مقالات سياسية

حول العبودية القديمة وعبودية العمل المأجور (1-3)

د. محمود محمد ياسين

هذا المقال يتكون من ثلاثة اجزاء وهى كما يلى :
1- العبودية كفئة اقتصادية.
2- ارث العبودية وتداعياته الماثلة في العالم.
3- العبودية غير المباشرة في العالم المعاصر.
العبودية كفئة اقتصادية
ان العبودية في هيئتها القديمة ( chattel slavery) اختفت تماما ولم يعد لها وجود في العالم. واذا كان هذا الاختفاء تدعمه مجرد الملاحظة الامبريقية (empirical observation) لأحوال المجتمعات البشرية في عالم اليوم؛ فمن الناحية النظرية، فان منطق الضرورة الاقتصادية (economic necessity) يكمن وراء المصير الذى آل اليه نظام العبودية. ففي العبودية فان قوة العمل ليست سلعة لان الرقيق المملوك لسيد الارقاء لا يتصرف في قوة عمله بحرية، ونتيجة للنزاع العنيف بين الارقاء واسيادهم بالإضافة لصعوبة الحصول على الارقاء وثورات العبيد خسر هذا النظام مكانته في السلسلة التراتبية للأنظمة الاجتماعية/الاقتصادية لتحل محله الاقطاعية حيث لا يبيع الفلاح القن (serf) قوة عمله، بل يستعملها للإنتاج لصالح الإقطاعي مقابل انتاج احتياجاته المعيشية الأساسية من خلال السماح له بامتلاك وسائل الإنتاج الضرورة لهذا الغرض. واستمرت الاقطاعية الى ان انهارت في نهاية الامر تحت ضربات الرأسمالية التي حولت المنتج المباشر الى عامل مجرد من امتلاك وسائل الإنتاج يعتمد في حياته على بيع قوة عمله للرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج والسلع التي ينتجها العمل الماجور.

ان العبودية لا تفهم الا بوضعها في سياقها الاجتماعي التاريخي، فهي نظام للسيطرة فرضته الضرورة الاقتصادية (economic necessity). وهذا التحليل الذى يعتبر العبودية علاقة أو فئة اقتصادية (economic category) من شانه توضيح أن العبودية ليست مجرد فظائع أخلاقية ولكنها نظام هيمنة اقتصادية متأصل في نفس المنطق الذي يدعم العمل المأجور ولكن في أكثر أشكاله تطرفا ووحشية. والرائد في تأكيد صحة وجدوى تحليل العبودية باعتبارها فئة اقتصادية تاريخية هو كارل ماركس الذى كتب في مؤلفه (Grundrisse 1858) قائلا في تفسيرها ” لا أقصد العبودية غير المباشرة، عبودية العمل المأجور، بل أعني العبودية المباشرة، عبودية السود في سورينام والبرازيل وفي المناطق الجنوبية من أمريكا الشمالية …….. بدون العبودية لن يكون هناك قطن، وبدون قطن لن تكون هناك صناعة حديثة. إن العبودية هي التي أعطت قيمة للمستعمرات، والمستعمرات هي التي خلقت التجارة العالمية، والتجارة العالمية هي الشرط الضروري لصناعة الآلات على نطاق واسع. وبالتالي، قبل تجارة الرقيق، كانت المستعمرات ترسل عددا قليلا جدا من المنتجات إلى العالم القديم، ولم يتغير وجه العالم بشكل ملحوظ. ولذلك فإن العبودية هي فئة اقتصادية ذات أهمية قصوى. بدون العبودية، فان أمريكا الشمالية ، الأمة الأكثر تقدما، كانت ستتحول إلى دولة أبوية. فقط امسح أمريكا الشمالية من الخريطة وستحصل على الفوضى والاضمحلال الكامل للتجارة والحضارة الحديثة. ……. نظرا لكونها فئة اقتصادية، فقد كانت العبودية موجودة في جميع الدول منذ بداية العالم. كل ما حققته الدول الحديثة هو إخفاء العبودية في الداخل وتصديرها علنا إلى العالم الجديد“. (ماركس يشير هنا الى الحقيقة التاريخية وهى أن التجارة التي نشأت عقب اكتشاف العالم الجديد “الأمريكتين: أمريكا الشمالية والجنوبية” هي احد أهم العوامل الرئيسة التي ساعدت في انتصار وتوطيد نظام الإنتاج الرأسمالي على الاقطاع.

