مقالات سياسية

حين يصبح الصمت خيانة: ردا على بيان الحركة الشعبية – قيادة عقار بشأن العقوبات الأمريكية!

محمد عبدالله إبراهيم

طالعت بياناً صادراً عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، قيادة مالك عقار، ممهوراً بتوقيع ناطقها الرسمي صادر بتاريخ 23 مايو 2025، تحت عنوان “استنكاراً للعقوبات الأمريكية الجائرة المفروضة على السودان”، قرأته مرة، ثم ثانية، ثم ثالثة ..، وكلما أعدت قراءته ازداد شعوري بالدهشة والارتباك والذهول، راودني الشك في صحة البيان؛ ظننته ربما مفبركاً، أو مختلقاً على عجل من مخيلة خصم أراد أن يسحب الحركة إلى درك السخرية، غير أنني سارعت إلى التحقق، فقمت بمراجعة صفحات عدد من الرفاق في الحركة بما في ذلك الصفحة الرسمية للناطق باسمها، ووجدت البيان موجوداً، وتأكد لي حينها أنه حقيقي وصادر عن الحركة بلا لبس.

عندها فقط أصبت بصدمة كبيرة وخيبة أمل تتجاوز حدود الانتماء، وقلت لنفسي “أيمكن أن يبلغ النفاق بهذا الكيان حد أن يتماهى هكذا؟ وهل كنا نغرق معهم في هذا المستنقع من القبح والتزلف دون أن ندري؟ أم أن هناك خطأ ما حدث؟ مثل “تصرف فردي، خلل بنيوي ضعف التجربة ..الخ”.

وكنت مدركاً ان مالك عقار الذي قضى نصف عمره في الكفاح المسلح، وذاق مرارة الحرب والمنفى ليس وحده؛ بل دفع أهله ومجتمعه في النيل الأزرق ثمن تمرده، وقدمت التضحيات من كل بيت ومن كل حي، ومن كل جذور الأرض التي نبت فيها حلم العدالة، ولكنني مرتبكاً حول كيف أفسر اليوم هذا الموقف؟ وكيف افهم بياناً يدين من أدان القتلة، ويبرر باسم الوطن تلك الجرائم التي وقعت على ذات الجغرافيا التي ولدت منها الحركة نفسها؟

وانني أدرك جيدا إن الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش السوداني والدعم السريع، ليست سوى تكرار قاتم لسيناريوهات مألوفة، وهي شبيهة بالحرب الثانية التي اندلعت بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش السوداني، قبيل انفصال جنوب السودان، في جبال النوبة في 6 يونيو 2011، والنيل الأزرق في 5 سبتمبر 2011، والخطابات هي ذات الخطابات، والحجج هي نفس الحجج، “عملاء، ومدعومون من الخارج، وأعداء الإسلام والعروبة ..الخ، وهي أسطوانة مشروخة استخدمت منذ عشرات السنين لتبرير قتل الأبرياء وشيطنة الخصوم.

لقد كنت حتى قريب، أحد قادة هذه الحركة، واختلفت مع رئيسها حول قضايا جوهرية، كان يعترف بها في السر، ويهرب منها في العلن، بل كان يحاول التماهي معها رغم خطورتها على الحركة وارثها النضالي، وعليه؛ غادرتها في أغسطس 2024، ولكنني قطعت عهداً مع نفسي أن أحفظ أدب الخلاف، وألا أتناول شؤون الحركة أو قياداتها في العلن، وظننت أن الصمت فضيلة، ولكن هناك لحظات يصبح فيها الصمت جريمة، بل يصبح خيانة، وخاصة عندما تكتب الكلمات كتمائم لطرد اللعنات، ويغلف الدم بالقماش الوطني وتغتصب الحقيقة باسم الوطن، فإن الرد لا يعود خياراً بل واجباً، وعليه يأتي هذا المقال للرد على البيان، فضلا عن انني لا زلت على العهد الذي قطعته مع نفسي، في الالتزام الأخلاقي، الا في الحالات التي تستدعي ذلك.

نعم، وللأمانة والتاريخ ان تلفيق الكذب والنفاق والتملق والحقد كانوا حاضرين وسط الرفاق داخل الحركة، ولكن لم أكن لأتخيل أن تبلغ الأمور هذا الحد من الوقاحة الرسمية، درجة أن يصدر بيان رسمي باسم الحركة، يشجب عقوبات فرضت على دولة لا لحصار اقتصادي أو استهداف سياسي، بل بسبب استخدام الجيش لأسلحة كيميائية محرمة دولياً، وهو أمر يندى له جبين التاريخ، وعلى الرغم من انني كنت من انصار ان العقوبات يجب ان توجه الى قادة الأطراف المتحاربة مباشرة وليس الدولة، غير انني أيضا ادرك تماما بان الجهات التي فرضت العقوبات باسم الدولة ربما تمتلك ما يبرر لها.

