خديعة المراجعات الإسلامية في السودان واستثمار الحرب للعودة

عبدالمنعم همت
في خضم الحرب المستعرة في السودان وعبر ركام الخراب الوطني الذي أنتجته سياسات القمع والاستئثار والاستعلاء الأيديولوجي، تعود الحركة الإسلامية السودانية لتُطلّ برأسها من جديد حاملة على كتفها مشروعاً يتدثر بمفردات التوبة والمراجعة، بينما لا تزال تحتفظ في قلبها بذات النزعة السلطوية التي أغرقت البلاد في الدماء والدموع لعقود.
إنّ ما نراه اليوم ليس سوى محاولة لإعادة إنتاج الذات المهزومة تحت عباءة “المنقذ”، من خلال خطاب مزدوج: خطاب داخلي يتم فيه ترويج فكرة أنهم بصدد إجراء “مراجعات فكرية وتنظيمية”، وخطاب خارجي يستثمر في التحالفات القائمة في بورتسودان، حيث يعمل حلفاؤهم على الدفع بما يسمى “المصالحة التاريخية” كغطاء للعفو عن جرائم الحركة الإسلامية، لا كاعتراف بها.
هذه الإستراتيجية، على الرغم من كونها مفضوحة لمن عايش تاريخ هذه الجماعة، إلا أنها تعتمد على قاعدة ناجحة واحدة: ضعف الذاكرة الجمعية وغياب العدالة الانتقالية. وهي ذات القاعدة التي بنيت عليها كل تحولات الإسلاميين في السودان، منذ انقلاب 1989 وحتى سقوطهم في 2019، وما بعدها من محاولات للتسلل عبر ثنايا المشهد السياسي والعسكري.
لقد خبرنا أساليبهم جيداً ونعرفهم حين يغيّرون الأسماء ويبدّلون الشعارات ويتناسخون تنظيميًا كما تفعل الفايروسات. فليس غريبا أن نسمع اليوم عن “مراجعات فكرية”، كما سمعنا في السبعينات عن حل التنظيم والدخول في الاتحاد الاشتراكي في عهد جعفر نميري، ثم عودتهم في الثمانينات بجلباب جديد عبر “الجبهة الإسلامية القومية”، وتحوّلها لاحقا إلى “المؤتمر الوطني” الذي ضمّ حتى غير المسلمين في محاولة بائسة لتوسيع قاعدته الشكلية وتجميل قبحه العقائدي.
إن الإسلاميين لا يتخلون عن مشروعهم، بل يعيدون ترتيب أولوياته وفقًا لمتغيرات الواقع. هم لا يعترفون بأخطائهم، ولا يبدون أيّ استعداد للمساءلة، بل يعتبرون محنتهم مؤامرة ضد الدين، لا نتيجة طبيعية لفسادهم وسوء إدارتهم. والأخطر من ذلك أنهم الآن يطرحون أنفسهم كجزء من الحل لا باعتبارهم أصل المعضلة.
إن مشروع المصالحة التاريخية المطروح من قبل بعض الفاعلين في حكومة بورتسودان لا يعدو أن يكون محاولة سياسية لتبييض صفحة الإسلاميين، دون مساءلة أو عدالة بل دون حتى اعتذار. إن ما يُسمى بـ”المصالحة” ما هو إلا غطاء ناعم لاستعادة مواقع النفوذ والسلطة، عبر أدوات جديدة وشخصيات قديمة.
ولهذا، فإن واجبنا الأخلاقي والسياسي والثقافي هو فضح هذا المشروع، وعدم السماح بتمريره تحت أيّ لافتة، دينية كانت أم وطنية. المصالحة الحقيقية لا تقوم إلا على الاعتراف الكامل بالجرائم، وتقديم مرتكبيها للعدالة، وكشف شبكة الفساد، واسترداد الأموال المنهوبة، وتفكيك البنية العميقة التي ما زالت تحرك خيوط الحرب في السودان من وراء الستار.
نحن لسنا ضد التوبة الفردية، ولا ضد التحولات الفكرية الصادقة، ولكننا ضد تكرار الخديعة الجماعية. لا يمكن أن نبني مستقبلًا جديدًا على أكاذيب قديمة. ولا يمكن أن نسمح بأن يتحوّل السودان إلى مسرح لتدوير نفايات الماضي بحجة الحاجة إلى الاستقرار أو الضرورة السياسية.
إن الذي دمّر السودان ليس فقط الإسلاميون كتنظيم، بل أيضًا ثقافة الإفلات من العقاب التي سمحت لهم بالعودة كل مرة أكثر عنفًا ودهاءً. ولذا، فإن وقف هذا المشروع الخبيث يتطلب منا جميعًا – نخبا، ومثقفين، ومواطنين – أن نقف في وجه محاولات التبرير، ونُسائل من يروجون لها، لا أن نمنحهم غطاء الشرعية تحت وهم “اللحظة الاستثنائية”.
هذه ليست لحظة للعفو بل لحظة للحقيقة. وهذا ليس وقت المصالحات الزائفة، بل وقت المساءلة والإنصاف. وإنّ أيّ خطاب يسعى لإعادة دمج الإسلاميين في الحياة السياسية دون تصفية شاملة لتاريخهم وأدواتهم إنما هو خيانة لدماء الشهداء واستخفاف بعقول السودانيين، وتهيئة لمستقبل أكثر قتامة مما عشناه.
فلنعمل معًا لفضح هذا المشروع ولنكتب التاريخ بمداد الحقيقة لا بالحبر السري للصفقات.
العرب