مقالات وآراء

مرتع صباي

الطيب النقر

في ذلك “الحي” الذي يقع في وسط تلك المدينة التي طافت بها العديد من الفتن والثورات، والتي ما زال القلق يجيش في نفوس الكثير من قاطنيها، وفي أفئدة الكثير منهم ينساب اليأس، هذه المدينة الساحرة، الفاتنة، الحلوة التقاطيع، لم تحظى في الحق “بوالي” أو “حاكم”، يؤثر التقشف في مأكله، وملبسه، وركوبه، حاكم يخرجها من معاطن الكرب التي أناخت الوحشة فيها، إلى رحاب الدعة، والرقي والتقدم، فكل من شمخ عليها بقامته، خياله قد قصر عن ادراك خيراتها التي هالته كثرتها، فيتلهى ببعض هذه المنن، ويتنعم بها، وينسى المدينة التي لا ينكر منظرها المزري، وزيها القاتم، ومحياها العابس الشتيم، الذي هو إلى الكآبة والعبوس، أدنى منه إلى الاشراق والابتسام.

وفي ذلك “الحي” العريق الذي ترعرنا فيه، والذي يذوب رقة ويمتلئ حنانا، “صقعنا” الذي خلى من أبنية شاهقة، وطرقاً ممهدة، كانت هناك عادات راسخة لا تنحرف عنها نساء ذلك الصقع، مهما كانت الظروف، وقسوة الأيام، تلك الكوكبة من النساء اللائي اتفقن في تصورهم للأشياء، وتفكيرهم فيها، وحكمهم عليها، وتقديرهم لها، كن يحرصن على تلك العادات، التي وجدنا أنفسنا في صبانا مولهين، مدلهين، مفتونين بها، ومن تلك العادات التي كنا نكلف بها أشد الكلف، حرصهن على نظافة المنطقة، في الأعياد والمناسبات، وأن يصلحن واجهاتها، وميادينها ما أستطعن أن يصلحن، ويتركن محافلها، وطرقها، وأقاريزها، على حالة من الكمال، ومن العادات الموروثة، والتقاليد المغروسة، أن يسندن ظهورهن إلى الحائط، ويطلقن الزغاريد الداوية المجلجلة، كلما طغت الأحاسيس، والتهبت المشاعر، بحشود الجيش الذي يسير في صفوف منتظمة، وخطوات متماسة، تنتظم في مسارها كما ينتظم العقد، وتنسجم في خطواتها كما تنسجم الموسيقى، هذه الحشود التي نتظرها في حرقة ولهفة، تترى في الأعياد الوطنية، وفي كل مناسبة يصون فيها الجيش كرامة أمته، ويجعلها راضية مطمئنة، ومن العادات التي هيأتها خصائص الدين، وحددتها قيمه، أن ترافق البنت أخاها لأداء صلاة التراويح في رمضان، وأن يحتدم الجدل إلى حد كبير، في المنزل الذي سوف تقام فيه خبائز العيد، فالنقاش العاصف الذي يدور بين نساء “الحي” قبل أن يتفقن وتسود السكينة، يعد من “الأوبرات” الرائعة التي لا تنساها ذاكرتي.

ونساء تلك الناحية، الخيط الناظم الذي يجمع بينهن، حرصهن على عدم الوقوع فيما تخافه “الحرة” وتتحاشاه، فالمرأة الأصيلة التي تخضع لضروب من النظم والأعراف التي تواضع عليها الناس، تشعر دوماً بحاجتها إلى الاكبار والاجلال، لأجل ذلك تنأى بنفسها عن كل سبب يجعل اسمها يروج في سوق الأقاويل، وأسهمها تتصاعد في بنك الشائعات، ونساء ذلك “الحي” الفقير المجدب، كنا يتهالكن على الطهر والنقاء، ولو تمثل العفاف في وجهوههن لكان في نضرتهن، وبشاشتهن، التي خضعت للفضيلة واطمأنت إليها.

