خطاب حميدتي لم يحمل سوى قليل من الاعترافات

عثمان فضل الله
لم يحمل بعضها عليه واخرى له وبالمجمل يمكن وضع الخطاب في خانة التصعيد اللفظي إذ لوّح باحتمالية تحرك قواته نحو الولاية الشمالية، وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يملك الرجل فعليًا القدرة العسكرية للوصول إلى هناك، وهو الذي عجز حتى الآن عن حسم معركة الفاشر؟ الواقع الميداني والقراءة الجيوسياسية يضعان علامات استفهام كبرى حول مدى جدية هذا التهديد، ويرجحان كونه جزءًا من أدوات الحرب النفسية أكثر من كونه خطة عمليات قابلة للتنفيذ.
أول ما يواجه هذه الفرضية هو الواقع الجغرافي والعسكري؛ فالدعم السريع يعاني من الاختناق الميداني والتراجع في عدة جبهات، أبرزها الخرطوم وغرب كردفان والفاشر. ولا تزال قواته عاجزة عن إسقاط الأخيرة رغم الحصار الطويل، ما يثير تساؤلات حقيقية حول مدى قدرتها على خوض عمليات هجومية في اتجاه أبعد وأصعب كالولاية الشمالية، التي تفصلها عنها مسافات شاسعة وأراضٍ غير مأهولة تُسهّل للرصد الجوي والهجمات المباشرة.
علاوة على ذلك، فإن البيئة الاجتماعية والسياسية في الشمالية تشكل عائقًا حقيقيًا أمام أي تحرك لقوات الدعم السريع. فالمنطقة تُعد من آخر معاقل الدولة المركزية المتماسكة، وتحظى بحاضنة قوية مؤيدة للجيش، كما أنها ترتبط تاريخيًا بالمؤسسة العسكرية وبتيارات الإسلام السياسي، التي يهاجمها حميدتي باستمرار في خطابه. من دون حاضنة محلية، تبدو أي مغامرة عسكرية هناك محفوفة بالفشل ومفتقدة للغطاء الشعبي أو حتى اللوجستي.
ومن الناحية العسكرية البحتة، فإن أي تحرك نحو الشمالية سيفرض على الدعم السريع الخروج من مناطق التمويه والتكتيك الحضري إلى جغرافيا مفتوحة يسهل رصدها واستهدافها، خصوصًا مع تزايد نشاط الطيران الحربي في استهداف أرتاله مؤخرًا. كما أن قواته ستكون مكشوفة أمام الهجمات الجوية من دون حماية طبيعية أو تغطية مدنية، الأمر الذي يضعف قدرتها على المناورة أو المفاجأة.
لذا، يبدو هذا التهديد يحمل أبعادًا سياسية أكثر من كونه تعبيرًا عن نية عسكرية فورية. فبإثارة شبح التمدد نحو الشمالية، يسعى حميدتي إلى ضرب العمق الرمزي والسياسي للجيش السوداني، من خلال الضغط على مناطق نفوذ الإسلاميين، وزرع القلق داخل القاعدة الاجتماعية للسلطة المركزية. وهو خطاب يستهدف كذلك إثارة الانقسام داخل المناطق الداعمة للجيش ، عبر إيهامها بأنها لم تعد محصنة جغرافيًا أو سياديًا.
كما لا يمكن فصل هذا التصعيد عن محاولة الدعم السريع صرف الأنظار عن إخفاقه في دارفور، لاسيما في الفاشر، حيث واجه مقاومة شرسة من الجيش وقوات حركات دارفور رغم الحصار الطويل. تهديد الشمالية في هذا السياق يبدو محاولة لتوسيع المشهد والتلويح بقدرة مزعومة، تعوّض العجز الميداني بإثارة الرعب المعنوي، بما يشبه ما يُعرف في العلوم العسكرية بـ”الهجوم الخطابي”، حين يصبح التهديد سلاحًا نفسيًا بحد ذاته.
وعليه، فإن خطاب حميدتي الأخير لا يعكس تحولًا حقيقيًا في موازين القوة، بل يُقرأ باعتباره تصعيدًا دعائيًا موجهًا لإرباك الخصم وخلخلة الجبهة الداخلية، دون امتلاك الأدوات الفعلية لترجمته ميدانيًا. ومع ذلك، فإن استمرار هذا النوع من الخطاب قد يغذي ديناميكيات أكثر خطرًا على تماسك الدولة السودانية، في ظل حالة السيولة السياسية والانهيار المؤسسي الذي تعيشه البلاد،خاصة أن الخطاب في مجمله حمل عبارات موغلة في الكراهية وتحقير الآخر.
فيسبوك
تحليل علمي دقيق ومتماسك كما عودنا دايما عثمان فضل الله