مقالات وآراء سياسية

السودان في مرآة التبعية : صراع القيم والمصالح بين الشرق والغرب

نبيل منصور

 

“من وحي ندوة اقامتها حركة بلدنا تحدث فيها الأستاذ الحاج وراق عن تحديات الانتقال الديمقراطي” .

 

مقدمة

شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحوّلاً نوعيًا في موازين القوى الدولية، لا سيما مع صعود الصين وعودة روسيا كلاعب مركزي في السياسة العالمية، في مقابل انكماش نسبي في الهيمنة الغربية التقليدية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. وقد أعاد هذا التحول فتح النقاش حول طبيعة العلاقات الدولية، وأولويات الدول الكبرى، والفارق بين الخطاب القيمي الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية، والممارسات الفعلية التي تضع المصالح الاستراتيجية والاقتصادية في المقام الأول.

 

في هذا السياق، تمثل حالة السودان نموذجًا دالًا في فهم كيفية تعامل الشرق والغرب مع بلد يعاني من صراعات مزمنة، ويقع ضمن منطقة استراتيجية حيوية، ويمتلك موارد طبيعية غنية، لكنه يعاني من هشاشة مؤسساتية وسياسية تجعله سهل التأثر بالتجاذبات الدولية.

 

لقد برز في السنوات الأخيرة جدل حاد داخل الأوساط السودانية بشأن مفهوم “الهبوط الناعم” وموقف الغرب من الانتقال الديمقراطي، مقابل تحالفات طويلة الأمد ربطت الأنظمة السودانية المتعاقبة بمحور الشرق، لاسيما الصين وروسيا، وهو ما يثير تساؤلات حول أي من المعسكرين أكثر التزامًا بالقيم المعلنة، وأكثر خطورة على مستقبل الدولة الوطنية.

 

تهدف هذه الورقة إلى تحليل العلاقة بين الشرق والغرب من زاوية المصالح مقابل المبادئ، وتفكيك أدوات الهيمنة التي يستخدمها كل طرف، وتقديم قراءة نقدية لمواقف كل من المعسكرين من السودان كنموذج قابل للتعميم على حالات أخرى في العالم النامي.

 

المحور الأول : الإمبريالية المعاصرة وإعادة توزيع النفوذ الدولي

 

رغم أن مصطلح “الإمبريالية” يرتبط في الأذهان غالبًا بالاستعمار الأوروبي القديم، إلا أن المفهوم تطوّر ليعبر عن سياسات الهيمنة الحديثة التي لا تعتمد فقط على الغزو العسكري، بل على مجموعة من الأدوات المركبة: الاقتصادية، السياسية، التكنولوجية، الإعلامية، والعسكرية. وقد أدى التراجع النسبي للنفوذ الأمريكي منذ حرب العراق والأزمة المالية العالمية إلى بروز قوى جديدة، أبرزها الصين وروسيا، تسعى لتقويض النظام العالمي الذي تأسس على القيم الليبرالية الغربية، وتقديم بدائل تستند إلى مبدأ “عدم التدخل” و”الاحترام المتبادل”، لكنها في الواقع تقوم على تحالفات نفعية صلبة لا تُعير اهتمامًا لحقوق الشعوب أو مسارها الديمقراطي.

 

أدوات الإمبريالية الحديثة تتنوع وتشمل:

 

الهيمنة الاقتصادية :

 

من خلال القروض المشروطة، السيطرة على البنى التحتية الحيوية، أو استخدام المديونية كسلاح ضغط، كما في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.

التدخل السياسي غير المباشر : عبر دعم أنظمة سلطوية أو إجهاض عمليات انتقال ديمقراطي حفاظًا على الاستقرار الذي يخدم مصالح القوى الكبرى.

 

الهيمنة الإعلامية والثقافية :

 

التي تمارسها الدول الغربية عبر المنصات الإعلامية وشركات التكنولوجيا، أو التي تحاول الصين ممارستها عبر المنح الدراسية وتمويل المراكز الثقافية.

