رواية «بابنوس».. ملاحم الحب والمقاومة في أرض الجراح

تبدأ رواية «بابنوس» للروائية الأردنية سميحة خريس، والمهداة لروح الطيب صالح، بحكمة عميقة تؤكد على مبدأ الحرية وتساوي الجميع المشتركون في كون واحد، إنسانا ونباتا وشجرا وحجراً.. فجميعهم يعيشون ضمن دائر الحياة الواسعة ويدورون في فلكها. وهذه الحكمة هي التي افتتحت بها «الرسّالة» أو»الحكامة» أو الجدة «حبوبة» السرد لتؤكد: «مثلما شجرة الأبنوسة قوية مخاتلة، أبوها اللقاح؛ يسري دم أمها الشمس الحارة الساطعة في عروقها الخشبية. تنمو على ما نريق من ماء محبتنا فوق التراب، تزهو بأنفاسنا، وتزهر باللمس، تعطي والفأس تضرب جذعها، فإذا ماتت؛ بيعت منحوتة عبقرية للخواجات. حينها أيضاً لا بد لها من أب وأم جديدين؛ نحات وإزميل».
وتتجلى «الحكّامة» كشخصية أسطورية، فهي شاعرة ومعلمة وقاضية وضاربة للطبل والدف ومغنية ولها القدرة على إعلان الحرب أو إحلال السلم، كما أنها حفظت تاريخ المنطقة وعايشت الجزء الأكبر منه، وشهدت كيف تشكل وطنها الصغير من بضع بيوت استقرت الجموع فيه.. إنها رمز معادل للوطن نفسه، ولتاريخه، وحياة ساكنيه: «سمعت صوت المكان الهادئ الفارغ، رجعاً مرتداً يهتز على مهل مثْل صدى حانٍ، همس لي الهواء أن هنا لي وطن. اتسعت الخَرْبَقَة وصارت حياً حقيقياً لقبيلة شكلناها بتكاثرنا عبر سنوات لا أستطيع عدها، فنساؤنا ولودات، ثم بمجيء آخرين، عمرنا وطناً، وطن على قدر جماعتنا الصغيرة، استبدلنا بقعة صغيرة منسية بالأرض الرحيبة، في ما بعد اكتشفنا كم هي قريبة إلى حاضرة نيالا، مُغْفَلة قربها».
وتتناول الرواية الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون» 2025، الصراع الدائر في إقليم دارفور السوداني، موضحة بأسلوب فني متماسك، ولغة سرد عذبة، وحوارات جاءت باللهجة الدارجة، أسباب هذا الصراع والأيدي الخفية التي مهدت له وأشعلت فتيله، من غير أن تغفل عن دور الدول الغربية التي تلبس لبوس الحضارة في تأجيج هذا الصراع حسب مصالحها في المنطقة، وعلى رأسها سرقة الأطفال ليصبحوا عبيداً وبأشكال مختلفة.
احتشدت في الرواية الشخصيات التي توالدت جيلاً بعد جيل، وأغلبها عانى من شظف العيش والفقر والجوع والموت بسبب الأمراض، إلى جانب المعاناة بسبب الصراعات السياسية والحروب التي التهمت المكان، واختطاف الأطفال وترحيلهم إلى باريس للعمل في مجال الدعارة: «قدم ألكسندر تنازلات في السعر الذي طلبه لقاء بيع الشاب والفتاة، إلا أن القوادات ومالكات دور الدعارة فضّلن الابتعاد عن المشاكل. تحاول باريس لملمة ظاهرة الرذيلة فيها، وتقنينها، والحد من آثارها، في إجراءات وصفها وزير الداخلية بعملية تنظيف حارات فرنسا من نفايات المجتمع».
ولم تخل الرواية من قصص الحب التي تلامس واقع الإنسان هناك، وتحمل بين طياتها أملاً بالأمن والسلام، كقصة «فاطمة» المتيمة بالشاعر البوهيمي «السر»: «يبدو في ارتباكها ووهن صوتها وهي ترسل له الكتب معنا، ثم لا يرد ولا يجيء، لا أعرف الأسباب التي تجعل فتاة مثلها تنتظر وهماً مثله، لكن ربما هو الحب المجنون الذي نقرأ عنه في قصائد عنترة، والذي طير عقل السر نفسه من أجل تاجوج التي تزوجت سواه، تاجوج الحلة معشوقة السر قبيحة غير جديرة بالقصائد، لا يلائمها إلا هوى البخيت زوجها البدين».
القدس العربي