الحرب الصامتة: اغتيال العقل المدني

عصام عباس
وسط دوي المدافع وأزيز الطائرات وتدمير المدن وتفكيك القرى، تجري معركة أخرى في صمتٍ قاتل في السودان، لا تقلّ خطورة عن الحرب العسكرية، بل تتجاوزها أحيانًا في الأثر والتأثير: إنها الحرب النفسية التي تستهدف رموز وقادة المجتمع المدني والسياسي، بهدف تقويض ما تبقى من وعي جماعي يسعى للتغيير والبناء ويعيد البسمة التي فارقت الشفاه. لقد أصبحت الساحة السودانية مسرحًا للاغتيال المعنوي الممنهج، تتعرض فيه الشخصيات العامة المدنية لحملات تشويه، وتصفية عبر الإعلام والجيوش الإلكترونية، ضمن استراتيجية تستهدف القضاء على الحلم المدني ومشروع الدولة الديمقراطية.
ما هو “العقل المدني”؟ ولماذا يُستهدف؟
العقل المدني ليس مجرد مجتمع المثقفين أو الناشطين في مجال صناعة المدنية، بل هو تعبير عن سلوك واتجاه مجتمعي يرفض الحلول العسكرية والسلطوية، ويرتكز على قيم التعايش، والمشاركة، والحقوق، والديمقراطية. يتجسد هذا العقل في الرموز والشخصيات الوطنية من الحقوقيين، والإعلاميين، والناشطين، والفاعلين في منظمات المجتمع المدني وغيرهم. هؤلاء لا يملكون جيوشًا ولا مليشيات، لكنهم يملكون قوة الكلمة والرؤية.
استهداف هذا العقل هو استهداف لفكرة الدولة المدنية ذاتها. فحين تُشوّه صورة رموز الديمقراطية، ويتم وصمهم بالخيانة أو الفساد أو العمالة، فإن الهدف ليس شخصهم الطبيعي، بل المشروع الذي يمثلونه. لذلك تتسع دائرة التشويه لتطال ليس فقط من هم في قلب المشهد، بل حتى من يحاولون أن يكونوا جسورًا للحوار أو يقدمون رؤى إصلاحية.
أسلحة الحرب النفسية: مسيًرات التشويه وقاذفات الاشاعة
تعقيدات المشهد السياسي والانقسام الاجتماعي الذي تعيشه بلادنا جعلت الحرب النفسية أحد الأسلحة الرئيسية في الصراع، فقد أدخلت هذه الأسلحة النوعية بشكل منظم لهدم ثقة المجتمع في رموزه المدنية الحقيقية وإنتاج فضاء مدني من الدمى التي تحركها السلطة العسكرية كيفما تشاء. هذه الحرب لا تُخاض بالبنادق، بل بالإشاعة، والتضليل، والابتزاز، والتشهير، عبر وسائل متعددة تقودها أطراف ذات مصلحة في استمرار الفوضى .
تبدأ أدوات هذه الحرب من وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنشط “الجيوش إلالكترونية” – بعضها تابع لأطراف عسكرية أو أمنية، وبعضها مرتبط بجهات داخلية وخارجية – تقوم بإنتاج ونشر محتوى مفبرك، يتراوح بين مقاطع صوتية مزيفة، وصور مركبة، وتغريدات منتحلة تُنسب إلى الشخصيات المستهدفة.
الإشاعة هنا لا تهدف فقط إلى تضليل الجمهور، بل إلى بث الشك والريبة، وتشويه السمعة، وإحداث شرخ في الثقة بين القادة المدنيين وقواعدهم الاجتماعية. فالمستهدف ليس فقط “الرمز”، بل أيضًا “المتلقي” الذي يُراد له أن يفقد الثقة، ويغرق في بحر من الالتباس والضباب.
كما لا يقتصر الأمر على الفضاء الرقمي، بل يمتد إلى بعض وسائل الإعلام التقليدية كمنابر المساجد مثلًا، التي تتبنى خطابًا عدائيًا ضد الشخصيات المدنية، وتعيد إنتاج سرديات “التخوين” أو “التسييس الخارجي” أو “الارتباط بالأجندات الأجنبية” أو “معاداة الدين” بلغة عاطفية تعيد إنتاج أدوات التشهير التي عرفت بها الأنظمة الشمولية.