 

الهيمنة العسكرية :

 

وهي أداة شديدة الفاعلية خاصة في حالات النزاع الأهلي، حيث تقوم الدول الكبرى بتقديم السلاح والخبرات الفنية لأنظمة أو جماعات، ما يخلق اعتمادًا طويل الأمد، ويعيد تشكيل الولاءات. وقد برزت روسيا، على سبيل المثال، في السودان من خلال بيع السلاح والتعاون الاستخباراتي والتقني مع نظام البشير، وفي مرحلة لاحقة من خلال الشركات الأمنية مثل “فاغنر” التي تدير مصالح مرتبطة بالتعدين وتهريب الذهب.

من هنا، فإن الإمبريالية لم تعد غزوًا مباشرًا، بل شبكة من التبعية المعقدة التي يُعاد من خلالها إنتاج السيطرة بوسائل أقل كلفة وأكثر فاعلية. والأخطر أن هذه السيطرة لا تخضع غالبًا للمساءلة الأخلاقية، خاصة حينما تأتي من قوى لا تضع حقوق الإنسان ضمن أولوياتها كما هو الحال مع الصين وروسيا، ما يجعل هذه الإمبريالية الصاعدة أكثر خطورة من سابقتها، لأنها تقدم نفسها كبديل أخلاقي بينما تخفي استغلالًا استراتيجيا هادئًا وطويل الأمد.

 

المحور الثاني : الغرب بين الخطاب القيمي والمصالح – السودان نموذجاً

 

لطالما اتُّهمت الدول الغربية بازدواجية المعايير في سياساتها الخارجية، حيث ترفع شعارات مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، لكنها تمارس في كثير من الأحيان سياسات تخدم مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية بالدرجة الأولى. غير أن المقارنة الدقيقة تقتضي التمييز بين الخطاب السياسي العام الذي تمثله الحكومات، والخطاب المدني الذي تعبر عنه منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام الحرة ومراكز البحوث.

 

في السياق السوداني، برز الدور الغربي في محطات متعددة، خاصة خلال الثورات الشعبية التي أطاحت بالأنظمة العسكرية. بعد ثورة ديسمبر2018م، تبنّت القوى الغربية، خصوصًا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، خطابًا واضحًا في دعم الانتقال الديمقراطي، وأصدرت بيانات متعددة تطالب بإبعاد العسكر عن السلطة وتمكين المدنيين. كما ساهمت المنظمات الغربية في تمويل عمليات الإغاثة، ودعم المنظمات السودانية الحقوقية، وبرامج بناء السلام والعدالة الانتقالية.

 

ورغم أن البعض يرى في هذه السياسات جزءًا من “الهبوط الناعم” الذي يُحافَظ فيه على مصالح النظام القديم، إلا أن الوقائع تشير إلى أن القوى الغربية لم تدعم الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021م، بل أدانته وفرضت عقوبات رمزية على بعض قياداته، وعلّقت مساعدات اقتصادية، وطالبت مرارًا بعودة الحكم المدني. في المقابل، لم يصدر عن الصين أو روسيا أي موقف ينتقد الانقلاب، بل استمرتا في التعامل مع سلطات الأمر الواقع، مما يعكس فارقًا جوهريًا في أولويات المعسكرين.

 

الأمر اللافت أن الغرب لم يسعَ إلى استغلال موارد السودان بشكل مباشر، ولم يضغط للحصول على امتيازات في مجالات النفط أو الذهب، بخلاف ما قامت به دول شرق أوسطية وآسيوية كانت تسعى لضمان عقود استثمارية وأمنية، حتى على حساب الشرعية السياسية والحقوقية. كما أن الغرب ظل يقدم مساعدات إنسانية وإغاثية، حتى في ظل الأنظمة المعادية له، وهو ما يعزز فكرة أن هناك حدًا أدنى من الالتزام بالمبادئ، حتى إن لم يكن مطلقًا أو بريئًا من المصالح.

مع ذلك، لا يمكن تبرئة الغرب من استخدام بعض أدوات الهيمنة، كالدعم المشروط بالمواقف السياسية، أو ممارسة الضغوط من خلال المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلا أن هذه الأدوات تظل في الغالب علنية وقابلة للمساءلة، بخلاف السياسات السرية أو المعتمة التي تنتهجها القوى غير الديمقراطية.

