مقالات وآراء سياسية

فض الإعتصام يوم حداد سنوي عليكم التطهر فيه من آثامكم سنوياً يا قوات الشعب المسلحة

عمر الحويج

 

كتبت هذا المقال بعد بضعة شهور ، من تنفيذ أكبر جريمة يرتكبها المجرمون المستبدون الوالغون في سفك الدماء في تاريخ البشرية ضد انسانية الإنسان وقيمه ووجوده . وكان عن مجزرة فض الاعتصام ، وظللت من بعدها أستعيده كلما أطلت علينا ذكرى هذه الجريمة البشعة النكراء ، وإلي استعادته هذا العام . كي لا ننسى فالذكرى تجسد المأساة كما حدثت أمام أعين العالم واستنكاره ، كي لايهرب الجناة من العقاب .

***

ما ظل يهزني ، ويهد كياني ويتركني نهباً لأفكاري ، ووساوسي ، التي يحبطها ويحيطها بألوان الأسى والحسرة والفجيعة، ويحيل مسيرة يومي إلى هموم تثقل الصدر والعقل والقلب ، هي مشاهدة الفيديوهات التي نقلت لنا بالصوت والصورة ، بشاعة وشناعة ، ما جرى في فض إعتصام القيادة العامة ، حيث تتجاذبني حالتان من الغضب المؤرق والقاتل البطئ ، الذي لا يفش الغبينة منه ، إلا القصاص من هؤلاء القتلة .

الحالة الأولى من الغضب ، وهو لو تدرون غضب عرمرم عظيم ، تجاه اؤلئك الكبار القابعين مع أسرهم ، أولادهم وبناتهم ، يتهنون بدنياهم الفانية ، ويتهادون ويتوادون مع زوجاتهم ، وخليلاتهم ، وما ملكت إيمانهم ، مثناهم وثلاث ورباع ، لمزيد من المتعة حلالها وحرامها ، وتتويجها بالعيال زينة الحياة الدنيا ، وهم في وهج هناءات تلك اللحظات ، يبيدون فيها ، عيال الآخرين بكل برودة البال والعقل المرتاح ودون أن يرمش لهم جفن ، ولا يحسون بوخز الضمير ، لما إقترفته قراراتهم وأوامرهم ، وتنفيذ رغباتهم الشهوانية المريضة للجاه والمال والسلطة ، ولبست كلها هي لله هي لله ، من إنتهاكات لحقوق الإنسان وإهدار القيم ، كما لم يشهدها بشر إلا في عهود الفاشية والنازية والخمير الحُمر مرفق بهم الهولاكية التتارية ، ولا تهتز لهم شعرة معاوية ، من فظاعة قرارهم بارتكاب هذه الجريمة الفظة .

أما الغضب الآخر ، فمن هؤلاء اللابشر ، الذين نفذوا هذه القرارات ، وتجاوزوا طريقة التنفيذ ، بما لايمكن أن يمارسه صاحب عقل وضمير ، ولا حتى حيوانات الغابة ، لايمكن أن تمارس عنفها ضد بعضها البعض بهذه الطريقة الوحشية ، وأعني الجند من طرفي اللجنة الأمنية ، ومن يدعي أنهم فقط انصاعوا لأوامر رؤسائهم ، لن تكونوا صادقين ، كما لن يعفيهم هذا من جرمهم ، فحتى لو مارسوا القتل الجماعي حسب الأوامر ، لقلنا أنهم نفذوا التعليمات التي تلقوها ، ولكن التفاصيل التي مارسوا بها التعليمات تجعلهم شركاء من الدرجة الأولى ، مثلهم مثل من أعطاهم الأوامر .

من أين أتى هؤلاء اللاناس اللا بشر . هنا يصدق فيهم ، قول راحلنا الطيب صالح ، وإن اختلفت الرؤى في البحث عن إجابة سؤال الطيب صالح ، إلا أن هؤلاء الذين يسمونهم قوى أمنية ليسوا كذلك ، فهم فاقوا سؤال كاتبنا من أين آتى هؤلاء الناس إلى اللاناس اللابشر ، وإن كانوا من ذات المنشأ الأول ، ولكنهم تعدوا وصف الناس ، فهؤلاء بالتأكيد فصيلة من الكائنات شبه الحية ، تكوينها من جينات مرت بطفرات دراكولية ، صممت خصيصاً لهذه الصناعة البشعة في السودان، كما صنع لنا الانجليز سجائرنا في أيام عجائبنا المتعددة .

