مقالات سياسية

عار القيادة العامة

✍️ محمد هاشم محمد الحسن

في كل فجر الثالث من يونيو، لا تعود عقارب الزمن لتلامس ذكرى عابرة، بل لتغرس خناجر الماضي في حاضر السودان الذي يتأوه. إنه تاريخٌ مُلطخٌ بدماء بريئة، يومٌ شهد فيه العالم جريمةً فاقت كل تصور( فض اعتصام القيادة العامة). لم يكن ذلك الفجر الأسود مجرد (فض)، بل كان مجزرة موصوفة، إعداماً جماعياً لحلم وطن، وطعنة غادرة في خاصرة ثورةٍ سلّميةٍ أذهلت العالم. كانت تلك الدماء الزكية، التي أُريقت بلا رحمة، هي البذرة المسمومة لجحيمٍ يفتك بالسودان اليوم، وينذر بفناء وجوده.

كان اعتصام القيادة العامة نبضاً وطنياً لم يسبق له مثيل. ساحةٌ تحولت إلى رحمٍ لتكوين دولة العدل والحرية، حيث تلاشت الطبقات وتوحدت الحناجر، لترسم لوحةً بديعة لـ (السودان الذي نحلم). آلاف الأرواح، من كل فجٍّ عميق، شيباً وشباباً، نساءً ورجالاً، افترشت الأرض تحت وهج الشمس وسكون الليل، لا تطلب سلطاناً ولا متاعاً، بل تُمزق صمت العقود وتصرخ في وجه الديكتاتورية (نريد وطناً يليق بنا!). كانت تلك الساحة، بهتافاتها الصادحة، ودعواتها السلمية، وصمودها الأسطوري، هي الشاهد الأخير على نقاء ثورةٍ لم تكتمل، ووحدةٍ لم تدم.

ثم انقضّت قوى الظلام، بقلوبٍ خاويةٍ من الرحمة والإنسانية، لتدوس على هذا الحلم. فجر الثالث من يونيو، يومٌ لن يمحوه الزمن، يومٌ تبدّلت فيه صيحات الحرية إلى أنين الموت. لم تُفاجأ الأجساد النائمة برصاصٍ حيٍّ فحسب، بل بدُهسٍ متعمد، وإلقاء الجثث في مجرى النيل ليخفي عار المجزرة، واعتداءات جنسية وحشية طالت نساءً ورجالاً، لتدمير الروح قبل الجسد. لقد كانت تلك الساعات الدموية هي اللحظة الفاصلة التي أعلن فيها القتلة منهجهم الجديد القتل والتدمير منهجاً، والإفلات من العقاب دستوراً. إنها اللحظة التي اغتالوا فيها أحلام جيل كامل، وشوهوا فيها أطهر ثورة شهدها التاريخ الحديث.

والسودان اليوم، يرزح تحت وطأة جحيمٍ لم يأتِ من فراغ، بل هو الحصاد المر لتلك الدماء التي أُريقت في فض الاعتصام دون قصاص. إن غياب المحاسبة على تلك الجريمة الشنعاء لم يكن مجرد إفلات لقتلة من حبل العدالة، بل كان ضوءاً أخضرَ ممنهجاً لكل يدٍ آثمة لترتكب ما هو أبشع. هذه الحصانة المخزية هي التي أشعلت فتيل الحرب المستعرة اليوم، ومهدت الطريق لظهور كيانات تنهش في جسد الوطن بلا حسيب ولا رقيب.

الآن، بينما تتلاطم أمواج الدمار، نرى بأعيننا كيف تحول كل ركنٍ في السودان إلى صورة طبق الأصل من فوضى ذلك الفجر المشؤوم. حربٌ طاحنةٌ بلا هوادة، تهشم كل ما تبقى من أمل. ملايين الأرواح تقتلع من ديارها قسراً، لتواجه النزوح واللجوء في صحاري المجهول، في مسيراتٍ للموت بلا مأوى ولا كرامة. الأمراض تتفشى كالنار في الهشيم، لتنهش في أجساد ضعيفة أُنهكت بالجوع والعطش، في ظل انهيار تام للمنظومة الصحية. الفساد المستشري لم يعد مجرد ظاهرة، بل وحشٌ يلتهم خيرات البلاد ليُغذي آلة الحرب، بينما البنية التحتية تُدمر بالكامل لتُعيد السودان إلى عصور الظلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..