 

المحور الثالث : الشرق وتحالف المصالح الصلبة – ما بعد القيم/ المبادئ

 

على النقيض من الخطاب الغربي الذي يسوّق لنفسه بوصفه نصيرًا للديمقراطية وحقوق الإنسان، يعتمد المعسكر الشرقي – ممثلاً في روسيا والصين – على مقاربة صريحة تقوم على المصالح الصلبة، وتُدار في الغالب من خلال قنوات الدولة الأمنية والعسكرية، دون الالتفات لمعايير الحوكمة أو الشرعية السياسية.

 

في السودان، مثّل موقف الصين وروسيا خلال مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في 2019م مثالًا واضحًا على هذا النمط من العلاقات؛ إذ استخدمتا حق النقض (الفيتو) لمنع صدور إدانة واضحة في مجلس الأمن ضد المجلس العسكري السوداني، مما عُدّ من قبل كثيرين بمثابة حماية مباشرة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتواطؤ مع منظومة القمع.

كما أن كلا القوتين لم تعترضا على انقلاب 25 أكتوبر 2021م، بل استمرتا في علاقاتهما مع السلطة العسكرية دون أي اعتبار للشرعية الثورية أو المدنية. بل على العكس، وفّرتا غطاء دبلوماسيًا وسياسيًا، وكانتا ضمن القوى التي استُعين بها لاحقًا لتقديم الدعم الفني أو الأمني في فترات الحصار الغربي، ما يعكس غياب تام لأي وزن للقيم الديمقراطية أو الحريات العامة في سياساتهما الخارجية.

 

وتمثل أداة التسليح واحدة من أخطر وسائل الهيمنة التي يستخدمها المعسكر الشرقي؛ إذ تمنح الصين وروسيا السلاح للدول الخارجة من الحروب أو الواقعة تحت الحصار الغربي، مما يجعل الأنظمة المستبدة مدينة لهما سياسيًا ومعنويًا. هذا النمط من العلاقات يخلق رابطة تبعية استراتيجية، إذ يصبح الحليف في حاجة دائمة للدعم الفني والعسكري وللغطاء السياسي، ما يضعه في موضع التابع لا الشريك.

وقد استفاد النظام السابق في السودان من هذه العلاقات، حيث حصل على دعم عسكري وتقني من روسيا، وتسهيلات اقتصادية من الصين، من دون أي مطالبات بالإصلاح أو الرقابة أو احترام حقوق الإنسان. بل كانت الشركات الصينية تتولى مشاريع كبيرة من البنية التحتية والنفط في ظل غياب الشفافية، وغالبًا دون حتى أن تخلق وظائف أو تنقل خبرات للسودانيين، ما يُظهر العلاقة كمجرد تبادل مصالح سلطوية، لا شراكة تنموية.

 

هذا النموذج الشرقي لا يدّعي الفضيلة، لكنه أيضًا لا يترك مجالًا للمحاسبة، مما يجعل خطورته مضاعفة؛ فهو يعيد تشكيل النظم السياسية في الدول الهشة بما يخدم بقاء النخب العسكرية أو السلطوية، بعيدًا عن مطالب الجماهير أو القيم الإنسانية العالمية.

 

المحور الرابع : الهيمنة الناعمة والهيمنة الصلبة – تحليل مقارن

 

لفهم طبيعة العلاقة بين القوى الكبرى والدول الهشة، لا يكفي الحديث عن “المصالح” بمفهومها المجرد، بل يجب التمييز بين أدوات الهيمنة التي توظفها تلك القوى، والتي تنقسم في جوهرها إلى: هيمنة ناعمة

وهيمنة صلبة . ولكل منهما آثاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الدول المتلقية.

 

أولاً: الهيمنة الناعمة (الغرب نموذجاً)

 

تستخدم الدول الغربية أدوات ناعمة للتأثير، تقوم على القوة الثقافية، والقيم الديمقراطية، والمساعدات التنموية، والمؤسسات الدولية، وبرامج التعليم والتبادل الثقافي، ودعم المجتمع المدني. هذه الهيمنة لا تخلو من الغرض السياسي أو المصلحي، لكنها في الغالب تقوم على إقناع النخب والجماهير بأن العلاقة تقوم على شراكة وتحفيز إصلاحي، وليس مجرد تبعية.

