يتعرضون للاستغلال الرأسمالي ، ودارت مناقشات واسعة في الستينيات من القرن الماضي ، على سبيل المثال استنتاجات ماركوز الذي أشار الى أن الطبقة العاملة فقدت ثوريتها وأن الطلاب أصبحوا البديل لها في قيادة التغيير ، في حين السليم هو اتساع قوى التغيير في المجتمع والذي اصبح يضم قوى الثقافة والعمل ، كما أشار غرامشي الى ضرورة الاهتمام بالعمل وسط المثقفين لما لهم من دور في التحويل الفكري والثقافي للمجتمع وكسب المواقع في الجبهة الفكرية والتأهيل التاريخي للطبقة العاملة (والتى اتسع مفهومها) لتلعب دورها في تغيير تركيب المجتمع .

كما كانت الماركسية حاضرة في حوارات المثقفين والفلاسفة الذين جاءوا بعد ماركس بمدارسهم المختلفة مثل مفكري مدرسة فرانكفورت (ماركوز، اريك فروم ، هابرماس ، .. الخ) ، والذين اشاروا الى ضرورة تحريرها من الجمود الستاليني وتخصيبها بمساهمات فرويد في علم النفس والفلسفة الوجودية ، والبنيوية … الخ . وقد اجهضت فترة الجمود هذا الحوار لما له من دور في تخصيب الماركسية ، ورغم ذلك كانت هناك مساهمات من فلاسفة ماركسيين مثل لوكاتش الذي كانت له حوارات خصبة مع الفلسفة الوجودية في مؤلفه (وجودية أم ماركسية) . كما حاور غرامشي الواقع الايطالي وأشار الى أن أهم سمات الواقع الايطالي هو وجود الكنيسة الكاثوليكية وثقل المسيحية الكبير فيها ، وخلص الى ضرورة دراسة الدين ، والاستفادة من نقد استغلال الدين لخدمة مصالح دنيوية زائلة كما كان يتم في عصور النهضة والإصلاح الاوربيين ، بحيث يستوعب بسطاء الناس ، وطالب الماركسية بتلبية حاجات الناس الروحية حتى تكون الماركسية قريبة من تكوينهم الثقافي والنفسي . ونشير هنا إلى تقدير ماركس مع انجلز لموقف رجل الدين (مانزر) في حرب الفلاحين وثنائه على دوره الخلاق الواعى كرجل دين ثورى مصلح ، وكذلك نشير الى دور لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية في الانحياز للمستضعفين والفقراء ، وهذا هو روح الماركسية الرافض لاستغلال الدين لخدمة مصالح دنيوية ضيقة أو تبرير القهر باسم الدين .

كما تجاوزت الأحزاب الشيوعية في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا ، وطرحت استراتيجية الوصول للسلطة عن طريق البرلمان ، كما طورت مدرسة (الشيوعية الأوروبية) في السبعينيات من القرن الماضي مفهوم التداول الديمقراطي للسلطة، وضرورة حكم القانون واحترام حقوق الإنسان وتجاوز نظام الحزب الواحد الذي كان سائدا في الاتحاد السوفيتي .

وفي السودان منذ دورة اللجنة المركزية في أغسطس 1977م ، تم طرح التعددية الديمقراطية كأداة للوصول للسلطة أو الوصول للنظام الوطني الديمقراطي بطريق ديمقراطي جماهيري .

وهكذا كان للتراكم المعرفي الهائل الذي حدث اثره في تطوير المفهوم المادي للتاريخ وتعميقه وتوسيعه وفق المستجدات باعتباره هاديا ومرشدا لدراسة الواقع بهدف التأثير فيه وتغييره الى الأفضل ، النظرية ترشد الممارسة والممارسة تغني وتخصب النظرية ، وكما قال الشاعر الالماني جوته : (النظرية رمادية وشجرة الحياة مخضرة دوما) .

 

٣. نظرية فائض القيمة :

الاكتشاف الثاني لماركس هو نظرية فائض القيمة التي كشفت جوهر الاستغلال الرأسمالي ، أشار ماركس في مؤلفه رأس المال الى أن (المجتمع الرأسمالي ليس بلورة صلبة بل كائن عضوي قادر على التحول وهو يتحول بصورة دائمة) ، وهذا ما اكدته الأحداث في التحولات المختلفة التي مرت بها التشكيلة الرأسمالية ، وكانت ثمرة دراسة ماركس الميدانية للمجتمع الرأسمالي في انجلترا هو اكتشاف نظرية فائض القيمة الى شكلت حجر الزاوية لنظرية ماركس الاقتصادية ، ولقد فسرت نظرية فائض القيمة الاستغلال الرأسمالي في المجتمع يومئذ والتى تقوم على استحواذ الرأسماليين على العمل غير مدفوع الأجر .

