السودان.. بؤرة النار التي تشعل الإقليم

لم تكن نيران الحرب السودانية حبيسة حدودها، بل تمددت، كما هو متوقع لكل صراع مزمن تتداخل فيه العوامل المحلية والإقليمية، لتلقي بظلالها الثقيلة على الجوار القريب، فتهزّ استقرار دول كانت تُعدّ في طور التعافي، وتوقظ توترات قديمة بين جيران تتربص بهم الأزمات.
ففي جنوب السودان، تُنذر المؤشرات المتصاعدة بعودة البلاد إلى مربع الاضطراب، إذ باتت أطراف من حكومة الوحدة الوطنية تتبادل الاتهامات بالتواطؤ مع القوى المتصارعة في السودان، سواء عبر التورط في تهريب الأسلحة أو السماح باستخدام أراضٍ حدودية كنقاط دعم لوجستي. التقارير القادمة من ولايات أعالي النيل والوحدة تُظهر تزايدًا في تحركات مجموعات مسلحة ذات ولاءات غير واضحة، وظهور خطاب تعبوي يعكس توترًا متزايدًا بين مكونات الحكم الانتقالي هناك. ووسط هذا، تتعرض أنابيب النفط – التي تمثل الشريان الاقتصادي الأساسي لجنوب السودان – لتهديدات متكررة، سواء من خلال القصف المتبادل شمالًا أو بسبب تعقيد الاتفاقات مع الخرطوم المنهارة.
القلق لا ينبع فقط من احتمالات انتقال الفوضى إلى الجنوب، بل من خطر تحوّل حكومة جوبا ذاتها إلى طرف غير مباشر في صراع لا تملك أدوات السيطرة عليه. جنوب السودان، الذي لم يلتقط أنفاسه بعد من حربه الأهلية الطويلة، يبدو اليوم على حافة انهيار جديد، ما يجعل من الحرب السودانية عامل ضغط إستراتيجي على دولة هشّة أصلًا.
أما في شرق الإقليم، فتعود نذر التصعيد إلى الواجهة بين إثيوبيا وإريتريا، في مشهد يعيد إلى الأذهان الصراعات المؤجلة منذ توقيع اتفاق السلام الهش عام 2018. المراقبون يرصدون اليوم تصاعدًا لافتًا في لغة الخطاب الرسمي وغير الرسمي، حيث بدأ النظام الإريتري يحتفي علنًا بما يسميه “اللحظة التاريخية لتصحيح موازين القوى”، في إشارة إلى احتمالات المواجهة مع أديس أبابا. في الخلفية، يبدو أن فوضى السودان توفر غطاءً مثاليًا لإعادة ترتيب أوراق النفوذ، لا سيما في شرق السودان – منطقة البحر الأحمر والمثلث الحدودي – التي أصبحت منذ بداية الحرب ساحة لتداخلات استخباراتية وعسكرية معقدة.
إثيوبيا، من جانبها، تخوض لعبة توازن دقيقة. فهي تسعى لضمان وجود حليف قوي في الخرطوم – وغالبًا ما تميل مؤخرًا إلى دعم المؤسسة العسكرية بقيادة البرهان – لكنها في الوقت ذاته تخشى من أن يشكل أي فراغ أمني على حدودها الغربية تهديدًا مزدوجًا من قوات غير منضبطة على الأرض، ومن تدخلات إريترية قد تعيد إشعال صراع مفتوح. التقارير الأممية تُحذر من تحركات عسكرية على طرفي الحدود، وتؤكد وجود حشود غير معتادة، فيما يتم تداول مقاطع وفيديوهات داخلية تظهر استعدادات شعبية في أسمرة للحرب، في مشهد لا يمكن فصله عن التغيرات الناتجة عن انفجار السودان.
النتيجة الأهم في هذا المشهد هي أن السودان لم يعد مجرد ساحة صراع محلية أو حتى “دولة فاشلة” بالمعنى التقليدي، بل أصبح مركزًا لانبعاث التوترات، ومحورًا تتقاطع فيه المصالح المتضاربة لقوى إقليمية تبحث عن موطئ قدم في واقع متحوّل. هذه الفوضى الجيوسياسية، التي لا تحكمها قواعد اشتباك واضحة، تفتح المجال لولادة صراعات جديدة – بعضها قد يبدأ على هيئة احتكاكات حدودية أو حرب إعلامية، لكنه قد ينزلق سريعًا إلى مواجهات عسكرية مفتوحة.
والأخطر من كل ذلك، هو غياب مظلة إقليمية فاعلة لاحتواء هذا الانفجار. الاتحاد الإفريقي مشلول، ومبادرات “الإيقاد” لا تتجاوز البيانات البروتوكولية، بينما تتعامل القوى الدولية مع السودان كحالة إنسانية أكثر منها كأزمة سياسية عميقة. وبهذا، تزداد احتمالات أن تتحول دول الجوار إلى أطراف في صراع متعدد الطبقات، تدفع فيه الشعوب ثمن فوضى لا تصنعها فقط الرغبة في السيطرة، بل أيضًا غياب الإرادة الحقيقية لإنتاج تسوية.
لقد كانت الخرطوم، تاريخيًا، مركزًا دافئًا يوازن بين الشرق والغرب، بين أديس أبابا وأسمرة، بين نيروبي وجوبا، بين القاهرة وكينشاسا. أما اليوم، فهي مركز زلزال لا أحد يضمن حدوده. وإذا ما استمر الانهيار على هذا النحو، فإن الإقليم – بجغرافيته السياسية والأمنية والاقتصادية – سيتغير جذريًا، ولن يكون ذلك في مصلحة أحد.
من هنا، تبدو كل دعوة للسلام في السودان بمثابة دعوة لحماية الإقليم كله من مستقبل شديد السواد. ليست هذه ارتدادات عارضة، بل هي أعراض متسلسلة لانهيار المركز. وما لم يُكسر هذا التسلسل عبر تسوية جذرية في السودان، فسيجد الإقليم نفسه، تباعًا، في مرمى الفوضى.