ورجال الدائرة الذين طغت على عواطفهم، ملامح الرفق بي، والاشفاق عليّ، لأني فقدت أبي وأنا حدث صغير، ليس من المبالغة أن أقول، أن الصوفية التي ملكت عليهم أمرهم، وآمنوا بها ايماناً شديداً، هي التي حملتهم على الايثار، والانصراف عن المنفعة، هذه الجمهرة التي لم تجتهد في أن توفق بين ايمانها بالتصوف، وبين عقلها، تتهافت على أصحاب التأثير الطاغي، والروح القوية، والنفس الطموحة، والقلب الكبير، الرموز الدينية، وأصحاب الكرامات والمعجزات، في كل يوم اثنين وخميس، ليرددوا في عنف وخفة، تلك “المدائح النبوية” التي تستعذبها النفس، ويستسيغها الوجدان، هذه القصائد الجياد التي لم تفقد طلاوتها، وسحرها القديم، باتت مهبط الوحي للأجيال التي جاءت من بعدهم، لأنها دنت من الكمال، وبلغت من الدقة والإجادة حداً كبيرا، وفي ضحى كل يوم جمعة، يرتدي من لا تضمر مهجهم شيئا، ثيابهم الرثة، وأسمالهم البالية، التي تنم عن عوزهم، وفقرهم المدقع، ويقصدوا مسجد المدينة العتيق، ذلك المسجد الذي لم تكن فيه تلك “القبة الباذخة” التي تنيف الآن على جميع مباني السوق، والتي تبدو وكأنها مغضبة حانقة، لأن اطلالتها غير يسيرة عليها، ولا محببة إليها. فهي تطل على بقاع نصب فيها الشيطان راياته، وأبليس الذي حصّن شباكه وفخاخه، جعل رهط كبير من قاطني ذلك “الحي” وتلك المدينة، لا يقوون على الهرب، ففريضة الصلاة التي لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يسوغ في تركها معذرة، انصرفت عنها تلك الجموع التي حفلت حياتها بألوان الخلاعة، والتهتك، والمجون، فهذه الناجمة التي تؤمن بحقوق السماء عليها، تؤمن أيضاً بأن تنال حقوقها كاملة غير منقوصة من الشهوات، وأن تهيم بها، وتضع نعلها أمام بابها، هذه الجماعات التي أغرقت نفسها في الأفعال التي تنكرها السلائق والشيم، فهمت حقوقها فهماً بسيطاً ساذجاً، دفعها لأن تؤلف بين متناقضاتها، وتوفق بين متبايناتها، فهي تحب الخمر، وتطرب لشربها، ولا تصدف عن “نٌظم الصوفية” التي لا ندري متى نمى عشقهم لهذه النٌظم، ولكننا نعلم أن شغفهم بها قد اضمحل، ولكنه لم يأخذ سبيله إلى الجفوة والاندثار، فهذه الفئات التي مزقت الصهباء حجاب أسرارها، هناك الكثير من الشواهد التي تؤكد هيامها بهذه “النٌظم” التي ما زالت تظهر لها الود، خاصة في تلك الأماكن التي ينشد الناس فيها الحركة، ويتبرموا بالسكون، كالموالد، والحوليات، ففي هذه المناسبات، نجد هذه الثلة ثلهث من شدة النصب، ويجبرها “الطار”، و”الكاس”، و”الدفوف”، ألا تمس قدماها الأرض. هذه النزعة الصوفية التي تندب اقبال تلك الفئات على الحياة، وغفلتها عن الآخرة، تؤكد بأسلوب سهل يسير، أن هذه الزمرة ليست أبعد الناس منها، ولكن الرذائل، وقذر العادات، أوهت فيها اشعاعها وقبسها.

هذا “الفريق” الذي لم استقصى بعد آثاره ومشاهده، والذي أدركت بتقدم السن، وتحول الأيام، أن مُثله العليا التي ما زالت تغدق عليّ في سعة وسخاء، لولا ارتهاني لهذه المٌثل، لعشت عيشة الهمل السوائم، فأنا لو أرغمت نفسي لشيء من التحليل الدقيق الذي يظهر خفاياها، ويجلي ما كمن فيها من عاطفة وشعور، لحملني ذلك التحليل على الدهشة والذهول، ففلسفة ذلك “الحي” التي تغلغلت أصولها في دواخلي منذ أمد طويل، هي التي قادتني لأن أعيش هادئاً قانعاً من الحياة بما قسم لي، هذه الفلسفة هي التي قدمت إليّ شاحبة ممتقعة، وقد لاحت عليها آثار الجهد والتعب، وأنا في تلك الجزر النائية القصية، لتعصمني من الخطايا والذلل، ولتصفي ذهني من شوائب هذه الثقافة الدخيلة، ولتسكب في دواخلي مضاء العزم، وحدة الذهن، وصفاء الملكة، حتى أحقق ما كنت أرجوه من التحصيل الأكاديمي، أنا حقيقة ممتن لهذه الفلسفة، وشاكر لهذا “الحي” الذي جعل “المآثر” عندي قوية، منيعة، عزيزة الجانب.

[email protected]

‫3 تعليقات

  1. كويز الدمازين الحربائي السالخ الجالخ الجهلول قال “مرتع صباي” …
    يقصد الدمازين حي عمال الري الشغالين في الخزان.
    الاسم: الطيب عبد الرازق النقر
    من مواليد الدمازين – حي الري
    الابتدائي: مدرسة الجمهور الابتدائية – الدمازين
    المرحلة المتوسطة: المدرسة الغربية – الدمازين
    الثانوي: مدرسة الدمازين الصناعية
    الجامعة: ماجستير في الفقه واصوله
    الجامعة الإسلامية
    كوالالمبور ماليزيا
    كلية الشريعة الاسلامية
    جامعة مليزيا الاسلامية من شدة الهملة وبيع الشهادات ادوه ماجستير في “الفقة وعلوم الوحي واصوله” شفت السلفكة والعنوان الطويل العريض وده كلو والكوز بتاع مدرسة صناعية بدون ما يكون عنده بكالاريوس

    1. استاذنا الركابي،، يا اخي خانق زولنا دا مالك؟؟
      حتى شيخ الازهر قال الفنان عبد الحليم حافظ في اغنيته المشهورة ((ابو عيون جريئة)) كان بمدح الرسول،،، والزويل دا جنبو مجرد صير،،، قال ايه الفقه وعلوم الوحي قال

  2. بالله يا كويز الدمازين طلعت صنايعي زيك زي المش باشمهندس سلمان المساح ؟

    فعلاً المصيبة في المعهد العلمي والمركز الأفريقي الذي يخرٍِج لنا مثل هذه المعوقات.

    غايتو ماليزيا دي عرفنا سرها يوم أعطت الأهبل عوض إبراهيم عوض درجة الدكتوراة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..