مقالات وآراء

ادفع للنيابة… قبل أن تُظلم!.. حين تصبح العدالة خدمة تُحاسب مسبقًا

 

د. الشاذلي عبد اللطيف

مقدمة: عدالة للبيع

في السودان، حيث أصبحت المعاناة نظام حياة، والمواطن مشروع ضحية دائم، ابتكرت السلطة صيغة جديدة من “الإصلاح المالي” عبر بوابة العدالة:
فرض رسوم على فتح البلاغات الجنائية.

نعم، عزيزي المواطن…
إذا سُرقت سيارتك، نُهبت دارك، قُتل قريبك، أو فُجعت بأعز الناس، فلن تُستقبل شكواك إلا بعد تقديم إيصال سداد رسمي — نموذج 166، صادر عن النيابة.

لا تملك؟ إذن لا عدالة لك.

جاء هذا القرار في منشور رسمي عن النيابة العامة، تحت شعار:
“تنظيم الإجراءات وتحقيق الكفاءة المالية.”
ويبدو أن العدالة، شأنها شأن الوقود والخبز، أصبحت تخضع لحسابات العرض والطلب.

العدالة… حسب ميزانيتك

هكذا، وبجرة قلم، لم تعد العدالة حقًا يُساوي بين الناس، بل أصبحت خدمة تُقاس بقدرتك على الدفع:

> من سُرقت محفظته؟ فليدفع.
من اغتُصبت ابنته؟ فليدفع.
من قُتل له قريب؟ فليُحضر الإيصال أولًا.

أما من لا يملك؟
فليتجرّع صمته، أو يتحمّل الأذى… مجانًا.

بلاغك… عبر التطبيق!

ونظرًا لروح “التحوّل الرقمي”، قد نشهد قريبًا إطلاق تطبيق خاص على الهواتف الذكية:

> “نيابتك – اشحن واشتكِ!”
(عرض خاص: بلاغ مجاني عند كل ثلاث بلاغات مدفوعة)

قائمة الأسعار (غير الرسمية)… حتى الآن

نوع البلاغ السعر بالجنيه

سرقة بسيطة 5,000
قتل عمد 7,500
اغتصاب 8,000 (لا يشمل المتابعة)
نهب جماعي حسب المزاج
بلاغ ضد مجهول 3,000 (لتحفيز الغموض)

وتتوفر أيضًا باقات اشتراك شهرية تشمل:

خصومات على التظلمات

متابعة مجانية عند توفر الوقود

إشعار بالجريمة القادمة (للمشتركين المميزين فقط)

من “رولز”… إلى روليت النيابة

قال الفيلسوف السياسي جون رولز إن العدل هو الأساس الأخلاقي لأي نظام سياسي.

لكن في السودان، تحوّلت العدالة إلى روليت، تحكمها قواعد السوق، لا أخلاق الدولة.

السؤال لم يعد:

> “من ظُلم؟”
بل:
“من دفع؟”

أما الشعار القديم:
“النيابة في خدمة الحق العام”
فقد صار، بواقعية جارحة:

> “النيابة في خدمة من يستطيع إحضار إيصال رسمي مختوم.”

من ممثل الحق العام… إلى محصّل مالي

هنا وجب التوقّف والتساؤل:

كيف انتقلت النيابة العامة من كونها ممثلًا للحق العام إلى جهة تحصيل مالي؟

كيف أصبح التبليغ عن جريمة امتيازًا اقتصاديًا، لا حقًا قانونيًا؟

وهل من المقبول أخلاقيًا أن نُحمّل الضحية كلفة سعيه للعدالة؟

صوت من الشارع

يقول محمد.ع من أم درمان، بعد أن رُفض فتح بلاغه في سرقة هاتفه:

> “قالوا لي: ادفع أولًا، نتكلم بعدين.
وأنا لا أملك ما أدفعه.
خرجت وأنا أشعر أنني سُرقت مرتين.

كلمة أخيرة

إلى كل مسؤول بقي فيه شيء من ضمير:

> إن الدولة التي تبيع العدالة بالتقسيط أو عبر إيصال مسبق، قد تخلّت عن وظيفتها الأخلاقية، وانفرط عقدها دون حاجة لانقلاب.

وإلى الشعب نقول:

> احفظ إيصالك جيدًا، فقد يُطلب منك يوم الحساب…
لا لتبرير ذنبك، بل لإثبات أنك كنت ضحية — لكن بنظام الدفع المسبق.

لنا عودة… ما لم تُفرض عليها رسوم نشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..