من الحالات الغريبة في تاريخ العبودية هي نظام العبودية، المشار اليه في المقتطف السابق، الذى انتهجته البرجوازية الأمريكية خلال الفترة الممتدة من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، وهى حالة شاذة (anomaly) اقتضتها ظروف تاريخية اجتماعية/ اقتصادية محددة ولا يناقض حدوثها المكانة التاريخية لهذا النظام. فان الجنوب الأمريكي الذى شهد ادخال العبودية لم يكن ينتقل من الإقطاع ولكن البدء من جديد: ادخال نظام العبودية ودمجه مباشرة في التنمية الرأسمالية. ففي مؤلف ال (Grundrisse) نقرأ ”ان امريكا الشمالية لم يتطور فيها المجتمع البرجوازي على أشلاء النظام الإقطاعي، بل تطور من نفسه؛ حيث لا يظهر هذا المجتمع كنتيجة باقية لحركة عمرها قرون، بل كنقطة انطلاق لحركة جديدة. فمن السمات الفريدة لأمريكا هي أن الرأسمالية فيها لم تتطور من الإقطاع كما حدث في أوروبا ،حيث نشأت الرأسمالية من أحشاء العلاقات الإقطاعية ( ملكية الأراضي والنبلاء ، الأقنان الخ). وان المجتمع الأمريكي الذى صار رأسماليا منذ البداية وليس عبر التغلب على الإقطاع، ربط نظام الإنتاج الرأسمالي بأرض طبيعية هائلة لعالم جديد يسوده نشاط اقتصادي يتميز بحرية الحركة التي لم يسمع بمثلها العالم من قبل، وقد تجاوز بكثير كل عمل سابق للإنسان في غزو قوى الطبيعة. وهكذا، كانت هناك حرية هائلة في استغلال الثروة الطبيعية للأرض الجديدة دون قيود التقاليد الإقطاعية.“

وقد كانت العبودية في أمريكا مصممة للإنتاج للسوق العالمي الرأسمالي – وخاصة القطن الذى تحتاجه صناعات النسيج البريطانية. ولأنها في شكلها وجوهرها لم تكن رأسمالية، إلا أن العبودية في أمريكا كانت خاضعة للاحتياجات الرأسمالية حيث أنتجت المزارع القطن للأسواق الرأسمالية. لقد كانت العبودية في أمريكا جزءا لا يتجزأ من دائرة رأسمالية عالمية تتمثل في انتاج القطن لمصانع لمنسوجات في إنجلترا والخدمات المصرفية في الشمال الأمريكي وحركة الشحن من والى أوروبا ، الخ.

وهكذا، فان العبودية في الجنوب الأمريكي لم يتم اللجوء اليها بداية ثم إلغائها لاحقا لاعتبارات ذاتية لا أخلاقية ولكن من خلال الاحتياجات المتغيرة لرأس المال: لجأ اليها راس المال عندما اقتضت الضرورة توسيع زراعة القطن، وعارضها عندما تعارضت مع المصالح الرأسمالية الأوسع عندما شهدت الصناعة الأمريكية صعودا كبيرا في الشمال الأمريكي وبالتالي تعميم نظام الإنتاج الرأسمالي وضرورة وجود العامل غير المقيدة حركته وبيع قوة عمله بحرية. ومعارضة برجوازية الشمال الأمريكي لنظام العبودية هو ما فجر الحرب الاهلية بين الجنوب والشمال في 1861.
–نواصل في الجزء الثاني ونقرأ كيف زُج بإرث العبودية في سياسات الهوية وأثر ذلك على قضايا التغيير.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..