وفي نهاية القرن التاسع عشر حدث تحول في المجتمع الرأسمالي من مرحلة المنافسة الحرة الى مرحلة الاحتكار أو الامبريالية والتى أشار إليها اقتصاديون مثل هوبسن وهليفردينك ، استند لينين إلى الأبحاث السابقة لنظرية الامبريالية وأشار في مؤلفه ( الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية ، 1916) الى سمات الامبريالية الخمس وهى صورة المجتمع اصبحت لا تحددها المنافسة الحرة ، رغم ظهور الاحتكارات مازالت علاقات الإنتاج الرأسمالية هى السائدة ، ومازال قانون فائض القيمة سارى المفعول ، استئثار الاحتكارات بالربح الاحتكاري ، نهب شعوب المستعمرات اضافة للاستغلال الرأسمالي للعاملين ، تكوين الشركات المتعددة الجنسيات وتصدير رأس المال واقتسام العالم .

كما أشار ماركس استمرت التحولات في التشكيلة الرأسمالية بعد مؤلف لينين الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية مثل : الثورة العلمية التقنية ودورها في تطور القوى المنتجة وتدويل عملية الإنتاج بفعل تصدير رأس المال ، تخصص البلدان المتخلفة في الإنتاج التقليدي والملوث للبيئة ، أما مركز العالم الرأسمالي فيحتفظ لنفسه بالنشاطات الأكثر عصرية (الانتاج الآلي ، الالكترون ، غزو الفضاء ، الذرة .. الخ) نشؤ الامبراطوريات المالية الدولية (الرأسمال المالي الدولي) التى تضمن اتحاد الرأسمال الصناعي الدولي المنتج (المؤسسات الصناعية المتعددة الجنسيات مع قوة الرأسمال المصرفي الدولي) ، المؤسسة المصرفية المتعددة الجنسيات (البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي) ، واندماج مجالات التداول والإنتاج في مركز موحد للقرارات ، اى تحت سيطرة رأس المال ، ثورة الاتصالات التى ساعدت في سرعة وتحليل المعلومات (الإلكترون ، الموبايل ، الانترنت … الخ) ، ظهور قوى عاملة مثقفة (ذوى الياقات البيضاء والذهبية) المنتجة للمعارف التى يتم الاستحواذ من قبل رأس المال ، وهذه القوى تتعرض للاستغلال الرأسمالي وتدخل ضمن نسيج قوى الثقافة والعمل التي تنتج فائض قيمة مباشر وغير مباشر ، اضافة للتحولات في الهيكل الانتاجي الى صناعات غزيرة التكنولوجية كثيفة رأس المال مثل : الالكترونيات والحاسبات الآلية والطاقة الذرية والآلات الدقيقة المدارة ببرامج الحاسب الالى والصواريخ ومنتجات الكيمياء العضوية أو الهندسة الوراثية والمعدات الحربية بفروعها المختلفة ومعدات الفضاء ومنتجات الهندسة الكهربائية والطاقة .

كما تعمقت أزمة الرأسمالية المعاصرة مثل : البطالة ، الأشكال الجديدة لنهب بلدان العالم وأزمة الدين العالمي والتهميش وتعمق التناقض بين قوى الإنتاج الضخمة التى أطلقتها الثورة العلمية وعلاقات تزايد التفاوت في توزيع الثروة .

استمرت التحولات في التشكيلة الرأسمالية الى أن دخلت فترة جديدة هى مرحلة العولمة ، والتى يصفها البعض بأنها مرحلة عليا في الامبريالية ، ويصفها البعض مثل : سمير أمين مرحلة شيخوخة الرأسمالية ، فما هى أهم سمات وخصائص هذه الفترة ؟

– اصبحت مراكز العالم الرأسمالى المهيمنة على الاقتصاد العالمي تتكون من : امريكا ، اليابان ، أوروبا ، وادوات هذه المراكز هي : منظمة التجارة العالمية التى تقدم الحماية لاحتكارات المراكز . كما يمثل صندوق النقد الدولي السلطة النقدية  والبنك الدولي السلطة التنفيذية لمجموعة الثمانية الكبار (G8) . وبلعب حلف الاطلسي الدور السياسي والعسكري ، اما امريكا فتمثل الرقيب العسكري على العالم .

– كما أن من أهم سمات الرأسمالية المعاصرة اعادة انتاج الفقر على سبيل المثال : 1,3 مليار شخص في العالم لايتعدى دخلهم دولار واحد في اليوم ولا يحصلون على مياه صالحة للشرب ولا على الحدود الدنيا من العلاج . 850 مليون من الاميين ، 800 مليون يعانون من سوء التغذية. 210 مليون طفل في العالم يتم استغلال قوة عملهم . تدهور الوضع البيئي في العالم الناتج من من ازمة نمط الانتاج الرأسمالي الذي يهدف لتحقيق أقصى قدر من الأرباح لرأس المال .