أحكي لكم في زماننا حين شبابنا ، ونحن نعارض نظاماً عسكرياً ، وكنا يفعاً ، كما جيلنا الراكب راس ، وكان ذلك النظام يدافع عن نفسه ، كما كل ديكتاتور ، لكن الفرق كان في أدواته ، فقد كانواُ ، بشراُ ادوات التنفيذ ، القوات الأمنية ، كانوا لم يئن أوان طرح ذلك السؤال عليهم بعد ، فقد كانوا ، لازالوا هم الأهل والأقارب والجيران ، أما أولئك الذين طرح عليهم الطيب صالح سؤاله فقد كانوا حينها تحت التدريب اللا بشري ، يتحسسون مسيرتهم ، التي وصلوها ليلة إنقلابهم الأول ، بعدما تشرنقت فصيلتهم ، خرج الينا الشر من قمقمه ، وظل يفرز سمومه فينا حتى يومنا هذا .

قلت أن نظام عبود كان يدافع عن وجوده بأوامر يصدرها لعساكره ، بتراتبية مهنية ، وهم يحملون نفس التسمية قوات أمنية ، لكن أنظروا الفرق .

في حادثة حدثت لي شخصياً ، “لم يحكها لي أحد !! ” استطراد خفيف عفواً ، تذكرون قولة المخلوع المشهورة ، وعلى فكرة بالصدفة بعد الرجوع لكبسولاتي ، وجدت واحدة ، بتاريخها ولحظة كتابتها ، لم تتعدى اللحظات عند سماعها من فم المخلوع ، فقد كنت أول من قبضت عليه متلبساً بتلك المقولة الهزلية الغبية ، والتي سارت بها الركبان ، فأذعتها بعد لحظات من سماعها ، فأحسست بأني فشيت بعض غبينة ذلك اليوم من نظامهم .. وتسقط بس .

عفواً هذا استطراد عابر ، دعوني أعود لحادثتي تلك المعنية،بغرض المقارنة ، فقد كان عبود وطغمته الفاسدة ونظامه الديكتاتوري ، برغم أولئك الذين قابلوه وهتفوا له “ضيعناك وضعنا وراك” تلك الكانت في الأصل موجهة رفضاً للحكام الجدد أكثر مما هي موجهة اليه شخصياً ولحكمه ، أليس كذلك ياعثمان ميرغني ، فقد قرأت كثيراً ، فقد رددت مرات حزنك على اضاعتنا لبضاعة عبود العسكرية ، وعفواً للخروج عن النص ، فالذكريات تتداعى . فقد كان عبود يدافع عن نظامه بذات الأجهزة الأمنية ، التى أكلها سوس الكيزان فيما أتى من زمان . ففي تجمع طلابي التأم ضد نظامه ، خرجنا طلاب وطالبات جامعة القاهرة فرع الخرطوم في مظاهرة عاتية قبيل سقوط النظام بداية إندلاع ثورة اكتوبر ٦٤م ، هاجمتنا الشرطة من خلفنا ، وتفرقنا أيدي سبأ ، وأنا أهرول مع المهرولين ، فاذا بي ” أتكعبل” وأقع واطه ، علماً بأني كنت أحسب نفسي من الرياضيين ، حيث لعبت كرة القدم ، التي أوصلتني لمرة واحدة فقط ، لم تتكرر لإستاد عطبرة الرياضي ، والذكريات أيضاً تتداعى . المهم رفعت رأسي وأنا على الأرض ، ورأيت الشرطي على هذا الرأس المرفوع إلى أعلى ، وعلى يده عصاته السميكة المدببة ، وليس خرطوشه أو كلاشنكوفه أو دوشكته أو علبة بمبانه القاتلة ، كما هو حادث الآن ، عصاته فقط تلك السميكة المدببة لا غير ، رأيتها مرتفعة ، تود الإنقضاض ، ظننتها ستكون على أم رأسي ، الذي لم يشوف جديده بعد ، ولكن ما حدث ، كان غير ذلك وحَسُن ظني بتلك العصاة ، ولم أهابها من بعد ، فما حدث ، أن يد الشرطي اليسرى إمتدت تجاهي وأمسكت بي من يدي اليمنى لترفعني ، من وقعتي السودة تلك ، بل يقودني هذا الشرطي من هذه اليد ذات نفسها ، ويوجهني إلى مخرج آمن ، أهرول بعدها مع المهرولين -شاكراً له في سري طبعاً تعاطفه معي- وكانت هرولة السلامة ومخرج الأمان هكذا كانت شرطتنا ، قبل أن يلوثها الملوثون .

