مقالات وآراء

رواية المنتصر لا تكفي… ماذا لو كتب النازيون التاريخ؟ 

 

عثمان فضل الله

ماذا لو انتصر هتلر؟

سؤالٌ لا يُطرح بدافع الفضول فقط، بل بوصفه تمرينًا على فهم كيف يُصاغ التاريخ حين يقع في قبضة الأيديولوجيا. لو لم تُهزم النازية، ولو بقيت آلة دعايتها تحكم ما يُكتب ويُدرَّس، لكنا اليوم نقرأ في كتب المدارس رواية أخرى تمامًا عن الحرب العالمية الثانية – رواية تنفي الجريمة، وتمنح القاتل وسام البطولة، وتعيد ترتيب الضحايا والمجرمين على نحو يُقلب الضمير الإنساني رأسًا على عقب.

في تلك الرواية المتخيلة، لم يكن غزو بولندا عدوانًا، بل “تحركًا دفاعيًا مشروعًا” لحماية أوروبا من خطر البلشفية. ولم يكن اجتياح فرنسا إلا “ضرورة إستراتيجية” فرضها تآمر القوى الغربية. الرايخ لم يكن في عرفهم قوة توسع، بل “الدرع الأخير للحضارة الغربية”.

المحرقة؟ تُنفى تمامًا، أو تُقدَّم كمجرد “سياسات أمنية داخلية”. لا ذكر لغرف الغاز، ولا لأوشفيتز، ولا لملايين اليهود والغجر والمعاقين الذين أُبيدوا في صمت. المعسكرات تُوصَف بأنها “مراكز إعادة تأهيل”، والضحايا يُطمَسون في ظلال الصمت والتشكيك.

أما الحلفاء، فهم في هذا السرد “إمبراطوريات استغلالية”، ارتكبت مجازر بحق المدنيين، من قصف دريسدن إلى قنبلة هيروشيما. تُقدَّم المقاومة الشعبية في فرنسا وبولندا والاتحاد السوفيتي كعصابات إرهابية، لا كأبطال قادوا شعوبهم للتحرر.

في هذه النسخة، هتلر ليس ديكتاتورًا مهووسًا بالدم والعِرق، بل “رجل دولة عظيم” أنقذ ألمانيا من الانهيار. كل كارثة، من ستالينغراد إلى برلين، تُلقى مسؤوليتها على “الخيانة الداخلية” أو “المؤامرة اليهودية العالمية”، لا على جنون الحرب.

لو كُتب التاريخ بأيدي النازيين، لصار الكذب هو الحقيقة الرسمية. ولتحوّلت الوثائق إلى منشورات دعاية، والذاكرة الجمعية إلى ضحية مطموسة. هذا التمرين ليس خيالًا عبثيًا، بل تحذيرًا مما يحدث حين يُترك التاريخ بلا مساءلة، وحين يتحول الأرشيف إلى سلاح.

ولهذا بالضبط، لا يبدو غريبًا أن يعيد الإسلاميون في السودان – ممن يُعرفون شعبيًا بـ”الكيزان” – كتابة بداية الحرب الأخيرة وفق منطق مشابه. فقد قُلبت الوقائع رأسًا على عقب: الانقلاب العسكري في ٢٥ أكتوبر صُوِّر كـ”عملية استباقية لإنقاذ الوطن”، بينما صورت القوى المقاومة له على إنها قوى عميلة معادية للوطن تتلقى أمولًا من السفارات بينما كان الانقلاب نفسه هو فكرة وتنفيذ عواصم إقليمية معلومة ونتيجته المحتومة كانت حرب ١٥ أبريل.

 الجنرالات الذين جرّوا البلاد إلى الخراب أصبحوا “حماة للشرعية”، والعنف العشوائي ضد المدنيين يُبرَّر باسم “الدفاع عن الدين والدولة”.

أكثر من ذلك، تُطمس أدوار شبكات الإسلاميين داخل الجيش، ويُغفل تحريضهم الممنهج نحو المواجهة، ويُعاد تقديم الحرب بوصفها مؤامرة خارجية تقودها “قوى يسارية” أو “عملاء دوليون”³، لا نتيجة لعنف بنيوي زرعته الحركة الإسلامية نفسها طوال ثلاثة عقود.

النسخة النازية للتاريخ، إذًا، ليست بعيدة عنا كما نتصور. إنها تعيش بيننا، تتكرر بألسنة ولهجات محلية، وتُروّج بذات المنطق: قلب المجرم إلى ضحية، وتقديم المجزرة كواجب وطني. ولهذا، فإن معركة الذاكرة في السودان اليوم ليست فقط عن من بدأ الحرب، بل عن من سيكتبها غدًا.

وإليك عزيزي القارئ القليل من المراجع التي ستعيد ترتيب الأمور في رأسك بالشكل الصحيح:

  1. خطبة للشيخ عبد الحي يوسف بثتها قناة “طيبة” في أبريل 2023، وصف فيها الضربة العسكرية التي بدأها الجيش بأنها “فرض عين لدرء فتنة التمرد”، ودعا إلى “الالتفاف حول القيادة العسكرية في معركة الحسم”.
  2. من نفس الخطبة، اعتبر عبد الحي أن “كل من يُقتل في هذه المعركة من صفوف الجيش والمجاهدين في سبيل الله، فهو شهيد”، وحرّض على “إقامة الحدود في الميدان”.
  3. تغريدات إسحاق أحمد فضل الله في سلسلة منشورات بين أبريل ومايو 2023، تحدث فيها عن “حرب تقودها الماسونية” و”تمرد مدعوم من الغرب”، واتهم قوى الحرية والتغيير بأنها “الطابور الخامس”.
  4. راجع:

“The Deep State’s Return: Islamist Networks in Sudan’s Army”, African Affairs, Vol. 123, Issue 490 (2024).

بالإضافة إلى مقابلات منشورة في موقع “سودان تريبيون” توثق تحركات لقيادات إسلامية سابقة من المؤتمر الوطني داخل مؤسسات الجيش قبيل اندلاع الحرب.

 

أفق جديد

تعليق واحد

  1. نازيون شنو يا شيخ عثمان،، شوف التاريخ الاسلامي الماضي والحاضر لا يزال يكتب ويدرس ويمارس،، انت عاوز اكثر من هذه النازية؟؟ وان الشعوب المهزومة نفسها هي التي تكتب التاريخ الان،،،،،اصلا ما هو مفهومك للنازية او الفاشية؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..