الذهب الأسود في مهب حرب السودان الطويلة

منذ اكتشاف النفط في جنوب السودان أواخر القرن الماضي وهو محاط بقضايا الصراعات الشائكة التي توظف تارة في تمويل الحرب وتارة أخرى في هندسة السلام الهش، لكنه لم يُستثمر يوماً كرافعة تنمية حقيقية أو أداة لتقوية الوحدة الوطنية.
ومنذ أواخر سبعينيات القرن الـ 20 دخل السودان نادي الدول النفطية عبر استكشافات شركة “شيفرون” الأميركية التي رأت في الحقول الجنوبية في مناطق ربكونا والوحدة إمكانات هائلة للاستثمار النفطي، غير أن اندلاع الحرب الأهلية الثانية وهجوم المتمردين على منشآت “شيفرون” في ربكونا عام 1984 أفضيا إلى انسحاب الشركة من السودان، مما عطل تطوير القطاع عقداً كاملاً وأظهر بوضوح أن استخراج الموارد الطبيعية في السودان لا يمكن فصله عن معادلات الصراع السياسي والمسلح.
وفي ظل العزلة الغربية المفروضة على النظام السوداني بعد مجيء ما سمي بنظام “الإنقاذ” إلى الحكم، دخلت الشركات الصينية، وعلى رأسها المؤسسة الوطنية الصينية للبترول(CNPC) ، على خط الاستثمار لتتحول الصين إلى الفاعل الدولي الأول في قطاع النفط السوداني، ومع الدعم الصيني استأنف السودان عمليات الإنتاج وبدأ في تصدير النفط عبر خطوط أنابيب ممتدة من الحقول الجنوبية إلى مصفاة الجيلي وميناء بورتسودان، مما منح الدولة المركزية حينها دفعة مالية كبرى وشكل قفزة نوعية في بنية الاقتصاد الوطني، لكن على أسس غير مستدامة، إذ تمركزت العائدات في أيدي النخب ولم توظف في تنمية متوازنة أو إصلاح سياسي.
وقد كان النفط أول ضحايا الحرب الأهلية في الجنوب قبل الانفصال، فقد شكل منذ تسعينيات القرن الماضي هدفاً مباشراً للتمرد المسلح ومصدراً للثراء السريع لأعضاء النظام السابق، مما حوله من قطاع إنتاج إلى ساحة تنازع مستمر، ثم جاء انفصال جنوب السودان عام 2011 ليشكل نقطة الانكسار الكبرى، فخسر الشمال نحو 75 في المئة من حقوله النفطية في مقابل احتفاظه بالبنية التحتية بما فيها المصافي وخطوط التصدير، فنشأ نمط من الاعتماد المتبادل غير المتكافئ في ظل هشاشة مزدوجة، فكل اضطراب سياسي أو أمني، سواء في جوبا أو الخرطوم، ينعكس مباشرة على تدفقات النفط ويترجم إلى أزمة اقتصادية.
ورقة مساومة
وفي سياق التحولات العاصفة التي شهدها السودان بعد انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، برز النفط باكراً كأداة صراع سياسي قبل أن يتدرج لاحقاً إلى واجهة التصعيد العسكري، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وعلى وقع التوتر المتصاعد بين المكونين المدني والعسكري داخل الحكومة الانتقالية، دخل النفط ساحة التوظيف السياسي حين تجلى ذلك في التهديدات المتزايدة التي أحاطت بالبنية التحتية النفطية، وبرزت كمؤشر على هشاشة التوافقات السياسية وتآكل الثقة بين أطراف الحكم.
وفي ذلك التوقيت الحرج عقد اجتماع لـ “قوى الحرية والتغيير” في ولاية غرب كردفان التي تضم بعضاً من أهم الحقول والمنشآت النفطية في البلاد، وتناول الاجتماع تطورات المشهد السياسي محذراً من تداعيات إغلاق الطريق القومي شرق السودان، والذي يشكل شرياناً اقتصادياً حيوياً، على حركة الإمداد بالمواد الغذائية والمشتقات النفطية، كما لم يخف المشاركون في الاجتماع خشيتهم من أن تتحول منشآت النفط نفسها إلى أهداف مباشرة في ظل تصاعد الاستقطاب السياسي، مؤكدين أن التصعيد ضد البنية التحتية النفطية لم يعد مجرد احتمال نظري بل بات خطراً واقعياً.