استهداف الرموز: أمثلة وشهادات
منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة في 2018، برزت شخصيات مدنية متعددة حملت مطالب التغيير، وعبّرت عن تطلعات السودانيين نحو الحرية والسلام والعدالة. ومع تصاعد الصراع بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، ثم اندلاع الحرب في أبريل 2023، تحوّلت هذه الشخصيات إلى أهداف مباشرة لحملات تشويه منظمة، لم تستثنِ أحدًا: من الناشط الميداني في الأحياء، إلى الأكاديمي، إلى الإعلامي المستقل.
فقد جرى استهداف شخصيات بارزة بدعوى “العمل مع السفارات|، أو |تلقي تمويل أجنبي”، أو حتى “التحريض على الفتنة”. وفي بعض الأحيان، وُجّهت اتهامات أخلاقية لا تستند إلى أي أدلة، بُثت على نطاق واسع لإحداث صدمة اجتماعية وتشويه دائم في الوعي العام. على سبيل المثال، تم اتهام بعض الفاعلين في الفضاء المدني لمجرد حضورهم فعاليات دبلوماسية عامة أو مشاركتهم في ورش عمل ممولة من منظمات دولية، واعتُبر ذلك “تعاملًا مع جهات أجنبية”. وفي حالات أخرى، وُظِّفت مقاطع فيديو مجتزأة أو صور خاصة مُسرَّبة من دون سياق لاتهام شخصيات معروفة بسلوكيات غير أخلاقية، ما أدى إلى اغتيال معنوي واسع النطاق. كما طالت هذه الحملات فنانين وكتابًا وأكاديميين لمجرد تعبيرهم عن رأي ناقد، حيث وُصموا بأنهم “جناح سياسي لأحد أطراف الحرب” أو |أعداء الاستقرار”، رغم أن معظمهم لم يتجاوز حدود التعبير السلمي.
شهادات لضحايا هذا الاغتيال المعنوي تكشف حجم المعاناة النفسية والاجتماعية، إذ وجد الكثيرون أنفسهم محاصرين بأكاذيب تُرددها آلاف الحسابات، دون قدرة حقيقية على الرد أو التوضيح، خاصة في بيئة إعلامية مستقطبة وغير محايدة. وفي بعض الحالات، أدى ذلك إلى انسحاب شخصيات فاعلة من المشهد العام، أو دخولها في عزلة قسرية. اللافت أن هذه الحملات لا تستهدف الخصوم السياسيين فقط، بل تطال أحيانًا حتى حلفاء الأمس، في لحظة اختلاف تكتيكي أو مبدئي، مما يعكس حجم الأزمة داخل التيارات المدنية نفسها، ومدى هشاشة الثقافة الديمقراطية في وجه الانفعالات والانقسامات.
من الميدان الى الوجدان: كيف تُخمد الحرب النفسية جذوة التغيير؟
حملات اغتيال الشخصية وتشويه العقل المدني لا تُضعف الأفراد فقط، بل تترك أثرًا بالغًا في بنية الحراك المدني برمّته. فعندما تتحوّل الساحة العامة إلى حقل ألغام من الاتهامات والتشكيك والاغتيال المعنوي، يصبح من الصعب بناء جسور الثقة، أو تطوير عمل جماعي قائم على احترام التنوع والتعدد. من أبرز آثار هذه الحرب النفسية:
تفكيك وحدة القوى المدنية: تتسبب حملات التشويه في تعميق الانقسامات داخل الصف المدني، حيث تتبادل المجموعات الاتهامات، ويصبح الاختلاف في الرأي أو الموقف مدخلًا لتخوين الآخر، بدلًا من أن يكون ظاهرة صحية ضمن الممارسة الديمقراطية.
الإحباط والانسحاب والانزواء: الكثير من الشباب والكوادر المستقلة الذين شاركوا في الحراك الثوري وجدوا أنفسهم محاصرين ببيئة عدائية، تُشكك في نواياهم وتقلل من إنجازاتهم. هذا المناخ دفع كثيرين إلى الانسحاب من الشأن العام، أو الانزواء في العمل الإنساني أو المجتمعي المحدود، بعيدًا عن دائرة الفعل السياسي.
صعود خطاب التطرف العنيف: حين يُستبعد صوت العقل والحوار، يفسح المجال لخطابات الكراهية والتمييز والاقصاء، ويُفتح الباب أمام أطراف متطرفة – مدنية أو عسكرية – تدّعي امتلاك الحقيقة وتقصي الآخر، ما يعمق حالة الاستقطاب ويقوض فرص الانتقال السلمي.
