هل تخرج حرب السودان من دائرة النسيان؟

جمال محمد إبراهيم
لا تستعصي تفاصيلُ المشهد الماثل في السودان على أيّ متابعٍ للمعطيات الدولية والإقليمية الدائرة الآن، والمشمولة بصراعات وحروب تستعر هنا وهناك، من أن يراه مشهداً (بكلّ تفاصيله المروّعة) مغرقاً في دائرة نسيان عميقة. يعجب المرء أن يرى تلك الحرب الدائرة في السودان لا تحظى بقدر من الاهتمام، ليس على المستوى السياسي، بل على المستوى الإعلامي الدولي والإقليمي.
تدخل حرب السودان شهرها الثلاثين من دون أن تحظى بتغطية إعلامية لتطوّرات تداعياتها المأساوية، فليس للقنوات الأجنبية الدولية والإقليمية الرصينة من مراسلين يتابعون ميدانياً ما يدور. السودان، وهو بلد أفريقي عربي، فهل ترى إعلاميين من الشرق الأوسط أو من القارّة الأفريقية (مثلما شاهد العالم مراسلين في حرب غزّة أو حرب أوكرانيا) يتابعون ميدانياً تلك التداعيات المأساوية في السودان؟ وإنْ كانت الحروب كلّها مآسٍ، وليس من وجوهٍ للمقارنة بين حربٍ هنا وحربٍ هناك، لكن لا مندوحة من وصف حرب السودان بأنها الحرب المنسيّة بامتياز.
(2)
تلك مُقدّمة لفهم طبيعة هذا النسيان الذي أحاط بحرب السودان، فلا هي حربٌ أهلية بين أطراف داخلية، ولا هي حرب تؤلِّب أطرافها أصابع أجنبية خارجية، فتوصف بأنها حرب بالوكالة. تلك الطبيعة المُربكة تركت المجتمع الدولي بمكوّناته الدولية والإقليمية، تكتفي بجهود من ضعفها عجزتْ عن أنْ تشكِّل مساعي جادّة لإيقاف تلك الحرب. نرى المنظّمة الأفريقية وقد رفعتْ يدها عن السودان مكتفيةً بتفعيل مادّة في ميثاقه تجمّد عضوية أيّ بلد أفريقي يقع فيه تبديل نظام الحكم من طريقٍ غير دستوري. شكراً، ولكن ماذا بعد؟
جامعة الدول العربية لا تزال على حالها، ظاهرة صوتية تدين وتشجب بلا فعلٍ جادّ. لم تكن المنظّمة الأممية أحسن حالاً شجباً وإداناتٍ وقراراتٍ لا تسمن ولا تغني، وملاسنات ومشاحنات، بل ودموعاً تذرف من دون جدوى. النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية (وباختصار) هو نظام آيل إلى السقوط إزاء الصراعات الماثلة.
(3)
ثمّ نأتي إلى التحدّيات التي يواجهها نظام عسكري قائم في السودان منذ أربعة أعوام: حرب تدور ثلاثين شهراً بلا أفق لنهاية لها. نازحون داخلياً ولاجئون خارجياً بالملايين. قتلى وجرحى جرّاء الحرب الطاحنة يكاد تعدادهم أن يصل إلى المليون. أوضاع سياسية وعسكرية وإنسانية مُنهارة تماماً، تركت البلاد على شفير الإفناء والمحو من خرائط الجغرافيا والتاريخ. نظام عسكري يبحث عن شرعية داخلية بلا جدوى، والصراع محتدم في حرب يسمّيها جنرالات السودان الحاليون حرب كرامة، فيما يستبطنون أجندات للسيطرة على أحوال البلاد بإنشاء نظام عسكري شمولي جديد. يدرك جنرالات أن مراميهم لن تتأتّى إلا بعد دفن أقوى ثورة شعبية غير مسبوقة في القارة الأفريقية والشرق الأوسط، أطاحت في عام 2019 نظاماً شمولياً ديكتاتورياً سيطر على السودان ثلاثين عاماً، فجاء جنرالات انقلبوا عليها في 2021، فأجهضوا أهدافها لاستعادة حكم مدني يستكمل سياسياً واقتصادياً وحضارياً بناء أمّة سودانية تُحترم فيها إرادة كلّ فرد من أفرادها، وتستعيد تماسك هُويَّتها التي مزَّقتها أنظمة لم تراعِ عدالةً ولا مساواةً ولا سلاماً.
