نحو حكماء السودان- وقف الحرب وإحياء الوطن قبل فوات الأوان

زهير عثمان حمد
أيها السودانيون، أيها الحكماء من قادةٍ وسياسيين ومقاتلين،
الدم يُسيل الأرض، والوطن يذوب يومًا بعد يوم. الحرب التي مزّقت جسد السودان، وأبادت أبناءه، وشردت ملايينه، ودفعت اقتصاده إلى الهاوية – لم تعد مسألة صراعٍ على سلطة. لقد تحولت إلى آلةٍ لتدمير فكرة السودان نفسه. كل رصاصة تُطلق
وكل قرية تُحرق، وكل طفلٍ يُجوع – تُكتب شهادة وفاة لجزءٍ من مستقبلنا المشترك.
لست هنا لأُعدد جراحًا يعرفها كل بيتٍ سوداني، بل لأقول: “الكفاح الحقيقي الآن ليس في الميدان، بل في إنقاذ الوطن من الزوال”. لقد تجاوزت تداعيات الحرب حدودنا لتهدد أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وتحولت بلادنا إلى ساحة لتصفية
حسابات قوى إقليمية ودولية تتلاعب بمصيرنا. أمام هذا الانهيار الشامل، يصمت المنطق العسكري، ويصرخ الضمير الإنساني: “كفى!”
ولكن الصراخ لا يكفي. آن الأوان لخطة عملية شاملة تنتشل السودان من براثن الموت، وتُعيد السياسة إلى مكانها الطبيعي – لا البنادق. وهذا يتطلب:
أولاً: آلياتٌ فاعلة لوقف الحرب فورًا (لا مجرد دعوات)
وقف إطلاق نار طارئ تُراقبه “هيئة رقابة سلام سودانية-دولية” (بمشاركة أفارقة وعرب محايدين) بسلطة فرض عقوبات فورية (تجميد أصول، حظر سفر) على المُخلين، وربط فتح الممرات الإنسانية واستئناف المساعدات الدولية بهذا الالتزام.
فك الاشتباك العسكري الفوري وإنشاء “مناطق آمنة دائمة” لحماية المدنيين، باستخدام تقنيات مراقبة حدودية إلكترونية بالتعاون مع دول الجوار لقطع إمدادات السلاح.
إشراك الإعلام المستقل في توثيق وتقييم خروقات وقف إطلاق النار، ومنح الصحافة الوطنية مساحة للعمل من الميدان، ليكون الإعلام شاهدًا وضامنًا لسلام لا يخدع أحدًا.
ثانيًا: حوار شامل لا يستثني أحدًا (ولا يبدأ من الصفر)
مشروع “حوار ما قبل التفاوض”: ورش عمل سرية في دولة محايدة تجمع ممثلين غير رسميين من الأطراف المتحاربة (ضباط متوسطين، قادة قبليين، ناشطين شباب، نساء من مناطق النزاع) لصياغة مسودات أولية لوقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية – بعيدًا عن الأضواء والضغوط.
مؤتمر وطني ثلاثي المستويات-
حوار عسكري-أمني: نزع سلاح الميليشيات خلال ٦ أشهر، وتحويلها إلى شركات أمن وطني أو دمجها في قوات نظامية، وفق شروط مهنية صارمة وخطط تأهيل نفسي واقتصادي.
حوار سياسي- بناء نظام لا مركزي يمنح الأقاليم صلاحيات حقيقية، وتشكيل حكومة انتقالية كفؤة تشرف على كتابة دستور يعكس التنوع السوداني.
حوار مجتمعي – لجان عدالة انتقالية ومصالحات محلية توثق الانتهاكات، تُنصف الضحايا، وتضمن عدم الإفلات من العقاب عبر منظومة وطنية ذات مصداقية مستقلة.
ثالثًا: بناء السلام من القواعد الشعبية إلى الرمز الوطني
“مبادرة جذور السلام”: تشكيل مجالس مصالحة محلية في كل ولاية برئاسة شيوخ القبائل والنساء والشباب، تُعقد تحت شعار: “لا نريد أن نورث أبناءنا حربًا”. توصياتها تُرفع لمؤتمر وطني جامع.
“ميثاق شهداء السودان”: بناء نصب تذكاري مركزي يحمل أسماء ضحايا كل الأطراف، وإعلان يوم وطني للمصالحة يُقرأ فيه قادة العسكر والسياسة بيانًا مشتركًا: “لن نقتل بعضنا مرة أخرى”.
“كرنفالات الحياة”: مهرجانات شعبية في المناطق الآمنة تجمع أبناء المناطق المتنازعة عبر الرياضة والفنون والموسيقى، لاستعادة ذاكرة التعايش وكسر عزل الخوف.
“صوت الضحايا أولًا”: بث منصات رقمية توثق شهادات الأمهات، الجرحى، الناجين من المجازر، لتكون الذاكرة الشعبية سلاحًا ضد التكرار والنسيان.
رابعًا: تجفيف منابع الحرب إلى الأبد
تفكيك اقتصاد الظل: محاكم سودانية-أفريقية مشتركة لمحاكمة ممولي الحرب ومهربي السلاح، مع تقديم حوافز اقتصادية (مشاريع صغيرة، أسهم في إعادة الإعمار) لمقاتلي الجماعات مقابل تسليم أسلحتهم.
إصلاح جذري: إقرار “العقد الاجتماعي الجديد” الذي يضمن توزيعًا عادلاً للثروة والسلطة، ويُنهي إقصاء أي منطقة أو هوية، ويمنع احتكار الدولة من نخبة أو جهة.
التعليم سلاحنا الأخير: إطلاق “مشروع تعليم الطوارئ” لإنقاذ جيلٍ ضائع في معسكرات النزوح، قبل أن تلتقطه أيادي التطرف أو الجريمة المنظمة.
الشتات السوداني شريك في الحل: تعبئة موارد المغتربين والمبدعين في الخارج ضمن مبادرة “سودان الغد”، لضخ الطاقات والموارد في مسار إعادة الإعمار وبناء السلام.
لا وقت للانتظار:
كل يوم حرب يُخرج 10 آلاف طفل من مدارسهم، ويدفع 5 آلاف شاب نحو هوامش اليأس، ويدمر بنية تحتية تحتاج 20 عامًا لإعادة بنائها. السودان لا يحتاج إلى “منتصرين” فوق أنقاض المدن، بل إلى “حكماء” يعرفون أن الوطن أكبر من أي سلطة.
النداء الأخير:
لننزل من أبراجنا العاجية، ولنرفع أيدينا عن الزناد، ولنجلس – ولو على جمرٍ – حول مائدة واحدة. ليكن شعارنا:
“لا نريد أن نُسأل غدًا: أين كنتم حين كان السودان يموت؟”
لماذا هذه الخطة مختلفة؟
✅ ضمانات تنفيذ لا شعارات: ربط وقف إطلاق النار بعقوبات ملموسة ومراقبة دولية محايدة.
✅ السلام يبدأ من الأسفل: إشراك المجتمعات المحلية والقبائل قبل النخب في صنع المصالحة.
✅ معالجة جذور الشر: تفكيك اقتصاد الحرب وإصلاح نظام الحكم لضمان عدم العودة للعنف.
✅ دور الإعلام والشهادات الحية: الشفافية والرقابة الشعبية والذاكرة الجماعية كركائز للسلام.
✅ لغة المصير المشترك: تحويل الضحايا من أرقام إلى رموز وطنية توحد لا تُفرّق.
السودان وطنٌ يستحق الحياة.. فلنمنحه فرصة أخيرة قبل أن يصير ذكرى.