عيدٌ بلا وطن و معايدةٌ بطعم الألم

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.
كل عام وأنتم بخير يا أهل السودان، لكن هل يأتي الخير وقلبٌي مثقوبٌ ينزفُ وجعًا؟ هل تهلّ الأعياد والفؤادُ يئنُّ حسرةً على ما فات، وعلى ما ضاع منّا جميعًا؟ اليوم، أخطُّ إليكم هذه الكلمات، ومعايدتي ليست ككلِّ معايدة. إنها معايدةٌ بطعمِ الألمِ الذي يغصُّ به الحلق، وبنكهةِ الغربةِ التي تُفتتُّ الروح، وبحسرةِ الفقدانِ الذي يلفُّني ويُحكمُ خناقهُ عليّ، فأنا بعيدٌ عن ترابِ الوطن، وعن دفءِ الأهل، وعن بهجةِ العيدِ في بلادي.
ما زالت صدى تكبيراتِ العيدِ تترددُ في أذنيَّ (الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد). صوتٌ شجيٌّ يبعثُ السكينةَ في الروح، صوتُ الحاجِّ محمد آدم والحاج حبوب،وأبناء الشفيعاب، يشاركهم بعضُ الأطفالِ الأبرياءِ الذين يرددون معهم. هذا الصوتُ هو أولُ ما يوقظُنا صباحَ العيد، يملأُ القلوبَ بالطمأنينةِ والإيمانِ العميق.
أتذكرُ جيدًا خطبةَ شيخِ سليمانَ، التي لم تكن تخلو من الجدل، يهاجمُ فيها (القحاتةَ) صراحةً بينما يتغاضى عن الإسلاميينَ بمكر، كأنَّ الصراعَ السياسيَّ يأبى أن يغادرَنا حتى في أقدسِ الأوقات. ثم يأتي صوتُ مدحةٍ من البراقِ، قبلَ إقامةِ صلاةِ العيدِ وبعدها، يملأُ الأجواءَ بالخشوعِ والثناء، تترددُ كلماتُها في ساحةِ الصلاة، فتُشعرنا بروحانيةِ المناسبةِ وسموِّها.
أيُّ ألمٍ يعتصرُ الروحَ حين أتخيلُ لمعايدةَ بعدَ الصلاةِ، تلكَ اللحظةَ التي يخرجُ فيها الرجالُ من المساجدِ بقلوبٍ عامرةٍ بالإيمان، ليتصافحوا ويتعانقوا، ثم يتوجهونَ إلى بيوتِ الأهلِ والأصدقاءِ. تلكَ الطقوسُ البسيطةُ هي التي تمنحُ العيدَ روحَه، وتجعلهُ مناسبةً لتجديدِ الروابطِ وتقويةِ الأواصرِ الاجتماعية. اليوم، أصبحتْ تلكَ الصورُ مجردَ ذكرياتٍ مؤلمة، صورٍ باهتةٍ تزيدُ من حسرتي على كلِّ ما فقدناه. لقد فرّقتنا ويلاتُ النزاعات، وأضحتْ لمّةُ الأحبابِ حلمًا بعيدَ المنال، فباتَ التواصلُ مقتصرًا على اتصالاتٍ هاتفيةٍ لا تطفئُ لوعةَ الشوق، أو صورٍ تزيدُ من حرقةِ الفراق.
كيفَ يأتي العيدُ ولا أشمُّ رائحةَ (الضبيحةِ) تملأُ الأجواء، تلكَ الرائحةَ التي تحملُ في طياتها عبقَ الكرمِ السودانيِّ الأصيل، وتُعلنُ عن بدايةِ يومٍ مباركٍ يجمعُ القلوبَ على الخير؟ كيفَ يمرُّ فطورُ العيدِ دونَ أن نتشاركُ اللقيماتِ مع الأهلِ والأحباب، وصوتُ الضحكاتِ يترددُ في كلِّ زاويةٍ من زوايا البيت؟ وكيفَ يمكنُ للعيدِ أن يكتملَ دونَ طعمِ الشربوتِ المنعش، كلُّها تفاصيلُ صغيرةٌ، لكنها تشكلُ نسيجَ العيدِ في السودان، وتُحيي فينا روحَ الجماعةِ والألفة.
