مقالات وآراء سياسية

السودان بين أنقاض الحرب وتقاعس الدولة: عندما تلد المؤسسة العسكرية أبناءً ينهشون الوطن

حامد عثمان محمد

 

في ظل أتون الحرب التي تمزق السودان، تتكشّف أمامنا حقائق قاسية لا يجوز إخفاؤها وراء شعارات الوطنية الزائفة. فالمأساة التي تعصف بهذا الوطن الجريح ليست نتاجَ صراعٍ عفوي أو خلافٍ مرحلي؛ بل هي نتيجة مباشرة لمنهجية التسلّط العسكري وتفريخ المليشيات، التي جعلت من الدولة السودانية كياناً هشّاً عاجزاً عن حماية شعبه أو صون ترابه.

من رحم المؤسسة العسكرية، خرجت قوات الدعم السريع، بدايةً كأداة أمنية لقمع التمرد في دارفور في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثم ما لبثت أن تحولت إلى ذراع قمع مركزي، استخدمها نظام البشير في قهر الثوار وترويع الشعب. هذه القوات لم تنشأ خارج الدولة، بل من داخلها، بتمويل حكومي وتسليح رسمي وإشراف مباشر من القيادة العامة للجيش.

 

وما يؤكد ذلك:

أن قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عُيِّن بمرسوم رئاسي في 2013، وصُرفت له مخصصات ضخمة من وزارة المالية كما وثّقت وثائق مسرّبة نُشرت في تقارير العربي الجديد (2020) والجزيرة الوثائقية.

تقرير مجلس الأمن الدولي في ديسمبر 2023، أشار صراحة إلى ارتكاب قوات الدعم السريع والجيش السوداني جرائم حرب ضد المدنيين، وأكد أن الطرفين يتقاسمان المسؤولية عن تدمير البنية التحتية الصحية والإنسانية في الخرطوم ودارفور.

لقد استخدمت المؤسسة العسكرية الدعم السريع كأداة ضد الشعب، حتى في أشد اللحظات التاريخية، كما حدث في فضّ اعتصام القيادة العامة في يونيو 2019، حين أُريقت دماء المئات من الشباب العزّل. ثم، وبعد سقوط النظام، لم تعمل القيادة العسكرية على تفكيك هذا الكيان، بل استمر التنسيق والتعايش معه داخل مؤسسات الدولة، إلى أن اشتعلت نيران الصراع في أبريل 2023، وخرج الابن المتمرد عن سيطرة الأب، ليبدأ الطرفان في تمزيق الوطن باسم استعادة الشرعية وحماية الدستور، بينما الشعب يُقصف ويُشرّد ويُغتصب.

 

الخراب لم يتوقف هنا. بل إن ذات الرحم العسكري ما زال يلد مزيدًا من المليشيات. ففي مناطق مثل كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، تتكاثر القوات الموازية تحت مسميات محلية أو قبلية أو حتى باسم قوات الدفاع الشعبي الجديدة، وتُستخدم كسلاح سياسي في الصراع بين الفصائل العسكرية.

 

لقد تحوّل الجيش من مؤسسة وطنية إلى كيان سياسي اقتصادي يحتكر المال والسلاح والسلطة، ويُنتج خصومه من داخله، كما أن الدعم السريع لم يكن أكثر من نتيجة لهذا الاختلال البنيوي. وبالتالي، لا بد أن يبدأ أي إصلاح حقيقي من الاعتراف بهذه الحقيقة المؤلمة: لا مستقبل للسودان ما لم تُفكك هذه المنظومة العسكرية المترهلة، ويُعاد بناء جيش وطني موحد يخضع للرقابة المدنية، وتُحل كل المليشيات، دون استثناء.

 

على الشعب السوداني ألا يُخدع مجددًا بحوارات التسوية الشكلية، ولا بوعود العسكر. فالتاريخ القريب مليء بالغدر والانقلابات والتحالفات الخبيثة. والمطلوب اليوم ليس مصالحة بلا عدالة، بل مساءلة ومحاسبة، ونظام جديد يؤسس لوطن يعيش فيه الإنسان السوداني بكرامة، لا كضحية دائمة لمعارك السادة.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..