وعلى الرغم من ان بيان الحركة الذي يستنكر العقوبات الأمريكية، لم يذكر او يبين نوع العقوبات المفروضة، كما لم يشير من بعيد او قريب على الأسباب او المزاعم التي تسببت في فرض هذه العقوبات، الا انني أدركت انه يشير الى العقوبات الامريكية التي فرضت على السودان بسبب استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيماوية والقنابل المحرمة دوليا.

ان الأسلحة الكيميائية ليست خرافة ولا تهمة مبالغ فيها، بل هي واقع متكرر، وقد حفر بصمته السامة في جسد ملايين السودانيين، منذ أن اختارت الدولة السودانية وتحديدًا جيشها أن تستخدم أدوات الإبادة ضد شعوبها بدلاً من حمايتهم، واستخدمت ليس دفاعاً عن تراب الوطن، بل تنفيذاً لإرادة سلطة ترى في التنوع مهدداً وفي الاختلاف خصومة.

فمنذ ثمانينات القرن الماضي لم يتردد الجيش السوداني في استخدام القنابل والأسلحة المحرمة دولياً ضد المدنيين العزل في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، ولم تكن تلك مجرد حملات عسكرية، بل كانت عمليات ممنهجة لاجتثاث حياة آلاف المواطنين في تلك المناطق بسلاح لا يترك جرحاً يرى، بل يفتك من الداخل ويحول الهواء والماء والتربة إلى سموم صامتة والغام زمنية تقتل من بعد.

وأدى الاستخدام المتكرر لهذه الأسلحة إلى مقتل الآلاف، ولا تزال آثار تلك السموم الكامنة تزهق الأرواح وتشوه الأجساد وتقيم في أرض تلك المناطق خراباً ودماراً هائلاً، وهنالك آلاف المواطنين لا يزالون يعانون من أمراض بلا دواء ومن عاهات بلا تفسير بسبب الأسلحة والقنابل الكيماوية المحرمة دولياً، ولكن .. لماذا لم يحاسب أحد؟ ولماذا بقيت هذه الجرائم طي النسيان؟

لم يكن غالبية الشعب يعلم .. لأن الإعلام في ذلك الزمان كان موجه ويدار من قبل الدولة، وكان كل من يقول الحقيقة يتهم ويعذب ويقتل، ولم تكن هناك فضائيات مثل اليوم ولا إنترنت ولا منصات تظهر للعالم وللشعب السوداني وجوه الأطفال الذين احترقت رئاتهم من دون نار، أو النساء اللواتي ماتت أرحامهن بعد تنشق الغازات القاتلة.

ومع ذلك، وعلى الرغم من محدودية الوصول الى المعلومات في ذلك الزمن المظلم، الا ان الأمر لم يمر من دون شهود، ففي عام 2000، أثارت منظمة العفو الدولية تقارير عن استخدام أسلحة كيميائية في مناطق التمرد بجنوب السودان وجبال النوبة/جنوب كردفان، والنيل الازرق، ثم تكررت التقارير عام 2004، ومع تصاعد الحرب في دارفور بلغت ذروتها مع تقرير المنظمة عام 2016 بعنوان “الأرض المحروقة – الهواء المسموم”، الذي وثق استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية في جبل مرة، فيما اعتبر حينها من أخطر الهجمات الممنهجة ضد المدنيين، وأشارت المنظمة إلى 32 هجوماً كيميائياً أودت بحياة مئات الأطفال والنساء، وخلفت تلوثاً بيئياً وصحياً سيستمر لأجيال.

وانني ادرك تماما بان قيادات كثيرة داخل الحركة الشعبية والجيش الشعبي، وعلى رأسها مالك عقار، يعلمون هذه الحقائق جيداً، بل ويعرفون العشرات من رفاقهم ومن المواطنين من الذين تعرضوا لتلك الأسلحة والقنابل المحرمة دوليا، ويتذكرون من عاشوا بأجساد شوهتها تلك السموم.