كم يحنُّ قلبي لـ(لمّةِ) العائلةِ والحبان، تلكَ الدائرةِ الدافئةِ التي تضمُّ الجميع، من كبيرهم لصغيرهم، يتشاركونَ الأحاديثَ والضحكات، ويزيلونَ همومَ الدنيا بصدقِ المشاعر. ولن ننسى عيونَ الأطفالِ الغائبةَ عن بريقِ الفرحةِ المعتاد، وأياديهم الصغيرةَ التي لم تتلقَّ العيديةَ هذا العام، وملابسَ العيدِ الجديدةِ التي تلاشتْ في الأحلامِ وغابتْ عن الواقع. الشوارعُ التي كانتْ تضجُّ بضحكاتهم البريئةِ وألعابهم الصاخبة، أصبحتْ صامتةً موحشةً، يملؤها شبحُ الخوفِ والنزوح.
كم أحنُّ إلى قهوةِ الظهريةِ، تلكَ الجلسةِ العامرةِ بمناكفاتِ الخالِ كنامةَ وضحكاتهِ التي لا تنتهي، وتبادلِ الأحاديثِ عن السياسةِ وهمومِ الوطن، حيثُ تتجلى بساطةُ الحياةِ وعمقُ العلاقات. ولا أنسى أبدًا عبارةَ عمنا الفاتح الثابتةَ (يا حليل البشير)، التي كانتْ تثيرُ الضحكَ أحيانًا وتثيرُ النقاشَ أحيانًا أخرى، لكنها كانتْ جزءًا لا يتجزأُ من لمّتنا.
أثناءَ لعبِ الكتشينةِ، وحينَ تشتدُّ الجلبةُ والمناكفات، يقطعُ علينا الصوتَ صوتٌ شجيٌّ رنانٌ، إنهُ صوتُ بادي محمد الطيب متغنيًا بـ(نظرة يا السمحة أم عجن). تلكَ الأغنيةُ الخالدةُ التي تحملُ في طياتها روحَ السودانِ وأصالته، فتُعيدنا إلى زمنٍ جميل، زمنٍ كانَ الفنُّ فيهِ يصافحُ الأرواحَ ويدغدغُ المشاعر.
تحتَ ضلِّ المنقةِ البااااردِ، وعلى سرايرِ الديوانِ، كانتْ تُنسجُ أجملُ الحكاياتِ وتُعقدُ أروعُ اللقاءات. تلكَ الأماكنُ التي تتنفسُ أصالةَ المكانِ، وتحملُ في طياتها عبقَ التاريخِ ودفءَ العائلة. هي ليستْ مجردَ أماكن، بل هي جزءٌ من هويتنا،و من أرواحنا التي تئنُّ بعيدًا عنها.
أشتاقُ يا وطني، شوقٌ يمزّقُ الروحَ، إلى كلِّ زاويةٍ فيكَ، إلى كلِّ حجرٍ، إلى كلِّ شجرةٍ. أشتاقُ إلى ترابكَ الذي كانَ يُعانقُ أقدامَنا، إلى نيلكَ الذي كانَ يروي أرواحَنا، إلى شمسكَ التي كانتْ تُدفئُ أيامَنا. أشتاقُ إلى الأحاديثِ التي لا تنتهي تحتَ ضلِّ الشجر، إلى رائحةِ البخورِ في المنازل، إلى صوتِ الأغاني السودانيةِ التي تترددُ في الأرجاء. أشتاقُ إلى تفاصيلِ حياتنا البسيطةِ، التي كانتْ تملأُ قلوبَنا بالرضا والسعادة.
الحنينُ يشتدُّ مع كلِّ نسمةِ هواءٍ تحملُ عبيرَ الذكريات، مع كلِّ صورةٍ تطلُّ من الذاكرة، مع كلِّ حلمٍ يزورني في المنام، فيعيدني إليكَ يا سودان.
كيفَ يأتي العيدُ والناسُ تئنُّ تحتَ وطأةِ انعدامِ الأمنِ، وشبحُ النزوحِ يطاردُ الملايين؟ كيفَ نفرحُ والعوائلُ لا تملكُ ثمنَ كسرةِ الخبزِ، فضلاً عن صعوبةِ شراءِ الأضحيةِ التي باتتْ حلمًا بعيدَ المنالِ في ظلِّ الجشعِ والظروفِ القاسية؟ لقد باتَ العيدُ مجردَ اسمٍ باهتٍ، لا يحملُ معه سوى تذكيرٍ مؤلمٍ بما سُلبَ منا من حياةٍ وبسمةٍ وأمان.
