مقالات سياسية

خطاب رئيس الوزراء: بين نفي التصريحات وتكريس النهج القديم

نبيل منصور

في خطابه المؤرخ 27 مايو 2025، خرج كامل إدريس، رئيس الوزراء “المعين”، ليدحض ما نُسب إليه بشأن تشكيل حكومة تضم كتائب البراء ودرع السودان. وبالرغم من أن النفي جاء حاسمًا في بدايته، إلا أن مضمون الخطاب نفسه حمل تناقضات خطيرة، لا يمكن التغاضي عنها، بل تعيد إلى الواجهة السؤال الأساسي الذي يطرحه الشارع السوداني: هل نحن بهذا التعيين أمام تغيير حقيقي في بنية السلطة والمؤسسة العسكرية، أم مجرد إعادة إنتاج للنهج القديم تحت غطاء “الوطنية” و”التضحيات”؟

أولًا: نفي بلسان التبرير

البيان جاء لينفي خبراً نشرته قناة “سودانية 24″، لكنه تجاوز حدود النفي الموضوعي إلى خطاب طويل مملوء بالإشادة بقوى شبه عسكرية ذات خلفيات أيديولوجية وتنظيمية مثيرة للجدل.
فكامل إدريس، رغم تجنبه الإشارة الصريحة إلى إشراك كتائب البراء ودرع السودان، لم ينفِ ذلك بشكل واضح، بل استخدم تعبيرًا عامًا عن “الشمول” و”تطلعات جميع أبناء الوطن”، وهو ما يُبقي الباب مواربًا أمام تأويلات متعددة. وفي الوقت نفسه، لم يتردد في تحيتهم و”تثمين” تضحياتهم، بل ذهب أبعد من ذلك بفتح أبواب المؤسسة العسكرية أمامهم من خلال وعود بالدمج والتسريح وشروط “مناسبة” للالتحاق بالكلية الحربية.
وهنا تبرز المفارقة: كيف يمكن الحديث عن بناء جيش قومي مهني، بينما تُمهّد الطريق أمام قوى مؤدلجة كانت – ولا تزال – خارج إطار الدولة وتخضع لولاءات سياسية وتنظيمية متباينة؟

ثانيًا: استقلالية مشروطة
يشير كامل إدريس إلى أنه يتمتع بكامل الصلاحيات في تشكيل الحكومة دون فرض من أحد، لكنه سرعان ما يربط هذا التشكيل باتفاقية جوبا، بما تحمله من التزامات سياسية وأمنية فرضت محاصصات قائمة على الولاءات العسكرية والجهوية، لا على الكفاءة والتمثيل الحقيقي.
هذا التناقض بين “الاستقلال” و”الالتزام بالمحاصصة” لا يخدم بناء دولة مدنية، بل يعيدنا إلى مربع تقاسم النفوذ والتوازنات الهشة.

ثالثًا: شرعنة الانفلات باسم “التضحيات”
يأتي الأخطر في هذا الخطاب حين يُطرح مستقبل الجيش السوداني وكأنّه امتداد لمنطق التسويات مع القوى الموازية له. فقوله بأن “نحن لسنا أفضل منهم” في إشارة إلى كتائب البراء ودرع السودان، يحمل رسالة رمزية مقلقة: أن المليشيات، التي نشأت خارج بنية الدولة وشاركت في صراعات مؤدلجة، تُساوى ضمنيًا بالقوات النظامية، بل ويُبشر لها بمكان داخل الجيش.
وهنا يُطرح سؤال وجودي: هل نحن نسعى لجيش قومي مهني يمثل السودان كله، أم لتجميع الفصائل والمليشيات ضمن مؤسسة واحدة، يظل ولاؤها الحقيقي خارج الدولة؟

رابعًا: استدامة الدولة الموازية
إن فتح أبواب الجيش أمام عناصر مدفوعة بخلفيات عقائدية وتنظيمية لا ينفصل عن التاريخ الطويل للتمكين داخل المؤسسة العسكرية، هذا النهج، وإن لبس اليوم ثوب “التكريم”، هو ذاته الذي أنتج الحرب والانقلابات والانقسامات.
فالجيش لا يُبنى بالترضيات، بل بالتصفية المهنية الصارمة لكل ما هو خارج عن الدولة.