غير أن الحرب التي اندلعت في أبريل (نيسان) 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مثلت الضربة الأشد فتكاً لما بقي من هذا القطاع الذي بات رهينة الصراع، ومؤشراً على مدى انهيار الدولة، فقد دمرت الاشتباكات البنية اللوجستية وأربكت عمليات الإنتاج والصيانة ودفعت بالخبرات الأجنبية والمحلية إلى الهرب الجماعي، وتحولت محطات الضخ وممرات الأنابيب إلى مناطق نزاع عسكري وأدوات ضغط سياسي، وتحول النفط إلى أداة جديدة في حرب السيطرة على الموارد والنفوذ عبر إقحامه في الحرب بوصفه ورقة مساومة أو نقطة ارتكاز في معادلات القوة، لتبدأ مرحلة جديدة من استهدافه المنظم، لا لتقويض الخصم وحسب بل لإعادة رسم موازين السيطرة على الدولة ذاتها.
تضرر المنشآت
وخلال الأسابيع الأولى من الحرب تضررت مراكز التحكم والعمليات في الخرطوم، بما في ذلك منشآت “شركة النيل للبترول” التي اشتعلت فيها النيران في سبتمبر (أيلول) 2023 نتيجة الاشتباكات في منطقة المقرن، وتبع ذلك تعطيل متكرر لمصفاة الجيلي التي تعد المركز الحيوي لتكرير النفط في البلاد، فقد تعرضت لقصف مباشر في ديسمبر من العام نفسه، ثم لاحقاً في مايو (أيار) 2024 حين أحرقت خزانات ضخمة وتضررت البنية المعدنية فيها مما أدى إلى فقدان أكثر من 210 آلاف برميل خام، فيما قدرت الخسائر المالية بأكثر من 5 مليارات دولار، وفق تقارير دولية مستقلة.
وفي ولاية النيل الأبيض اُستهدفت خطوط الأنابيب الممتدة بين مناطق الإنتاج وموانئ التصدير مما أدى إلى انفجارات عدة، أبرزها ما حدث في فبراير (شباط) 2024 بمحطة الضخ رقم (5) عندما توقف الضخ بالكامل بسبب انعدام الوقود وغياب الطواقم الفنية، مما أدى إلى فقدان 7 ملايين برميل من نفط جنوب السودان الذي يعبر أراضي الشمال، وتسبب في إعلان حال “القوة القاهرة”، أما الهجمات الجوية بالطائرات المسيرة التي شنت في مايو الماضي على مدينة بورتسودان ومطارها ومحطات الوقود الحيوية، فتسببت في شل حركة التصدير ودفعت الحكومة إلى تعليق تصدير نفط الجنوب.
خندق تفاوضي
وفي الاقتصاد السياسي للنزاعات، كما يشير الاقتصادي الهندي الحائز “جائزة نوبل” أمارتيا سن، “لا تقاس الكارثة بتدمير الأصول أو تراجع المؤشرات الكلية وحسب، بل بانهيار القدرة المؤسساتية للدولة على توليد القيمة وتوزيعها بصورة عادلة”، وفي حال السودان فإن الحرب أطلقت سلسلة من التداعيات العميقة على قطاع النفط لم تقتصر على الجانب التشغيلي، بل طاولت البنية الاقتصادية العامة وغيرت موقع النفط في المعادلة المالية للبلاد من رافعة سيادية إلى نقطة انهيار مركزي، وتمثلت أولى هذه الانعكاسات في تراجع الإيرادات العامة للدولة بصورة حادة مع توقف ضخ النفط في أجزاء واسعة من البلاد، وانهيار منظومات التكرير والنقل وبخاصة بعد الضربات التي طاولت مصفاة الجيلي وخطوط أنابيب الجنوب، ومع انقطاع الإمدادات وتراجع الإنتاج لأقل من 40 في المئة من مستوياته قبل الحرب، تقلصت العائدات النفطية التي كانت تشكل نسبة معتبرة من الموازنة العامة، مما أسهم في تفاقم العجز المالي وتآكل قدرة الدولة على الإيفاء بالحد الأدنى من التزاماتها.
