ثقافة وآداب، وفنون

«جوركي وتشيخوف»… مراسلات في الأدب والحياة

تكشف الطبعة الجديدة من كتاب «مراسلات جوركي وتشيخوف» الصادرة عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، ترجمة جلال فاروق الشريف، عن جانب من جوانب روائع الفكر في الأدب والحياة التي يعبر عنها اثنان من العظماء في تاريخه هما مكسيم جوركي (1868 – 1936) وأنطون تشيخوف (1860- 1904) اللذين تشاركا نفس المرض، السل، والأحلام في صنع عالم أفضل من خلال الكتابة.

يلح جوركي في هذه المكاتبات على تقديره العارم لتشيخوف، فهو يثق به ويحسن فهمه، لهذا نراه يحدثه بصراحة كبيرة عن كل ما يعانيه: «إني لا أتحدث إليك لأني أحبك فحسب، بل لأني عليم بأنك رجل تكفيه كلمة واحدة كي ينشئ صورة ويؤلف جملاً ويكتب قصة رائعة تنبش أعماق الحياة وجوهرها كما تفعل أداة السير بالأرض».

ويبوح مؤلف «الأم» و«الساقطون» و«طفولتي» بهواجسه تجاه أن يكون المرء عبقرياً بقوله في إحدى تلك الرسائل: «إنه من الحماقة بمكان أن ندعو إنساناً بأنه عبقري، إذ ما هي العبقرية؟ إنها مفهوم غامض كل الغموض، وإنه لبسيط كل البساطة وواضح كل الوضوح».

ويبدو جوركي في بعض الرسائل وكأنه ضحية لحالات وجودية من اليأس والهشاشة لكن لا يتوانى عن البوح بكل ما يعتمل في قرارة نفسه من تفاعلات صاخبة مؤرقة: «ما نحن في الحقيقة إلا كائنات جديرة بالشفقة، ما نحن غير أناس يورثون الضجر، أناس مقيتين حتى إني أسهر محترساً من الأفكار السوداء حتى لاتمتص فؤادي».

ورغم التفاؤل القوي الذي عُرف عن جوركي وعن أبطال قصصه وسط حماستهم للحياة وإقبالهم عليها، نجد تياراً قوياً من التشاؤم يسري في هذه الرسائل، وهو ما دفعه لتكرار محاولات الانتحار أكثر من مرة، كما يتجلى في قوله: «إني فظ، ثقيل الظل ونفسي مريضة لا يرجى فيها شفاء. هناك فترات تأخذني فيها الشفقة على نفسي، وها أنا الآن في إحداها وما تحدثت عن هذه النفس إلا كمخلوق أضمر له الحب. إني أطلق على هذا النوع من الحديث اسم (غسل الروح بدموع الصمت) ذلك لأن الكلام ضرب من العبث، فالمرء يتكلم كي لا يقول شيئاً ولن يتفوه المرء بما تبكي منه الروح. انظر إلى ما وصل إليه حالي كإنسان خائر العزيمة يا أنطون بافلوفيتش».

ويقول في رسالة أخرى: «إني أرغب رغبة عظيمة في حياة أخرى مهما كان نوعها، حياة أقل عبوساً وبطئاً، فأنا بليد أحمق كالقاطرة». لكنه يعود في خطاب آخر ليتحلى بشيء من الأمل: «سأعيش وحيداً وسأعمل، لقد قال أحد أبطال هيدبرغ إن العزلة بداية الحكمة وأضاف آخر إنها بداية الجنون كذلك».

ويؤكد أنها يريد أن يقلد تشيخوف في عزلته، لكن الأخير يرد عليه بأن يهجر الريف والمدن الصغيرة، فيرد جوركي: «أن أذهب وأعيش في سان بطرسبرغ؟ لا لست أحب المدن الكبيرة».

ولقد تحولت العلاقة بين جوركي وتشيخوف إلى صداقة متينة يستطيع القارئ أن يلحظها في هذه المراسلات، ولم يعد الموقف بينهما موقفاً بين تلميذ وأستاذ، الأمر الذي شجع جوركي على توجيه النقد لتشيخوف، فكان نقداً محكماً رصيناً يقدم صورة حقيقية عن أدب صاحب «موت موظف» و«بستان الكرز».

ورغم أن الاثنين كانا قريبين في السن للغاية ومصابين بمرض واحد هو السل، فإن الموت الذي اخترم تشيخوف عام 1904 قد أبقى على جوركي حتى عام 1936 فنضجت عبقريته وقدم للأدب العالمي بأسره تراثاً إنسانياً رفيعاً كان آخر حلقة في سلسلة الأدب الروسي الكلاسيكي الذي بدأ مع بوشكين.

وجاءت رسائل تشيخوف قليلة للغاية، مقتضبة، تركز على النصائح العملية السريعة وتحاول طوال الوقت تشجيع جوركي والرفع من روحه المعنوية قدر المستطاع، ومنها تلك الرسالة إلى يخاطبه فيها قائلاً: «لقد كانت المقالة التي كتبتها في صحيفة (نيجني) عطراً ضمخ روحي ولكم أنت موهوب. إني لا أجيد كتابة كلمة واحدة خارج نطاق الأدب المحض، أما أنت فإنك تمتلك قلماً يستدر الإعجاب، انزل إذن إلى ميدان النقد وليحرسك الله».

ويخاطبه تشيخوف في رسالة أخرى قائلاً: «لقد أدهشني اقتراحك للذهاب إلى الصين، لكن ما شأن مسرحيتك؟ أية مرحلة بلغت بها؟ هل أنجزتها إذن؟ لقد فات رغم هذا كله أوان الذهاب إلى الصين لأنه اتضح أن الحرب فيها بلغت مداها وأنا لا أستطيع الذهاب إلى هناك إلا بصفتي طبيباً عسكرياً. سأذهب إذا طال أمد الحرب، لكني حتى الآن سأظل هنا وسأكتب بهدوء».

الشرق الأوسط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..