(4)
العزلة التي أحاطت بحرب السودان، وإن لعب الإعلام الدولي والإقليمي دوراً رئيساً بغيابه منها، تركت البلاد في حال من الضياع، وبحسب الجنرالات المسيطرين على أوضاع السودان، اكتساب الشرعية الضائعة يمكن أن يتمَّ بتبييضِ وجه الحكم العسكري، الوالغ في حرب داخلية ملتبسة، بحكومة مدنية يرأسها مدني مستقلّ، رأتْ أنْ لا علاقة له بالاضطرابات السياسية التي حاقتْ بالسودان سنواتٍ طوالاً.
الرجل الذي توافقوا على تعيينه لخبراته (وإنْ لم تخلُ من ثغراتٍ تجاوز أولئك الجنرالات عنها)، رأوا في تعيينه عوناً لاكتساب شرعيةٍ يكسرون عبرها جدران العزلة الدولية والإقليمية السميكة. لكن جاء الرجل (مثلما يجيء الأنبياءُ والرسـل حاملين كتبهم)، ثمّ وقف مخاطباً الشعب السوداني المُنهَك من الحرب الطاحنة، وهو يحمل كتابه بيمينه، يحدّثهم عن خطط للاستشفاء وإعادة الإعمار والبناء، عبر حوار لا يستثني أحداً. كان مثيراً للعجب ألّا يرى الرجل أن إيقاف الحرب الطاحنة في البلاد وتداعياتها المأساوية هيَ الأولوية الأولى عنده، كما أن استعادة الحكم المدني هو المَخرج الأولى بالاهتمام، إلى أن فهم المتابعون أن الرجل لا صلاحية له في هذين الأمرَين.
من سوءِ حظّ السودانيين أن يتواصل تغييب مآسي الحرب الدائرة عن الإعلام الدولي والإقليمي
(5)
تبقى جوانب جديرة بالالتفات وإعمال النظر الأعمق. تُرى، هل سيكون لحكومة الأمر الواقع القائمة في العاصمة المؤقتة للبلاد، وعبر تبييض ملامحها العسكرية القحّة بتعيين مدني ليرأس وزراءها، القدرة على استعادة شرعية يقبلها المجتمع الدولي والإقليمي؟ ذلك أمر تحيط به شكوك وريَب. إن أيّ شرعية تُمنح لنظام للحكم في البلاد ينبغي أن تكتسب في الداخل قبل الخارج، ومن مكوّناته الداخلية قبل الخارجية، وأن يكون منطلقه الأول والأخير مبادئ الثورة التي أطاحتْ ذلك النظام الإسلاموي الماكر الفاسد، الذي جثم 30 عاماً على صدور السودانيين. أمّا التنكّر لتلك الثورة، والمناورة لدفنها في نفوس السودانيين، وتغييب آلاف شهدائها في ذاكرتهم، عبر رفع رايات كذوبة لحربٍ منحولة يسمّونها حرب الكرامة، فذلك محض تلاعب بمصائر أمّة دفعت أثماناً باهظة في صراع دموي لا يد لهم فيه ولا في نيات القائمين بأمره من جنرالات حالمين.
(6)
من سوءِ حظّ السودانيين أن يتواصل تغييب مآسي الحرب الدائرة عن الإعلام الدولي والإقليمي، ليأتي مَن يكلّفه جنرالات السودان الوالغون في تلك الحرب، ليحدّثهم الرجل عن الحوار، وعن معالجة قضايا الحكم والعدالة والسلام، ولا يشير من قريب أو بعيد إلى تداعيات حرب تجاوز عمرها 30 شهراً، وهي الأدعى بالإيقاف، وقتلاها وجرحاها بآلاف المؤلَّفة، والهاربون من جحيمها بالملايين. لا عجب أن يتجاهل شعبوي يحكم الولايات المتحدة حرب السودان، وألا يرى لها أولوية في كتابه مقارنة بحرب أوكرانيا أو حرب غزّة، فقد غاب ذكر تلك الحرب من كتاب من جاء به جنرالات السودان يحمل وصاياه العشر، خاليةً من ذكر أولوية إيقاف تلك الحرب الرعناء في البلاد.
كل أناء بما فيه ينضح .كامل إدريس عبارة عن قطعة اثاث في دهليز القوي المسيطرة فلن ولن يلبي تطلعات الشعب ولا الثوار ويكفي تغاضية عن عمد في خطابة الإشارة ولو من بعيد للثورة السودانية وما حققتة .
العالم يتجاهل السودان لأن الحروب والموت والدمار والمأسي وعدم الاستقرار أصبحت شيء عادي ومألوف في هذا البلد المنكوب منذ استقلاله وبسبب بنيه، السودان موطن للفساد وسؤ الإدارة والجهل والاستبداد والقبلية والعنصرية والعنجهية والظلم والتخلف والحقد والكراهية وحب النفس والمال والسلطة بأي ثمن، السودان حالة مىيؤوس منها وهو بلد غير واضح المعالم فلماذا يتذكره العالم؟