واليوم، في ظل حرب جديدة منذ أبريل 2023، تعود الأسلحة الكيماوية إلى الواجهة، ولكن هذه المرة تحت عالم متطور وتكنلوجيا حديثه وأعين مفتوحة في عصر الإنترنت والكاميرات والوثائق المصورة، كما ان أفراد من الجيش أنفسهم وثقوا مشاهد تثبت استخدم الجيش لتلك الاسلحة، والفيديوهات تملأ السوشيال ميديا، وهذه الجرائم ليست لغزاً، ولا تحتاج إلى الاجتهاد في التأويل أو النفي، والحركة الشعبية ليست مؤهلة أصلًا لنفيها أو إثباتها؛ لأنها لا تعرف شيئاً عن خطط الجيش أو مساراته أو أسلحته في هذه الحرب ناهيك عن السلاح الكيماوي، والحركة لا يتعدى دورها من مجرد ذراع تعبئة واستقطاب، وارسال أبناء القرى المهمشين وقوداً لهذه الحرب العبثية اللعينة.

وحين وجهت الولايات المتحدة اتهامها المباشر للجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية، كان من الأجدر بالحركة أن تصفق، وأن تستعيد وجعها وأن تنتصر لذاتها قبل أن تبيعها، لأنها كانت احدى ضحايا هذه الأسلحة منذ عشرات السنين، لا أن تتحول إلى مدافع أعمى عن نفس اليد التي صفعتها يوماً ما، وواشنطن ليست في حاجة من الحركة في ان تثبت لها او تنفي استخدام الجيش للأسلحة الكيمائية، كما ان رفض او قبول الحركة بقرارات واشنطن لا تعني شيئاً ليس فقط لواشنطن، وانما للمجتمع الإقليمي والدولي ايضا، بل حتى للشعب السوداني الذي نجده محشورا في البيان.

وللحقيقة أن الفضيحة ليست في العقوبات، بل في أن تصدر حركة تدعي التاريخ الثوري بياناً كهذا، وأن تهرول للدفاع عن نفس المؤسسة التي ارتكبت أبشع الجرائم بحقها، وتبرر أفعالاً كانت وما تزال جرائم، وأن تغدو بوقاً للجيش الذي استخدم نفس الأسلحة ضدها وضد مواطنيها في عدة مناطق في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق، وتدافع عنها في جرائم يراد لها الآن أن تغلف بشعارات السيادة والأمن القومي، .. لو بعث زعيم ومؤسس الحركة الشعبية والجيش الشعبي، القائد الدكتور جون قرنق من قبره، وقرأ هذا البيان، لمات مرة أخرى، بل لمات مرات، ولرفض ان يبعث مرة أخرى.

أيعقل أن حركة تحمل في اسمها “التحرير” تتبنى خطاباً يعيد إنتاج نفس منطق المركز السلطوي الذي قاومتموه لعقود؟ وتتحول إلى نسخة مشوهة من السلطة التي قاومتها؟ .. أليس هذا انقلاباً على مبادئ نشأت عليها حركات التحرر من جنوب إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، بأن الكفاح لا يوجه ضد الشعوب بل من أجلها؟

المؤسف؛ ان البيان يزعم بان القرار الأمريكي يستند إلى “تقارير مغلوطة”، فهل كانت جثث الأطفال وقصف الأسواق والمستشفيات والمجازر في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، مجرد شائعات؟ هل كانت عشرات الآلاف من الجثث المرمية تحت الأنقاض وتقاير المنظمات منذ “2000-2016” أكاذيب؟ وفي هذه الحرب، هل أنكر العالم على مدار أكثر من عامان حقائق موثقة بالصوت والصورة لمجرد أنه “لا يفهم الواقع السوداني” .. وهل أصبحنا نعيش في عالم لا يرى ولا يسمع ولا يشعر، لمجرد أن الحقيقة لا تناسب الحلفاء الجدد، وان كل ما يشاع محط أكاذيب مغلوطه؟

يا للعجب! يتحدث البيان عن “القرار الأمريكي الجائر”، وكأن العقوبات الأمريكية هي التي مزقت أوصال السودان، لا حمى الحرب التي ساهمت فيها الحركة، ولا خطابات التجييش والتبرير التي تصدر عنها، ولا شهوة السلطة التي تنطق بها بياناتها، ولا الحماسة الزائفة التي تخفي في طياتها عقدة الانهزام.