وبالتوازي شهدت البلاد أزمة خانقة في النقد الأجنبي، وأدى تراجع صادرات النفط وتوقف رسوم عبور نفط جنوب السودان إلى انحسار تدفق العملات الصعبة، وهو ما انعكس مباشرة على سوق الصرف، ومع تضاعف الطلب على الدولار وشح المعروض انهار الجنيه السوداني لتدخل البلاد دوامة تضخم مفرط، ارتفعت فيها أسعار السلع الأساس بمعدلات غير مسبوقة، مما وسع رقعة الفقر وزاد هشاشة النسيج الاجتماعي.
كما تسببت الحرب في هرب الاستثمارات الأجنبية، وبخاصة ما بقي من شركات النفط الصينية، فتوقفت مشاريع الاستكشاف والصيانة وجرى سحب الطواقم الأجنبية نتيجة انعدام الأمن وغياب الضمانات القانونية والتعاقدية، وقد أدى ذلك إلى تجميد نقل التكنولوجيا وتعطيل سلاسل القيمة النفطية مما عمق الاعتماد على موارد محدودة وضعيفة القدرة التشغيلية.
ولم يعد الخط النفطي الواصل من الجنوب إلى بورتسودان مجرد ممر اقتصادي بل خندقاً تفاوضياً تهدد الخرطوم بسده وتلوح جوبا بالتخلي عنه، في لحظة إقليمية تعاد فيها هندسة طرق الطاقة والنفوذ، كما أدى الانهيار الأمني إلى تصدع العلاقة بين المركز والأقاليم في كردفان والنيل الأزرق حيث توجد منشآت إنتاج حيوية، وبدأت تتبلور نزعة ما بعد مركزية في إدارة الموارد، تغذيها مشاعر التهميش والافتكاك من قبضة الدولة، والخطر هنا لا يكمن فقط في سعي الأقاليم إلى السيطرة على ما تحت أرضها بل في تأسيس وقائع اقتصادية جديدة قد تعيد تشكيل حدود الدولة من باطنها.
سيناريوهات محتملة
وفي ضوء ديناميات الحرب السودانية وتعقيداتها المتشابكة يبدو مستقبل قطاع النفط محاطاً بثلاثة سيناريوهات محتملة تتفاوت من حيث الواقعية والتأثير، وتكشف كل منها عن ملامح مختلفة لمصير هذا المورد الإستراتيجي، لا كمجرد سلعة بل كبنية حاكمة للعلاقات بين دولتي السودان وجنوب السودان، وبين الأطراف المتنازعة داخلهما.
السيناريو الأول هو استمرار الانهيار والتفكك المؤسساتي، وإذا استمر الصراع المسلح من دون أفق سياسي للحل فإن قطاع النفط سيواجه حال شلل تام، خصوصاً مع تصاعد الضربات على مصافي التكرير ومحطات الضخ وخطوط الأنابيب وغياب الطواقم الفنية، وحينها لن يقتصر الضرر على إنتاج وتصدير النفط بل سيفقد السودان دوره كممر إستراتيجي لنفط جنوب السودان، مما قد يدفع جوبا إلى البحث عن بدائل عبر كينيا أو إثيوبيا على رغم الكلفة المرتفعة، وبهذا سيتحول النفط من رافعة سيادية إلى عبء سياسي وأمني يعمق فقدان السودان موقعه الإقليمي ومصادر دخله الحيوية، “نقلاً عن اندبندنت عربية”.
الغد السوداني