تشويه الذاكرة الجماعية: تُسهم حملات التشويه في تزييف سرديات الثورة، وإعادة تأطير الشخوص ضمن خطابات مشوهة، ما يؤدي إلى خلط الحقائق في وعي الأجيال القادمة، ويضعف قدرة المجتمع على إنتاج سردية وطنية جامعة.
ما بعد اغتيال الشخصية: هل يمكن استعادة العقل المدني؟
رغم حجم الهجمة التي يتعرض لها العقل المدني في السودان، فإن استعادته ليست مستحيلة. بل إن مواجهة هذا النوع من الحروب تتطلب استراتيجيات مقاومة ذكية، تبدأ بإعادة الاعتبار لقيم الحوار، والمساءلة الأخلاقية، والتضامن المهني، ومناهضة التشهير بوصفه أداة سلطة لا تختلف عن القمع المباشر.
أولًا: التوثيق والمحاسبة المعنوية: من الضروري الشروع في عملية توثيق دقيقة لحملات الاغتيال المعنوي والتشهير التي استهدفت الرموز المدنية، مع تحديد الجهات التي مارستها أو روجت لها. لا يتم ذلك بدافع الانتقام، بل من أجل بناء ذاكرة جماعية تحفظ حق المجتمع في معرفة الحقيقة. فهذه الاعتداءات، التي تنال من الكرامة الشخصية وتحطم الثقة في العمل العام، يجب أن تُسجَّل بوصفها انتهاكات ضد الحياة المدنية، أسوة بانتهاكات حقوق الإنسان الأخرى التي توثقها العدالة .
ثانيًا: استرداد الشخصية لا تقديسها: ينبغي أن تتم عملية استعادة الاعتبار للرموز المدنية من منطلق موضوعي ومسؤول، لا يميل نحو التقديس أو تحويل الأفراد إلى أيقونات فوق النقد. الهدف هو إعادة الشخصيات المدنية إلى سياقها الواقعي: أفراد اجتهدوا في الشأن العام، وأصابوا وأخطأوا، لكنهم شكّلوا حائط صد مدني في مواجهة العنف والتوحش. الدفاع عنهم هو دفاع عن الحريات العامة وحق الجميع في العمل السياسي والاجتماعي دون ترهيب.
ثالثًا: بناء إعلام مقاوم للتشهير: يمثل الإعلام ركيزة مركزية في أي مقاومة لحملات التشويه، ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعلام مهني، مستقل، ينحاز للحقيقة وللأخلاق المهنية، لا للولاءات الأيديولوجية أو العواطف الجارفة. إعلام يُسلّط الضوء على المضامين والمواقف لا على الأشخاص، ويعيد تشكيل الوعي العام على أسس النزاهة والشفافية، ويعزز ثقافة التقييم الموضوعي.
رابعًا: تنمية ثقافة الاختلاف وبناء الثقة العامة: لا يمكن للعقل المدني أن يُستعاد دون ترسيخ قيم التعدد والتعايش والقبول بالاختلاف. فجزء كبير من سهولة اغتيال الرموز المدنية ناتج عن هشاشة ثقافة الاختلاف وانعدام الثقة في الفضاء العام. لذلك، لا بد من الاستثمار في تدريب الشباب والمجموعات على النقاش البنّاء والعمل الجماعي، وتوسيع المساحات التي تشجع على النقد الموضوعي لا على الإقصاء. هذه القيم لا تُفرض بقوة القانون، بل تُبنى من خلال الممارسة المستمرة والتنشئة المدنية الواعية.
أخيرًا
إن اغتيال العقل المدني في السودان هو أحد أخطر أوجه الحرب الجارية. فحين تُخاض المعركة ضد الرموز والأفكار وليس فقط ضد الأجساد، تصبح المهمة أكثر تعقيداً. فلا يمكن للوطن أن ينهض دون عقل ناقد، ورؤية مدنية، وأصوات جريئة تعمل على رسم مستقبل مختلف. ولعل التحدي الأكبر ليس فقط في وقف هذه الحرب النفسية، بل في تحويلها إلى حافز لمراجعة الذات، وتعميق الممارسة الديمقراطية، وبناء تحالفات جديدة تحمي الفضاء العام.