كما أن هذه الهيمنة تخضع لرقابة برلمانية وإعلامية في بلدانها الأصلية، ما يجعلها قابلة للنقد والتعديل. فعلى سبيل المثال، تخضع المساعدات الأمريكية والأوروبية إلى مراجعات دورية من الكونغرس أو البرلمان الأوروبي، ويمكن أن تتوقف إذا ثبت استخدامها في دعم أنظمة قمعية.

 

ثانياً : الهيمنة الصلبة (الشرق نموذجاً)

 

بالمقابل، تلجأ القوى الشرقية إلى الهيمنة الصلبة، عبر دعم الأنظمة بالسلاح، وتوفير الغطاء الدبلوماسي في المحافل الدولية، وتمويل مشاريع بنية تحتية تخدم النظام أكثر مما تخدم المجتمع. هذه الهيمنة لا تخضع لأي رقابة ديمقراطية، ولا تهتم بمدى التزام النظام المحلي بحقوق الإنسان أو بمبدأ تداول السلطة.

واحدة من أخطر أدوات الهيمنة الصلبة هي الارتباط العسكري، إذ يتم تزويد الأنظمة بالسلاح في لحظات ضعفها أو أثناء الحصار، مما يجعل تلك الأنظمة أسيرة لمورّد السلاح، ومدينة له سياسيًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بطائرات أو منظومات دفاع أو تدريب كوادر أمنية.

وفي حالات كثيرة، تتحول هذه العلاقة إلى تبعية كاملة؛ حيث تكون السيادة الوطنية منقوصة، ويصبح القرار الأمني مرتبطًا بالخارج، تمامًا كما حدث في حالات مثل سوريا أو فنزويلا، وهو ما بدأ يتكرر في بعض الجوانب داخل السودان.

 

ثالثاً : أثر الهيمنتين على التحول الديمقراطي

في المحصلة، تترك الهيمنة الناعمة – رغم محدوديتها – هامشًا لخلق فضاء ديمقراطي ومجتمع مدني حر، بينما تؤدي الهيمنة الصلبة غالبًا إلى إعادة إنتاج الاستبداد وتجميد مسارات التغيير. فبينما يفرض الغرب أحيانًا شروطًا متعلقة بالانتخابات أو مكافحة الفساد، تتعامل الصين وروسيا بمنطق: “ادفع، واستمر في الحكم كما تشاء”.

وبالتالي، لا تكمن خطورة الهيمنة الشرقية فقط في طبيعتها السلطوية، بل في قدرتها على شرعنة القمع وتطبيعه، عبر تقنيات القوة العسكرية والدعم غير المشروط، في ظل عالم يشهد انكفاءً غربيًا وتقدمًا متسارعًا لنموذج الحكم السلطوي.

 

المحور الخامس : هل تمثّل الهيمنة الغربية، رغم عيوبها، خيارًا أقل ضررًا؟

تبدو المقارنة بين الغرب والشرق في تعاطيهما مع الدول الهشة، وخاصة في إفريقيا والعالم العربي، كمقارنة بين نموذجين متناقضين : أحدهما يُحاول أن يُظهر التزامًا بالقيم الكونية كالديمقراطية وحقوق الإنسان (الغرب)، والآخر يُعلن صراحة أن المصالح تأتي أولًا دون مواربة أخلاقية أو قانونية (الشرق).

لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه في حالة السودان والدول المشابهة هو : هل الهيمنة الغربية، على علّاتها، تمثل خيارًا أقل ضررًا من الهيمنة الشرقية؟

 

أولًا : الغرب – مبادئ متذبذبة، لكن قابلة للمساءلة

 

رغم أن السياسات الغربية ليست خالية من النفاق أو الانتقائية، إلا أنها في الغالب تعمل من خلال أطر مؤسسية تسمح بالمراجعة والمحاسبة. فالدعم الغربي غالبًا ما يُشترط بإصلاحات سياسية، أو احترام لحقوق الإنسان، أو تقييد للفساد. وفي حالات عديدة، أدى هذا الضغط إلى تحولات ديمقراطية حقيقية كما في جنوب إفريقيا، أو على الأقل إلى حماية نسبية للمجتمع المدني كما في تونس.