ويا لسخرية التاريخ .. البيان ذكر ان القرار “يأتي في ظِل التقدم الواسع للقوات المسلحة والقوات المساندة لها في مختلف المحاور”، أي تقدم تتحدثون عنه وأنتم تزحفون فوق جثث الأبرياء، وتصفقون لانهيار ما تبقى من الدولة .. أتقيسون النصر بعدد المدن المحترقة أم بعدد القرى المهجرة ام بعدد ملايين السودانيين الذين هربوا من هذه الحرب الى معسكرات النزوح واللجوء في المنافي والشتات، ام بعدد ملايين الجوعى والمحرومين من الأطفال والنساء وكبار السن؟ وهل بات “التحرير” مرادفاً لتكريس الانقسام وشرعنة الانحياز المطلق لسلطة السلاح؟

ثم تأتون في نهاية البيان لتخاطبوا الشعب السوداني، وتطلبوا توحيد الصفوف، عن أي صفوف تتحدثون؟ الصفوف التي دفنت في المقابر الجماعية؟ أم تلك التي تنتظر مصيرها في التهجير والتجويع؟ أم أولئك الذين لا صوت لهم لأن أصواتهم تقمع باسم “الانتصار والسيادة؟”، .. أيها الرفاق افضل لكم ان تمتعوا بما شئتم من المال والسلطة لان هذه الحرب هي فرصتكم، وان التجارة في زمن الحرب مربحة لعديمي الضمير والأخلاق، .. تاجروا بالحرب كما يحلو لكم ولكن بصمت ودون هرجلة او ضجيج او نفاق مفضوح، وإذا خانتكم الظروف او اجبرتكم لبيع القيم والمبادئ، ولم تستطيعوا أن تحافظوا على الضمير والأخلاق، فقد تذكروا شيئا واحدا على الأقل .. تذكروا قيم الرجولة والإنسانية التي لا تتجزأ، وحافظوا على كرامة من ماتوا وهم يظنون أنكم تقاتلون لأجلهم.

ان من يتحدث عن السلام والعدالة الاجتماعية، لا يمكنه أن يبرر أو يصمت إزاء استخدام الأسلحة والقنابل المحرمة دوليا خاصة داخل مدن ومناطق مأهولة بالسكان سوى من طرفه او من أي طرف يحالفه، ومن يزعم امتلاك إرث نضالي لا يضع يده في يد من تلطخت أيديهم في قتل الشعب بالكيمياء والغازات، واعلموا ان لا مجال للمساومة في هذه الجريمة، لأنه عندما يستخدم غاز الخردل ضد طفل، أو تدفن أسر كاملة تحت تراب مشبع باللويسيت والزرنيخ، لا يعود السؤال حول من ينتصر؟ بل حول من تبقى منا إنساناً؟

ان قرارات الولايات المتحدة يجب ان لا تقتصر على واشنطن، بل أن تشمل كل دولة في الإقليم والعالم، وعلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والجنائية الدولية أن تتحرك بشكل عاجل، ولا يمكن للإنسانية أن تقف متفرجة ولا الزمن أن يعفي الجريمة من عقابها.

حين تستخدم أسلحة كيميائية ضد الأبرياء، لا يعود الصراع صراعاً سياسياً، بل يتحول إلى سؤال وجودي؛ هل ما زلنا بشراً؟ هل من الممكن أن يحكمك نظام يرى أن إبادتك الغازية هي طريقه للبقاء؟، علما بإن استخدام هذا النوع من السلاح ليس فقط جريمة حرب، بل هو نفي كامل لفكرة الحياة، واغتيال لحق الإنسان في أن يتنفس الهواء دون خوف، والسكوت على استخدام الأسلحة الكيميائية هو اشتراك غير معلن في الجريمة، ووصمة عار في جبين كل من يلتزم الحياد باسم الدبلوماسية أو التوازن أو الحسابات السياسية، والسودان اليوم لا يحتاج إلى بيانات القلق، بل إلى قرارات شجاعة تعلي من قيمة الحياة وتحاكم كل من دنسها باسم السلطة أو الوطنية او العقيدة أو السلاح.

أخيرا: أقول للرفاق .. ان الشعب السوداني ليس ساذجاً ليؤمن بشعاراتكم وليس غبياءا ليخدع ببيانكم هذا، ويكفي انه الشعب الذي خرج في ديسمبر يحمل حلماً بوطن جديد، ولا ينتظر منكم “توجيهات”، بل محاسبة، ولا يقبل منكم تبرير الجرائم، بل اعتذاراً صريحاً وانسحاباً نهائياً من مشهد شوهتموه مع الاخرين.

كفاكم نفاقاً .. وكفى السودان منكم ومن الحرب”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..