خامسًا: الحاجة إلى خطاب تأسيسي جديد
كان من المنتظر أن يأتي خطاب كامل إدريس كرئيس للوزراء بلغة واضحة، ترسّخ مبدأ الدولة المدنية، وتعبر عن قطيعة حقيقية مع تجربة المليشيات والتمكين. لكن ما وُصف بـ”الرد على إشاعة” انزلق إلى خطاب تسويقي لا يخدم ثقة الناس، بل يكرس الارتباك وعدم الوضوح ويضعف فرصة التأسيس لجيش قومي ومهني.
وبما ان المراحل القادمة تتطلب المصارحة ، فإنّ المصارحة لا تعني تمجيد المليشيات أو منحها غطاء سياسياً جديداً، بل الاعتراف بضرورة إعادة بناء المؤسسات على أسس العدالة والمهنية والوطنية، دون استثناءات أو حسابات ظرفية.

الإعلام وفتح باب التأويلات

إنّ توخي الدقة في الإعلام أمر ضروري، ولا يُختلف عليه، لكنّ الخطاب الرسمي، كما جاء على لسان رئيس الوزراء، لم يكن محكمًا بما يكفي ليغلق باب التأويلات، بل على العكس، فتحه على مصراعيه.
فعندما يُنفي إشراك كتائب غير نظامية في الحكومة، ثم يُشيد بها ويمهّد لها طريق الدمج في الجيش بشروط “مناسبة”، فإن الرسالة تُصبح مشوشة، وتُصبح الوسائل الإعلامية – وحتى المواطن العادي – أمام نص قابل للتفسير بعدة اتجاهات.
وهنا لا تكون المشكلة في الإعلام وحده، بل في السلطة نفسها، التي لم تحسم موقفها بوضوح، وتركت فراغًا تتسلل منه التأويلات، وتُستغل من الأطراف المختلفة، سواء لدعم أجنداتها أو لتشويه الآخرين.
فإذا كانت الحكومة حريصة على خطاب إعلامي منضبط، فعليها أن تبدأ بخطاب رسمي منضبط، دقيق، ومُحكم لا يترك للظن مجالًا.

شرعية التعيين ومأزق الانقلاب

من المفارقات الصارخة في خطاب رئيس الوزراء أنه يتحدث عن “تطلعات جميع أبناء الوطن”، بينما قبل بالتعيين من قائد انقلاب أطاح بتلك التطلعات نفسها.
إنّ قبول المنصب من سلطة انقلابية دون تفويض شعبي أو توافق وطني، يضعف شرعية أي حكومة قادمة، ويجعل الحديث عن الشمول والتمثيل الواسع محض تناقض لفظي.
فكيف يمكن لحكومة تُشكّل بقرار فردي من رأس الانقلاب أن تدّعي تمثيل الإرادة الوطنية؟ هذه ثغرة سياسية جوهرية في الخطاب، لا يمكن تغطيتها بأي حديث عن صلاحيات أو إشادة بتضحيات القوات المساندة.

الخلاصة
خطاب كامل إدريس لم يكن مجرّد نفي لتصريح ملفق، بل كان لحظة مفصلية كشفت بوضوح أن الخروج من الحرب لا يكفي ما لم يصاحبه خروج من عقلية إدارة الحرب. التأسيس لا يبدأ بالتبرير، بل بالحسم. ومن لا يستطيع أن يحسم في مسألة كهذه، يصعب أن يخرج بدولة من حرب إلى بر الأمان.
٣٠ مايو ٢٠٢٥
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..