لنرى الآن كيف كان فض الإعتصام ، كم واحد من الشباب والشابات ، وقع على الأرض ، وكانت الرصاصة تخترق صدره ، في لحظتها ، فأسكتت منه القلب والجسد نهائياً ، كم من الشباب والشابات ، تم حرقه داخل خيمته حياً ، كم منهم ، رُبط بكتلة أسمنتية والقى به في نيلنا الخالد ، خلود هؤلاء الأبطال الشهداء ، كم شابة أُخذت مقهورة للإغتصاب ، وكان ساترها وحائطها من أعين الأخرين وعيون الكاميرات ، العشَرة المبشرون بالجحيم الآتي ، والمدججين بالسلاح ، يحوطونها إحاطة السوار بالمعصم حول محيطها ، هؤلاء المنتظرين المناوبة عليها لإفتراسها ، هذا قليل من كثير ، لم تستطع عيون الكاميرات نقله الينا ، سترة أو خوفاً أو سنسرة للأشرطة ، وإلا كان أغلبنا قد مات قهراً لما يرى أمامه من فظائع ، بيد هؤلاء اللاناس اللا بشر ، ولكن رغم ذلك يأبي الخيال إلا أن يجبرنا على أن نراه عيانا يياناً ، في تخيلنا لو لم نجده على الأشرطة لأخترعنا تفاصيله ، بعد ما شاهدنا ما نقلته الينا الكاميرات ، من وقائع حية يشيب لها شعر الرأس والولدان . ولا تطاوعني نفسي الأمارة بالخير ، لذكر هذه الوقائع ، فهي ليست للحكي وإنما للحفظ في ذاكرة الشعب أبد الآبدين ، فقد رأها الجميع ، وعلينا فقط استرجاعها ،فإن الذكرى تنفع المناضلين والثوريين ، وذوي القلوب والضمائر الحية ، وفي النهاية تجدون كل ماحدث ليس تنفيذاً لأوامر وتعليمات يتم تفعيلها ، بين جيشين متقاتلين ، وإنما هي ذاتها بصفاتها ، تلك الإبادة الجماعية للسلميين من البشر العزل وهم نيام ، ولمن لم يرأها في دارفور ، تلك الآبادة الجماعية ، أوفي جنوب كردفان ، أوالنيل الأزرق فقد رأى تفاصيلها ، في فض إعتصام القيادة العامة ويا للهول..!! .

فهل ياترى هؤلاء منفذين لأوامر تلقوها أو تعليمات أتوها ، أم هم فاعلين أصيلين وليسوا متلقين لأوامر قادتهم ، فعلى القضاء الآتي بعد الإنتصار ، أن يفحص في كل الوجوه ، فرداً فرداً ، التي ظهرت في كل الفيديوهات التي شاهدناها وشاهدها معنا كل العالم ، من أدناه إلى أقصاه ، ليتم جلبهم للعدالة ليحاكموا ، مثلهم وأولئك المجرمين أصحاب القرار وصدق الشباب يا المشنقة يا الزنزانة ، وأظن الصحيح يا .. المشنقة يا .. المشنقة ، ومعهم كل الذين ارتكبوا الجرائم المشابهة ، منذ إنقلاب 25 اكتوبر وحتى الآن وحتى ما سيأتي من جرائم سيرتكبونها حتماً ، طالما ظلوا ممسكين بأسنانهم وأظفارهم على السلطة ، وذلك لحين الإنتصار النهائي ، وسقوط الإنقلاب وتوابعه من القائمين عليه والمساندين له . أولئك الذين إعترفوا بعضمة لسانهم بأنه “حدث ما حدث” .

