مقالات وآراء

من سؤال: من أين جاء؟ إلى أين يقف الآن…؟ إعادة تعريف الإصطفاف السياسي في لحظة التشظي السودانية

 

عبدالحفيظ الإمام قسوم

منذ اندلاع الحرب السودانية في 15 أبريل، أعادت الوقائع الميدانية والسياسية تشكيل المشهد الوطني بصورة أربكت التصنيفات التقليدية بين ثوار وفلول، وقلبت بوصلة التحالفات والانحيازات.

ولعل أخطر ما أفرزته هذه اللحظة هو انهيار المعايير الأخلاقية والسياسية القديمة، وانفتاح الباب أمام اصطفافات هجينة لا يمكن تفسيرها بمنطق الشعارات وحده.

مفارقة الاصطفاف: عندما يقاتل أفراد يُحسبون على النظام السابق مع من يرفع شعار الثورة.

فئات من النظام السابق وجدت نفسها تقاتل في صفوف قوات الدعم السريع، التي رفعت لواء القطيعة عاليًا مع إرث “دولة 56” ومشروعها القمعي المركزي.

بعض هذه العناصر انضمت بعد سقوط البشير، وأخرى أعادت التموضع مع احتدام الحرب، مستفيدة من هشاشة الظرف والتوازنات الاجتماعية والسياسية.

هذا التداخل يضع مشروع السودان الجديد المُعلن من قبل الدعم السريع أمام اختبار أخلاقي ومعرفي:

هل يمكن لقوة تبنت شعارات الثورة أن تضم في صفوفها من كان يساهم في قمعها؟

السؤال لا يخص فقط الظرفية، بل يطال طبيعة المشروعين المختلفين:

إن لم تُنجز هذه القوى قطيعة حقيقية مع خطاب وممارسات الدولة القديمة، فإن خطاب السودان الجديد سيظهر مجرد غلاف لمواقف متناقضة.

ثوار في حضن الانقلاب: الوجه الحقيقي للمفارقة

في الجهة المقابلة، ثمة قوى وشخصيات تنحدر من السياق الثوري، لكنها باتت اليوم تجد مبررات للتحالف مع المؤسسة العسكرية التي نفذت انقلاب 25 أكتوبر 2021، تحت لافتات مثل:

“الحفاظ على الدولة” أو “الواقعية السياسية”.

هذه القوى، رغم احتفاظها بلغة الثورة، توظّفها عمليًا لتجميل وجه مشروع استبدادي لم يتغير في جوهره.

كيف لمن عارض التمكين أن يتحالف مع من يسعى لإعادته؟

وكيف لمن نادى بالعدالة أن يصطف مع من أفلت من المحاسبة؟

هذا النوع من “الازدواجية الثورية” يمنح مشروعية زائفة لتحالفات تقوّض روح الثورة من داخلها.

نحو معيار جديد: من الماضي إلى الموقف

لم تعد الخلفية النضالية كافية للحكم على صدق الانتماء لمشروع التغيير.

ولم يعد الانتماء السابق للنظام القديم يعني بالضرورة العداء للثورة، إذا اقترن بوعي نقدي وموقف جديد شجاع.

الفيصل اليوم هو:

أين يقف هذا الشخص أو الكيان الآن؟

ماذا يدافع عنه؟

وضد من يتحالف؟

هذا المعيار لا يُغني عن التاريخ، لكنه يُقدِّم قراءة أكثر واقعية وأخلاقية للحظة.

فالثورة ليست محفوظات، بل اصطفاف يومي في قلب نيران المدافع.

الثورة تتطلب مواقف مكلفة، لا شعارات سهلة تقال.

-هل المؤسسات تُختبر؟

الحديث لا يقتصر على الأفراد؛ فالمؤسسات التي تدّعي تمثيل الثورة، لا يكفيها أن ترفع شعارات الحرية والعدالة، بل عليها أن تخضع مواقفها للفحص.

لا يجب عليها أن توظف شعارات الثورة لتبرير العنف وسجل الانقلابات والانتهاكات تحت ذرائع تمسك الدولة الوطنية.

خاتمة: في لحظة إعادة الفرز، الوضوح هو البوصلة

نحن في زمن تختلط فيه الشعارات بالمصالح، وتضيع المبادئ وسط ضجيج التحالفات.

لكن التاريخ لا يرحم من وقف وصمد في المنطقة الرمادية، ولا من برّر التناقضات بحجة الواقعية.

الثوار الحقيقيون هم الذين يصطفون حيث ينبغي الاصطفاف، ويدفعون ثمن مواقفهم، ويرفضون المساومة على قيم الثورة، لا من يسوّقون اللغة الثورية لتغطية انحيازاتهم المريحة.

إن الانتقال من سؤال “من أين جاء؟” إلى سؤال “أين يقف الآن؟”

ليس مجرد نقلة تحليلية، بل ضرورة أخلاقية لحماية المشروع الوطني من التمييع والإنتهازية.

 

إدراك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..