يا أهلَ السودان، عيدكم مباركٌ وإن كانَ قلبي يتفطّرُ ألمًا على هذا العيدِ الذي لم أذقْ طعمَه في وطني ووسطَ أهلي. سلامًا لترابِ السودانِ الذي يحملُ في طياته أرواحَ شهدائنا الأبرار، سلامًا لكلِّ بيتٍ سودانيٍّ صامدٍ في وجهِ هذهِ المحنة، سلامًا لكلِّ أمٍّ وأبٍ يعانيانِ مرارةَ الفقدِ والبعد، سلامًا لكلِّ طفلٍ حُرمَ من بهجةِ العيد. هذا الألمُ ليسَ مجردَ شعورٍ فردي، بل هو ألمٌ جماعيٌّ يُعاني منه كلُّ سودانيٍّ شريف.
أما أنتم، يا من سفكتم دماءَ هذا الشعبِ المكلوم، ويا من أشعلتم نارَ فتنةٍ لا تبقي ولا تذرُ، فلا سلامًا لكم ولا معايدةً أبدًا!
أيها الجيشُ المزعوم، وإبن رحمة الدعمُ السريعُ المارق، كفاكم ادعاءً للوطنيةِ والغيرةِ على الوطن! فبينَ أيديكم لوثةُ الدمِ الطاهر، وعلى رؤوسكم وصمةُ الخيانةِ العظمى. أنتم شركاءُ في كلِّ جريمةٍ ارتكبتْ، وفي معاناةِ كلِّ نازحٍ، وفي آلامِ كلِّ أرملةٍ، وفي دموعِ كلِّ يتيمٍ. قد مزقتم أوصالَ الوطن، وسرقتم أحلامَ الأجيال، وحوّلتم ديارَنا العامرةَ إلى ركامٍ يئنُّ تحتَ وطأةِ الخراب. كيفَ لقلبٍ أن يصافحَ أيديكم الملوثةَ بالدماءِ الآثمة؟! وكيفَ لعينٍ أن ترى فيكم إلا وجوهَ الخذلانِ والعارِ الذي لا يمحى؟!
ويا أيها الإسلاميون، ويا كلَّ مرتزقٍ دنيء! يا من اتخذتم الدينَ ستارًا لأطماعكم الدنيئة، ويا من بعتم ضمائركم بأبخسِ الأثمانِ لمن يدفعُ أكثر، لتُزهقوا أرواحَ الأبرياءِ وتنهبوا خيراتِ هذا الوطنِ المثخنِ بالجراح. عليكم لعنةُ التاريخِ التي ستبقى وصمةَ عارٍ عليكم، وعارُ الأجيالِ القادمةِ الذي سيلاحقكم أينما حللتم. أنتم من أجّجتم نارَ الفتنة، وزرعتم بذورَ الكراهية، وقضيتم على آخرِ بصيصِ أملٍ في وطنٍ آمنٍ مستقر. أنتم المسؤولون عن كلِّ قطرةِ دمٍ سالتْ، وعن كلِّ دمعةٍ نزلتْ، وعن كلِّ بيتٍ تهدمَ، وعن كلِّ حلمٍ تبخرَ، وعن كلِّ عيدٍ فقدناه!
هؤلاءِ هم من حرمونا بهجةَ العيد، وحرمونا من دفءِ الوطن، وحرمونا من لمّةِ الأهلِ والأحباب.
عسى اللهُ أن يرفعَ عنّا هذهِ الغمةَ، ويعيدَ للسودانِ عافيتهُ، ولأهلهِ بهجتهم. عيدكم ألمٌ، لكنه ألمٌ يحملُ في طياته أملًا بأنْ يُشرقَ فجرٌ جديدٌ يعيدُ لنا كلَّ ما فقدناهُ، ويُنهضُ ترابَ الوطنِ من جديدٍ ليُزهِرَ خيرًا وسلامًا. سينتصرُ السودانُ العظيمُ حتمًا، وسينهضُ شعبُهُ الأبيُّ من تحتِ الركامِ، ليعودَ العيدُ عيدين، وتعودَ البسمةُ إلى كلِّ قلبٍ موجوع، ليبزغَ فجرُ الحريةِ والعدالةِ المنشودةِ، ويُسدلَ الستارُ على زمنِ الخوفِ والظلام.