الأهم أن منظمات المجتمع المدني الغربية، مثل “أمنيستي” و”هيومن رايتس ووتش”، تملك استقلالية حقيقية، وتنتقد حتى حلفاء الغرب إذا انتهكوا الحقوق. كما أن المساعدات الإغاثية الغربية ظلت تصل إلى السودان بغض النظر عن النظام الحاكم، وتُوزَّع غالبًا عبر منظمات إنسانية لا علاقة لها بالأنظمة، وهو ما لم يُرَ من الصين أو روسيا في أي لحظة أزمة.

 

ثانيًا : الشرق – دعم مطلق للاستبداد

على العكس، لا تقدم الهيمنة الشرقية أي أفق للتحول الديمقراطي. الصين لا تموّل إلا من خلال شركاتها السيادية التي تتعامل مع الحكومات لا مع الشعوب، وغالبًا عبر قروض تثقل كاهل الدول الفقيرة دون رقابة أو شروط إصلاح. وروسيا لا تملك تجربة ديمقراطية يمكن أن تُلهم بها أحدًا، بل تُقدِّم نموذجًا قمعيًا يجد صداه لدى الطغاة.

والأخطر أن دعم الشرق غالبًا ما يُصاحب بعقود طويلة الأمد في قطاعات حساسة كالتعدين والنفط، دون شفافية أو شراكة حقيقية، مما يؤدي إلى مصادرة مستقبل الأجيال القادمة، لا فقط إعادة إنتاج النخبة الفاسدة.

 

ثالثًا : معيار الحريات وتوازن القوة

من زاوية مصلحة الشعوب، تظل الحرية السياسية، حرية التنظيم، والقدرة على المحاسبة، أولويات أساسية لبناء دولة القانون، وهذه كلها لا تتوفر في ظل الهيمنة الشرقية، بينما يمكن – بدرجات متفاوتة – الضغط لتحقيقها ضمن أطر الشراكة الغربية.

من هذه الزاوية، لا تُعدّ الهيمنة الغربية مثالية، لكنها أقل تدميرًا للفرصة التاريخية للشعوب من الهيمنة الشرقية التي تغلق كل نوافذ التغيير، وتُسلّح الأنظمة ضد شعوبها، وتربطها بشبكات تبعية غير خاضعة للمساءلة أو الإصلاح.

 

المحور السادس : طبيعة الشركات كأداة للهيمنة : مقارنة بين الغرب والشرق

 

رغم أن كلًّا من الغرب والشرق يعملان ضمن النظام المالي العالمي القائم على الربح والرأسمالية، إلا أن الشركات الغربية والشرقية تختلف في ثلاثة جوانب جوهرية تؤثر مباشرة على مصير الشعوب:

 

أولًا : مستوى الشفافية والمساءلة

الشركات الغربية الكبرى (مثل BP، Shell، Total، Google، Apple…) تخضع لرقابة مؤسساتية وقانونية في بلدانها، كما أنها مطالَبة بالامتثال لقوانين الشفافية، مكافحة الفساد، واحترام المعايير البيئية وحقوق الإنسان.

أما الشركات الشرقية الكبرى (مثل Sinopec، CNPC، Gazprom، Huawei…) فهي مرتبطة عضويًا بالدولة، وتعمل كأذرع تنفيذية للسياسة الخارجية، دون رقابة مستقلة، ولا تخضع لنفس قواعد الشفافية، وغالبًا ما تُبرم صفقاتها مع الأنظمة بعيدًا عن أي إشراف شعبي.

 

ثانيًا : طبيعة التعاقد والتعامل مع الدول الهشة

الشركات الغربية تميل إلى الدخول في عقود تستدعي الشراكة مع المجتمع المدني أو نقل بعض المهارات أو إنشاء هياكل تشغيلية محلية.

أما الشركات الشرقية، فغالبًا ما تأتي بعمالتها ومعداتها وتمويلها من بلد المنشأ، وتكتفي بإعادة الأرباح دون أي قيمة مضافة حقيقية للدولة المضيفة، مما يحوّل العلاقة إلى نهب مقنن.

 

ثالثًا : الرؤية السياسية المضمَنة في الاستثمار

الشركات الغربية محكومة بقيم النظام الليبرالي الغربي، الذي – رغم نفاقه أحيانًا – يُفضّل الاستقرار الديمقراطي لأنه يوفر بيئة أكثر أمانًا للاستثمار.

