سجدة بكامل الأناقة ورؤيا في مقام الفخامة: الدين عندما يصبح شغل دنيا

خالد فضل
آن همند ؛ إحدى شخصيات رواية موسم الهجرة للشمال للأديب الراحل الكيب صالح , ابنة ضابط في سلاح المهندسين , درست في مدرسة للراهبات وألتحقت بكلية الدراسات الشرقية في جامعة أكسفورد , كانت تحنّ إلى الشرق ومترددة في إعتناق البوذية أو الإسلام .
الأديان في شرق الكرة الأرضية لها سحر خاص , فارق التقدم الحضاري المادي على الاقل يجعل للغيب عمقا أكثر , العجز المعرفي وتصور الهوة في مستويات الحياة والرفاهية تجعل الإنسان يبحث عمّا يهدئ روعه , يقلل له الفارق , فلا يجد في معطيات واقعه ما يسنده , عندها يهفو إلى الغيب , إلى تصورات ليس بالضرورة أنّها صحيحة , لا أحد يمكنه الإحاطة بقدرة تلك التصورات على التشكّل والتلوّن في كل لحظة . لا يستطيع الفرد الإمساك بجسم صلب للتصور حتى يستقر على هيئة محددة . حتى الإله نفسه يقع في دائرة التصوّر , فهو كائن في كل مكان وزمان مثلا . هل وجوده هنا مادي أم معنوي ؟ في الماخور والمسجد والدير ؟ أم وجود معنوي , عند الفرج والضيق . لحظة إرتكاب الجريمة وساعة إنصاف الضحية . في أتون المفسدة وعزّ النزاهة ؟ .. إلخ
تمثل الحضور بين يدي ذلك الإله , عبر السجود في طقوس الصلاة عند المسلمين , أو عند سجود في ملعب رياضة عرفانا وشكرا على نعمة التوفيق . أو عند نزول من سلّم طائرة سفرية تحط في مطار بورتسودان . شعور بالانتصار أم فرحا بملاقاة الأهل والصحاب . أم دعوة من أقصى مواضع الخضوع بالتوفيق !! كل ذلك يدخل في حيّز الفشخصي , إذ لا يعرف كنه المشاعر غير صاحبها . لعل سؤالا مثل هذا يطرح على البروفسور كامل إدريس ليجيب . ولكن هل من المتوقع أن تجيب كلماته عن جوهر الشعور , لا أتصور ذلك , فكثيرا ما يخط الكاتبون أنّ المشاعر لا تحيط بها اللغة مهما كافحت . وتلك حقيقة . وتبقى تلك السجدة في نطاق التأويل , الركون إلى سحر الشرق وغموضه ؛ ذاك الذي قاد في النهاية إلى انتحار آن همند حسبما تقول الرواية . أمّا واقع الحياة العملية التي خاض في لججها المتلاطمة السيد إدريس , وحصد فيها درجتاته العلمية الأعلى , وتلقد المناصب الأممية الرفيعة , فإنها تؤشر إلى موجودات يمكن لمسها مباشرة , على راسها مشروعية التعيين نفسها , فهل في قناعات واستنتاجات من حصل على درجة الدكتوراة في القانون أو حقل مشابه أنّ تلك الشرعية قد إنعقدت بحق للسيد البرهان بوظيفته في الدولة (قائد الجيش) , أم بوضعيته المعنوية كقائد لحرب التحرير والكرامة ؟ لقد خضع سلفه د. عبدالله حمدوك لقائد الجيش , و وقع معه على اتفاق يقضي بتثبيته في المنصب بموجب قرارات (التصحيح) . لكن الشارع الثوري العملي لم يمنح الشرعية لذلك الاتفاق ,تواصلت الاحتجاجات السلمية الداعية لخروج العسكريين تماما من السلطة وشؤون الحكم والإقتصاد . وبالنتيجة استقال الرجل , أعاد الأمانة للشعب كما قال . فهل يسجد مدير عام منظمة الملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة أمام جبروت الجنرال , متجاهلا حقوق الملكية الفكرية للثورة , أم تراه يرى شرعية انعقدت من لدن أضراب الحاج حمّاد عبدالله حمّاد بتأبيد وصاية الجيش على الشعب إلى يوم القيامة !! وهل تلك السجدة ؛ المرتبطة بالصلاة طبعا , ستصبح هي بوصلة إدارة أجهزة الحكم , بحيث يصبح تحديد برنامج رئيس مجلس الوزراء مرتبطا مثلا بوقت صلاة الظهر وضرورة أن يؤم المصلين في المسجد الكائن بالضرورة ضمن مباني مجلسه , بصفته أمير الجماعة . وقد كان خلفاء المسلمين رضوان الله عليهم أجمعين يؤمون المصلين ضمن أعباء منصبهم . أو أنّ تلك السجدة لا علاقة لها بالدولة وشؤون الحكم وتدخل في حدود المعتقد الشخصي لشاغل المنصب المرموق . وبالتالي إدارته لتلك الشؤون بمعزل عن المعتقدات الدينية , في هذه الحالة هل يستطيع د. كامل أن يعبّر عن كامل قناعته بالتفريق اللازم بين شؤون الحكم والسياسة والدين ؟ وهنا يتفق مع ميثاق التأسيس . ويكون ذلك مدخلا لنقاش سياسي دنيوي يرتبط بمصالح زمنية للناس غض الطرف عن اعتقادهم في أي دين .
أين سياق الدعوة للتفاوض هنا , من محددات عملية واقعية قوامها , استحالة الحسم العسكري , فداحة إسلوب (بل بس) , بوار مشروعية الكرامة , تلافي العقوبات الأمريكية على خلفية الاتهامات باستخدام السلاح الكيماوي , تفاهمات إقليمية ودولية واجبة التنفيذ وإلا ستكون العقوبات ربما تستأصل شأفة أكبر المشعلين والداعمين للحرب من جماعات الإرهاب السياسي تحت لافتة دين الإسلام .
أم أنّ الدعوة للتفاوض جاءت على صورة رؤيا منامية لرجل مجاهد قضى الشهور الطويلة ممسكا بالزناد مدافحا عن مقر قيادة سلاح المدرعات في الخرطوم , لنعلم نحن معشر السودانيين قدسية تلك المباني , وموقعها في الدين الإسلامي ؛ فقد جاء في بيان لحزب المؤتمر الوطني (الحركة الإسلامية) يومذاك ؛يدعو عضويته للاستنفار زودا عن حمى تلك القيادة الكائنة في جنوب الخرطوم لأن سقوطها يعني سقوط الإسلام . الآن يعود الشيخ المجاهد يقص رؤياه على المصلين , وهو يجلس إلى جوار النبي محمد بن عبدالله عليه السلام . وحول الرسول خلق كثير يلبسون الجلاليب السودانية , ومما يذكره نصا , وصية المعصوم ؛ بأن يبلّغ الجيش والدعم السريع للتفاوض فالحرب انتهت . الرسول لم يستخدم مصطلح المليشيا أو التمرد أو آل دقلو .. بل استخدم النص الموجود في قانون 2017م , وما تلاه من وثائق . يبقى في هذه الحالة أنّ النبي الكريم قد حدد للمجاهدين الصفة والمطلب تجاه الدعم السريع .اتفق حديث سيد المرسلين مع أدبيات الدول والهيئات العالمية والقوى السياسية المدنية السلمية في توصيف الطرفين كما هو موجود . فهل يستجيبون لرؤيا الرجل الصالح ووصية أشرف خلق الله أجمعين . المشكلة هنا فقط, من يقنع مناوي , فرئيس الوزراء , جاهز والناطق الرسمي الإعيسر يهفو للصلح مع الدعم السريع ..