صوتٌ بلا أثر … وعيٌ بلا أفق : المثقف وأزمة الفعل المؤجل

إبراهيم برسي
هناك لحظةٌ فارقة في مسيرة المثقف، لحظة لا تعلن عن قدومها، بل تتسلل عبر الهزائم الصغيرة والانتصارات المؤجلة، عبر الصمت الذي يتكاثف مثل غبارٍ على نوافذ اللغة، حتى يجد نفسه أمام سؤالٍ لا فكاك منه : هل أنا جزءٌ من الفعل، أم مجرد شاهدٍ على هزيمته؟ هل لا زلت أكتب لأُحدث أثرًا، أم لأتأكد فقط من أنني ما زلت حيًّا؟ .
المثقف ليس حامل أفكار فقط، بل حاملٌ لقلقٍ لا يسكن، لوعيٍ يتقاطع مع الزمن لا داخله. لكنه في عصرٍ تحكمه الصورة وتُعيد إنتاجه القوة، يجد نفسه في مأزقٍ لا يشبه أزماته القديمة. لم يعُد السؤال : كيف نُغيّر العالم؟ بل أصبح: هل لا يزال العالم يقبل بفكرة التغيير أصلًا؟ .
كتب إدغار موران : “الفكر الذي لا يربط بين الأشياء لا يرى شيئًا.” وهنا تتجلى المعضلة : المثقف المعاصر يملك ناصية التفكيك، لكنه يعجز عن التكوين؛ يجيد التحليل، لكنه لا يملك خيالًا سياسيًا يعيد تشكيل الأفق. كلّما ازداد وعيه بالانسدادات، كلما ترسّخ في موقع “الواصف” لا “الفاعل”، وفي أحيانٍ كثيرة، يتحوّل النقد إلى طقس لغوي يُعيد إنتاج العجز بلغة أنيقة.
لقد تحوّل المثقف إلى كائنٍ بينيّ: يعيش على الحافة، بين المعرفة والفعل، بين التنظير والاشتهاء. وما يزيد المأساة هو أن هذا التيه لم يعد نتيجة قمع خارجي فقط، بل انزياح داخلي نحو “تأجيل الفعل” إلى أجلٍ غير مسمّى.
لم يكن المثقف دائمًا في هذا الموقع المهتز. في لحظات نادرة من التاريخ، شغل المثقف موقع “المسافة الحرجة” بين السلطة والجماهير. من سقراط الذي شرب السم لأن فكرته كانت أكثر خطرًا من سلاح، إلى أنطونيو غرامشي الذي كتب من الزنزانة ليصوغ مفهوم “الهيمنة” لا لينجو منها. لكن أين يقف المثقف اليوم؟ .
لقد أصبح ذاته مأزومًا، مهووسًا بتفكيك كل شيء حتى لم يَعُد يملك شيئًا يقف عليه. ما بعد الحداثة، في سعيها لتقويض المسلمات، جرّدت الفكر من أدواته للفعل. صار التفكيك غايةً لا مقدّمة، والاحتمال بديلاً للقرار، والوعي لعنةً تمارس نقدها على كل شيء بما في ذلك قدرتها على التغيير.
وفي قلب هذا الفراغ، نشأت طبقة من المثقفين المنمنمين : وجوه معتادة في المؤتمرات، مُحاضرون في قاعات بلا أبواب، يحلّلون انهيار العالم وكأنهم في نزهة. إلا أن بعضهم، مثل إدوارد سعيد، أدرك خطورة هذا الانزلاق، فكتب لا ليرضي الجمهور، بل ليخترق السقف الرمزي، ويحفر موقع الفعل وسط ضجيج التفسير. لكن الأغلبية غاصت في دوامة الأكاديميا، حيث تُنتج المعرفة كشكل من أشكال التزيين، لا المواجهة.
وفي هذا المشهد، لا يمكن تجاهل الجماهير. فليست الجماهير مجرد “متلقٍ بسيط”، بل فاعل متحوّل، صاخب، ساخر، يكتب تاريخه فور حدوثه. الشارع، البوست، اللافتة، واللايف، كلها أدوات خطابية أعادت تعريف من يحق له أن يتكلم.
الجماهير لا تنتظر أفلاطونًا جديدًا، بل ترقص على إيقاع وعيها الفوري. إنها لا تصف العالم بل تصرخ فيه، تُحطّمه وتعيد تركيبه في الوقت ذاته. والمثقف الذي لا يرى في ذلك طاقةً أو تهديدًا، هو مثقف يتحدث من الماضي.
لقد امتصت السلطة دور المثقف، لا بقمعه، بل بمنحه مساحةً تُشبه الحرية، لكنها في الحقيقة شكلٌ من الاحتواء الناعم. تُقدَّم له منابر وندوات وشهادات و”مقاعد مدفوعة”، ليقول ما يشاء، طالما لم يُحدث خلخلة حقيقية. لم تُسكت السلطة صوت المثقف، بل جعلته جزءًا من آلاتها الرمزية، شاهداً على خوائها لا على قدرته.
ومع ذلك، يبقى السؤال : هل لا يزال هناك متسعٌ للعمق في عالمٍ يُختزل إلى تغريدة؟ وهل يمكن للفكر النقدي أن يُعيد تشكيل الواقع، لا فقط أن يصفه؟ هل يمكن أن نعيد للفعل جذوته، لا كموقف ثوري لحظي، بل كوعيٍ قادر على الصمود في وجه التكييف الرمزي؟ .
الفاعلية لا تعني بالضرورة التحشيد ولا التجييش، بل تعني إعادة تشكيل الخيال. إذا لم يستطع المثقف إعادة إنتاج الأفق، فقد تخلّى عن دوره. وإذا اكتفى بموقع “المُفسّر” فهو يفسّر عجزه لا الواقع. فالجماهير، مهما بلغت قوتها، تحتاج إلى بصيرة. لا إلى معلم، بل إلى من يضيء العتمة دون أن يدّعي امتلاك المصباح.
وفي النهاية، ليس السؤال : هل على المثقف أن يكون فاعلًا؟ بل : هل بقي له ما يُقال لم يُستهلك بعد؟ هل بقي في الصوت ما يُفجّر المعنى، أم أن كل ما تبقّى هو صدى باهت؟ وهل لا يزال المثقف يملك أن يصرخ؟ أم أنه، ككل شيء آخر، صار مجرّد تعقيب على عرضٍ أُنجز سلفًا؟ .
المثقف لم ينتهي … لكنه فقد صوته في الزحام وهو يكتب على هامش مشهدٍ لا يعود إليه أحد.