أما الشركات الشرقية، فهي تُفضّل التعامل مع الأنظمة السلطوية لأنها أكثر استعدادًا لعقد صفقات غير معلنة، وأقل خضوعًا للمساءلة، مما يُفسر دعم الصين وروسيا لأنظمة مثل البشير والأسد وغيرهما.

 

الربط مع الفكرة المركزية

هذه الفروقات توضّح أن الحديث عن “الهيمنة” لا يجب أن يُختزل في الدول فقط، بل يجب أن يشمل الأدوات الاقتصادية التي تستخدمها هذه الدول، وعلى رأسها الشركات.

في حالة السودان، بينما حاولت الشركات الغربية (بغض النظر عن مصالحها) أن تلتزم بمسار يراعي الشفافية النسبية، جاءت الشركات الشرقية لدعم اقتصاد الريع والنخب العسكرية والأمنية، عبر مشروعات استخراجية غير خاضعة للرقابة، الأمر الذي أسهم في إدامة النهب والاستبداد، بدلًا من تفكيكه.

وبالتالي، فإننا عندما نقول إن الهيمنة الغربية أقل ضررًا، فنحن لا نبرّئها، بل نضعها في سياق مقارن، ونُظهر أن أدواتها – بما فيها الشركات – قابلة للتقييد، بينما نظيرتها الشرقية تشكّل خطرًا بنيويًا على فرص التحول الديمقراطي.

 

الخاتمة

تناولت هذه الورقة العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب من زاوية الهيمنة ومدى ارتباطها بمصالح الشعوب في الدول الضعيفة، مستعرضةً أدوات هذه الهيمنة من المنظمات الدولية إلى الشركات، مرورًا بالسياسات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية. ورغم أن كلا الكتلتين – الغربية والشرقية – تتحركان ضمن منطق المصالح، إلا أن الفروقات بينهما جوهرية في طبيعة الحوافز، ومآلات التأثير، وحدود الضرر.

 

لقد ثبت أن الهيمنة الغربية، وإنْ كانت مشبعة بالانتقائية والمصالح، إلا أنها محكومة بشبكة من المؤسسات والمبادئ التي تسمح – ولو نسبيًا – بفتح نوافذ للتحول الديمقراطي، وتحقيق بعض المكاسب للمجتمع المدني والحقوقي. في المقابل، تعمل الهيمنة الشرقية بأساليب أكثر صلابة، وتُراهن على ديمومة النظم السلطوية، مما يجعلها خطرًا مضاعفًا على المجتمعات الهشة.

 

ولعلّ الفارق الأوضح يتجسّد في أدوات الهيمنة الاقتصادية، وعلى رأسها الشركات، التي تبرز كمؤشر دقيق على فلسفة الكتلة التي تنتمي إليها : فبينما تسعى الشركات الغربية، أحيانًا، للعمل في بيئات تخضع للقانون وتحت رقابة نسبية، تعمل الشركات الشرقية على تعميق علاقات الزبونية والاعتمادية مع الأنظمة المستبدة، دون اعتبار لمصلحة الشعوب.

 

بهذا المعنى، فإن المطلوب من الفاعلين في الدول الضعيفة، مثل السودان، ليس الانخداع بخطاب “رفض الهيمنة” بشكل شعاراتي، بل تفكيك طبيعة هذه الهيمنة، وطرح أسئلة أكثر تعقيدًا وواقعية حول: أيّ نمط من الهيمنة نواجه؟ وما هو الأفق الممكن للتحرر منها؟ وهل كل دعم خارجي سواء، أم أن في التفاصيل يكمن الفارق الجوهري بين من يدعم النظام ومن يراهن على المجتمع؟

 

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الورقة لا تزعم امتلاك الحقيقة الكاملة، ولا تدّعي الحسم في القضايا المعقدة التي تناولتها، بل تسعى لفتح باب النقاش الموضوعي حول طبيعة العلاقة بين الغرب والشرق، ودور القوى الدولية في تشكيل مصائر الدول الهشة. إن المقارنة التي طُرحت هنا، بما تحمله من شواهد وتجارب، تمثل دعوة للتأمل النقدي والتفكير الجماعي في الخيارات الممكنة، لا فرضًا لرؤية أحادية أو اصطفاف مسبق.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..