السعادة في زمن الكرب

قصة قصيرة
عاطف عبد الله
نهض عثمان بصعوبة، وعيناه مثقلتان بالنعاس، بعد أن أمضى الليلة كلها مستلقياً على السرير في الغرفة المتهالكة، بسبب أصوات الرصاص وهدير المدافع التي مزّقت داناتها سماء البيت طوال الليل.
كان الهواء خانقاً، والغرفة تئن من الضيق والفوضى. نهض مهموماً، وتوجه نحو برميل الماء، فكان خالياً كأملٍ مرقّع. فتح صنبور الحنفية، فلم يمنحه سوى صوت الخرير اليابس… لا ماء، ولا كهرباء.
ألقى نظرة على السرير الآخر، كان غير مرتب كعادته. لا شك أن نادية خرجت منذ الفجر إلى التكية، علّها تجد شيئاً من العدس أو رغيفاً من الخبز. وربما، إن حالفها الحظ، جلبت بصلاً أو طماطم. أصبحت التكية آخر ما تبقى من مظاهر الرحمة في هذا الخراب؛ ملجأً للذين لم يستطيعوا النزوح ولا الفرار، لأنهم ببساطة لا يملكون ما يكفي للهروب.
رفع عينيه نحو سرير أمل، ابنته الوحيدة. كان السرير مرتباً بدقة، كما تفعل كل صباح. أمل، رغم إعاقتها الذهنية، كانت شديدة الالتزام بطقوسها الصغيرة: ترتّب سريرها بعناية، ثم تخرج إلى الحوش الخلفي، تجلس تحت النخلة العتيقة، ممسكة بجهاز التسجيل القديم، تستمع إلى أغنيتها المفضلة “الدرب الأخضر” للمطرب عثمان حسين، وتبدأ بالرقص بخفة.
نظر عثمان من النافذة، فرآها هناك، تماماً كما يتوقعها كل صباح. تتمايل بذراعيها، مغمضة العينين، ووجهها الطفولي يضيء بابتسامة عذبة. في قلب الفوضى، كانت أمل تعيش في عالم لا تشوبه الحرب، عالم لا يعرف الجوع، ولا يبالي بانقطاع الكهرباء أو الماء. عالم بسيط، نقي، لا تحتاج فيه إلى أكثر من لحن دافئ وسماء مفتوحة فوقها.
أما النخلة التي تجلس عندها، والتي كانت قد امتنعت عن العطاء وإنتاج التمر احتجاجاً على كل هذا الجنون… فقد كانت لا تبخل على أمل ببضع تمرات كل صباح.
عاد عثمان إلى الداخل، جلس على طرف السرير الخشبي المتهالك، وسرح بنظره في السقف المتشقق. رغم الجوع، رغم الخوف، رغم هذا الانهيار الكامل في كل شيء… شعر بشيء غريب يتسلل إلى صدره. لم يكن راحة، ولا أملاً واضحاً. لكنه كان شيئاً يُشبه السكينة.
ربما هي الأغنية، ربما أمل التي تبتسم بلا سبب واضح، أو ربما لأنه أدرك للحظة قصيرة أن السعادة، في بعض الأحيان، لا تتطلب أكثر من القدرة على التكيف مع التغيرات، ووجه مألوف، وأغنية قديمة وإصرارٍ على الحياة رغم تدفّق أسباب الموت من حولك.