– كما أن من إفرازات الرأسمالية المعاصرة (العولمة) : الديون على الدول الفقيرة ، التهديد بالاسلحة النووية ، الاحتلال المباشر للبلدان (العراق بهدف النفط … الخ) ، بيع الأعضاء البشرية (اسبيرات بشرية) ، شبكات الدعارة الكبيرة للنساء والاطفال ، تجارة المخدرات ، غسيل الاموال ، انتشار وتفشى ظاهرة الفساد … الخ .

– كما ان من سمات الرأسمالية المعاصرة سيطرة الشركات العابرة للقارات على ثلث الاصول الانتاجية في العالم على سبيل المثال : في الفترة 1982 – 1992 ، كان نصيب اكبر 200 شركة عالمية يصل الى 26,8 % من الناتج العالمي بإيرادات تصل الى تريليون دولار (تقرير الاونكتاد 1993) ، هناك 20 % من دول العالم تستحوذ على 85 % من الناتج العالمي وعلى 84 % من التجارة العالمية ويمتلك سكانها 85% من مجموع المدخرات العالمية (فخ العولمة : 1998 ، ص 11) .

– كما أن من نتائج العولمة تصفية مكتسبات العاملين والفئات الوسطى وزيادة البطالة وانخفاض الاجور وتدهور مستويات الخدمات الاجتماعية التى تقدمها الدولة وإطلاق آليات السوق ، وابتعاد الحكومات عن التدخل في النشاط والاقتصاد وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين . كما أصبحت الزراعة في مراكز العالم الرأسمالي والتى تعتمد على منجزات الثورة العلمية والهندسة الوراثية تقف حجرة عثرة في تطور القطاع الزراعي في البلدان النامية ، وبالتالى تعمل الزراعة الرأسمالية على استبعاد حوالى 3 مليار من المزارعين من الزراعة المعيشية (التقليدية) وتضيفهم الى جيش البطالة . كما أصبح الخيار العسكرى من قبل الولايات المتحدة يهدد جميع الشعوب .

 

٤. من السرد أعلاه لمراحل تطور الرأسمالية التى وجهت لها الماركسية سهام نقدها ، نلاحظ التراكم الكمي لمثالب الرأسمالية والتى ظلت على طبيعتها منذ مؤلف ماركس رأس المال حتى وصلت لمرحلة العولمة الحالية والتى تؤكد ضرورة التغيير واحلال الاشتراكية محل الرأسمالية .

ومن الجانب الآخر ورغم نتائج العولمة السالبة التى أشرنا لها سابقا ، الا أننا نلمس تصاعد الحركات الجماهيرية والديمقراطية المطالبة بالغاء الديون الثقيلة على بلدان العالم الثالث وضد منظمة التجارة العالمية ، ومن اجل حماية البيئة ونزع اسلحة الدمار الشامل ، ومحاربة الأمراض الفتاكة (الايدز) ، والدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات المضطهدة ، والدفاع عن حقوق المرأة والنضال من أجل تحسين أوضاع العاملين المعيشية والاجتماعية والثقافية ومن أجل عولمة بديلة تكرّس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحق الشعوب في سيادتها واستقلالها الوطني والتنمية المستقلة وحقها في السيطرة على مواردها الطبيعية ، وأن تلعب الدولة دورها في تقديم الخدمات الاساسية للمواطنين مثل : التعليم والصحة ومياه الشرب النقية .. الخ بدلا من خصخصة تلك الخدمات والتى كانت على حساب الكادحين .

هكذا يؤكد التراكم المعرفي الذي حدث أن الماركسية مازالت نابضة بالحياة ، وانها قامت على نقد وتجاوز مساوئ وشرور الرأسمالية والتى تجسدها مرحلة العولمة الحالية ، وأن هناك ضرورة للبديل الاشتراكي الذي يقوم على مرتكزين هما الديمقراطية والعدالة الاجتماعية . وبالتالى ، التجديد في الماركسية يجب أن يتناول اهم اكتشافين لها وهما : المفهوم المادي للتاريخ ونظرية فائض القيمة ، والتى شكلت الأساس لنقد الرأسمالية . وأن الماركسية تتجدد بالحوار مع التيارات الثقافية والفكرية المتنوعة ، وأن دراسة الماركسية في جوهرها هى دراسة الثقافة الانسانية والارتباط بالواقع بكل مكوناته الثقافية والروحية .