وكلمة أخيرة ، على الشعب السوداني ، أن يُعامل يوم فض الإعتصام يوماً للحداد الوطني ، يحمله الناس في جوانحهم وذواكرهم عنواناً ، وتذكاراً للبشاعة والفظاعة والشناعة ، يقومون سنوياً بالإصطفاف حول النيل ، يحملون الورود اليه ويجعلونها ، تحلق وتبحر حول مجراه وعلى ضفافه ، لتحي أرواح شهدائنا الذين ما ماتوا فهم أحياء بيننا ، وأن يتواصل ذات اليوم ، بزيارة قبور الشهداء قبراً قبراً ، ووضعه تقليداً لنا جديداً وحميداً ، بوضع الورود عليها ، تخليداً لذكراهم الخالدة .

أما الأجهزة الأمنية، وحتى تُكفِر عن سئيها في هذه الجريمة الشنعاء ، التي فارقت فيها دورها ووظيفتها في حماية الوطن ، عليها أن تخصص في هذا اليوم ، وقفة أمام القيادة العامة سنوياً ، اصطفافاً رمزياً وسلوكاً فعلياً ، مضمونه يكون ، بحملهم ليس سلاحهم ذلك اليوم وإنما اداة يعاقبون بها أنفسهم ، شئياً يكون قريباً مما يفعله شيعة العراق وغيرهم عند التطهر من الجريمة ، وليس بالضرورة أن يكون مطابقاً ، وإنما شكلاً مقارباً يشكل تطهيراً لأنفسهم من ثقل مجزرة فض الاعتصام ، التى لن يمحوها ويخفف من وقع ذكراها في النفوس ، حتى أبد الإبدين ، إلا هذا التقليد السنوي التكفيري التطهري ، من قبل القوات المسلحة ، بالطريقة الرمزية التي يرونها مناسبة ، حتى تزيل آثام وأثار هذه الجريمة النكراء ، وكل الجرائم التي أرتكبت باسم القوات المسلحة منذ الإستقلال وحتى تاريخه ، وتتحمل هي وزرها .

ولكم شهداء الشعب السوداني الخلود : أين ومتى ولماذا وكيف كان استشهادكم .

***

وهنا أعتذر عن تساهل المقال في وصف جريمة مجزرة فض الإعتصام . فلم أكن أعلم ، وإن لم أكن استغرب . أنهم يخبئون لبلادنا بأكملها ، في غمد سيوفهم المسمومة ، جريمة حرب كاملة الدسم في قتل البشر والشجر والحجر ، باسم كرامة مهدورة ، وديمقراطية مكذوبة .

 

[ لا للحرب .. نعم للسلام .. والدولة علمانية ]

 

***

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. يعطيك العافية أخى عمر الحويج كلام في الصميم، هؤلاء الكيزان وعساكر هم لايعجزونك الشعب السوداني الأبي، ولكن تأكد يوم الحساب أتى وحينها لن نرحمهم.

  2. الحقيقة ان جريمة فض الاعتصام برغم فظاعتها و بشاعتها من حيث الزمان و المكان و الكيفية، لن تكون أكثر من حادثة من آلاف الحوادث من القتل و التدمير للاهالي البسطاء في بيوتهم البائسة من القش او طين او الأسواق خلال الحرب الحالية او زمن الإنقاذ الاغبر.
    رمزية فض الاعتصام انها كانت في قلب المركز الباغي و ما هي إلا عبارة عن فيونكا صندوق الهدايا الثمينة التي يتهنى بها شعبنا اليوم من المغفلين و هم الغالبية او النابهين العقلاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..