مقالات وآراء

المثقف السوداني في مفترق الطرق : بين الغياب والواجب الوطني

عاطف عبد الله

 

إهداء

هذا المقال مُهدى إلى الدكتور صديق الزيلعي والدكتور مجدي إسحاق، فكلاهما يُجسّد نموذجاً حياً للمثقف الذي تحتاجه هذه المرحلة الحرجة. لم يدّخرا جهداً في نشر الوعي السياسي والانخراط الإيجابي في قضايا الشأن العام، مستفيدَين من مختلف منصات التواصل الاجتماعي، ولكلٍّ منهما أسلوبه المتفرّد في إيصال الفكر والمعرفة.

فبالإضافة إلى نشر الكتب والمشاركة في الندوات العامة، اختار الدكتور مجدي إسحاق أسلوب “الكبسولات الفكرية” لبثّ الرسائل الإيجابية والمحفّزة للتفكير، بينما لجأ الدكتور صديق الزيلعي إلى لغة بسيطة وشفّافة تخاطب وجدان عامة الناس، مستنهضة فيهم الحسّ السليم وروح المسؤولية.

 

يمر السودان، في أتون هذه الحرب العبثية، بمرحلة حرجة من تاريخه السياسي والاجتماعي؛ مرحلة اختلطت فيها المعايير، وانهارت خلالها كثير من القيم والمؤسسات التي كانت تحرس الوعي الجمعي والهوية الوطنية. ومن ضمن إفرازات هذا المشهد المرتبك، تراجع المثقف السوداني – جزئياً أو كلياً – عن أداء دوره الطبيعي في التنوير، والتحليل الرصين، وتوجيه البوصلة المجتمعية نحو الأفق الأرحب للوعي، والحرية، والمصلحة العامة.

 

لقد خلّف هذا الغياب فراغاً واسعاً لم يتأخر في ملئه أنصاف المتعلمين، والمتسلقون، والانتهازيون، ممّن يمتلكون الجرأة على الكلام دون المعرفة بالحقيقة. فتصدّروا المشهد عبر المنصات الإعلامية ومنابر التواصل الاجتماعي، حتى غدت عبارة “خبير استراتيجي” نفسها مثاراً للسخرية عند استضافة بعضهم في القنوات الفضائية، لا لضعف اللغة فحسب، بل لانعدام العمق وسذاجة التحليل.

 

وما زاد الطين بلة هو تسطيح الوعي العام، وانتقال أدوات التأثير إلى يد من لا يملكون أدوات الفكر الرصين أو الأخلاق الوطنية. جماعات الإسلام السياسي، على سبيل المثال، يروّجون لاستدامة هذا المشهد بإقصاء المثقفين والمستنيرين ذوي الفكر الثاقب عن أداء دورهم الإصلاحي والتوعوي، وجعلوا من وسائل التواصل الاجتماعي سُلّماً يتسلقه الجهلاء، ويُقصى عبره أصحاب الرؤية والعقل، لصالح من يملكون الإثارة والضجيج.

 

لكن، رغم هذا التراجع، لا يزال بالإمكان للمثقف أن يستعيد دوره الحقيقي؛ فدوره ليس ترفاً فكرياً، بل واجباً وطنياً وأخلاقياً. عليه أن يهبط من برج العزلة الأكاديمية إلى واقع الناس، ويكتب بلغة يفهمها العامة، ويساهم في تبسيط المفاهيم العلمية والسياسية والاقتصادية بلغة واضحة، دون تعالٍ ولا انغلاق.

 

ما ينبغي عليه أن يكون فاعلًا على منصات التواصل، لا منسحباً؛ حاضناً لحوارات حقيقية، رافضاً للخطاب الشعبوي، مبادراً في قيادة الرأي العام، لا تابعاً له. فبثّ الوعي لا يكون ببيانات النخبة وحدها، بل بتواصل يومي مباشر مع الجماهير، يعلّم ويتعلّم منها، يحترم عقل المواطن، ويستنهض فيه حسّ المسؤولية والمواطنة.

 

إن إعادة المثقف إلى دائرة الفعل تبدأ بالاعتراف بالتقصير، ثم بالتنظيم مع مثقفين آخرين لمواجهة موجة التجهيل والتغبيش الجماعي، وتكوين منصات بديلة تعيد الاعتبار للفكر والعقل. فالسودان، في هذه اللحظة الحرجة، لا يحتاج إلى مزيد من الصمت، بل إلى أصوات عاقلة تزرع الأمل، وتفضح الزيف الذي تفشّى حتى كاد أن يطغى على المشهد .

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..