 

[email protected]

‫4 تعليقات

  1. اقتباس:
    (كما هو معلوم منهج الماركسية متجدد مع تغير الواقع ، والماركسية تركت بصماتها على تطور الفكر الإنساني العالمي ، بتصديها لتحرير الإنسان).
    . ……. . .. …. … .. . ……
    .الماركسبه تم وأدها في روسيا وبقية جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقه، حتي الصين لم يبقي من الماركسيه الا العلم الاحمر والشعار الذي عليه،حتي البانيا آخر معاقل الماركسيه تخلصت من هذا الفكر البائس بعد وفجأة الدكتاتور الشيوعي أنور خوجه..
    ….اما السودان فحدث ولا حرج مازال ديناصورات الحزب الشيوعي يعيشون بيننا ، مشبعين بالفكر الشيوعي البائس، يتخبطون في قراراتهم، يتحدثون كأنهم الحزب الاقوى جماهيريا في السودان بينما لا يتجاوز عددهم العشرات ..ربما لا يستطيعون ملء عربة هايس.!!
    …وعما قريب سنشهد نهاية الكيزان المحتومة وبذلك يتخلص السودان من العاهات التي عطلت مساره..

  2. في السبعينات قيل كان افضل نخب السودان من الشيوعية وافضليتها اتت عبر المنح الدراسية التي كانت تمنحها الدول العظمى وروسيا الاتحادية بالاخص لدول العالم الثالث يتم استيعاب خيرة العقول والطلاب المهتمين عبر منح دراسية يرجع بعدها الطالب سياسي اشتراكي شيوعي عاش بحضن بيئه لا علاقة ولا وجود للاسلام بها ناس فري لاكنيسة لا جامع وكل الدول التي نهضت نهضت عبر اشخاص من حضن المجتمع عبر التتدرج الوظيفي تجده كان مدير بلدية وزير حتى يصل لرئاسة حزب اما نحن احزاب عبر المال الاقليم الوراثه …………. اذا الدولة تبعث طلبة ياتون يحملون فكرا لا يتناسب مع الواقع الاجتماعي كيف لا يكون بالسودان كيزان وحروب ياخي الصين عشان تنهض وتواجه وتصارع امركا غير سياستها جذريا فقط اليوم يحتفلون بصنم الشيوعية لكن النظرية الاقتصادية قطعوا ورقها واستطاعت ان تغذوا العالم عبر صناعتها السودان دا لا شخصية الكيزان ولا الشيوعية يستطيعوا ان يقدموا له شيء فقط طرف ينادي بالاسلام والاسلام منهم بريء وطرف ينادي بالشيوعية وطول عمره عاوز الناس تكون حزينة حروب وقتل الطرفين مكملين للخراب … نحن مسلمون وربنا اوجدنا بهذه الفانية لكي نكون مسلمون ليه نعارض الفطرة الربانية التي جبل الناس عليها ياخي انا امس سمعت مقابلة لواحد جنوبي من الجنوب الحبيب بيخاطب الجنوبيين قال ليهم ياجنوبيين ليه بتزعلوا الله يانخب هوووي افاكركم دا امشوا به في الصناعات الزراعه انا عاوز عالم كوز في تخصص طب زراعه هندسة ولا شيوعي وياتي يقول للناس انا عاوز اطور لكن عاوز تبرمج زول من اجل السلطة واحد يغني واشعار حزينة لن تموت يامصطفى والاخر يقول اناشيد واغاني جهادية من قبل ما يتولد 95 % من شعب السودان اليوم صراع متبادل ما قدرتوا تصلوا لحلول او تقارب منوا البينتظر صراعكم ودماركم هذا

  3. قيل لولا الشيوعية لما كان هناك اسلام سياسي،، بسبب الشيوعية ايقظت الدول الراسمالية شيطان الاسلام من مرقده في كهوف التاريخ طوال الف واربعمائة،عام ونجحت الدول الغربية نجاحا باهرا في ذلك وتمكنت من شيطنة الشيوعية في كل الدول العربية والاسلامية والافريقية وتمكنت من محاصرة الشيوعية والقضاء عليها قضاءا مبرما، وكان هذا يمثل الذكاء البريطاني المتميز عكس الولايات المتحدة التي استخدمت القوة العسكرية في اسيا وقوة الانقلابات العسكرية في امريكا اللاتينية وافريقيا، بعد انتهاء الشيوعية، كان لا بد للغرب مواجهة الشياطين والذئاب التي تمت تربيتها الاسلام وطغاة العسكريين، وهذا ما يجري الان في العالم وبكل بساطة ونحن الان وسط هذه المعمعمة وكثيرون من مثقفينا لا يدرون اننا كمسلمين وكعرب وافارقة واسيويين كنا مجرد ترس، بيد الغرب الذكي دائما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..