المخلفات الحربية… تهديد يومي لأرواح آلاف السودانيين

رغم توقف القتال في عدد من الولايات السودانية، تستمر الأخطار في ملاحقة المدنيين في ظل انتشار المخلفات الحربية والألغام داخل الأحياء والمستشفيات والمدارس، ما يهدد الأرواح.
يأمل آلاف المدنيين الذين فروا من مختلف القرى والمدن في السودان من جراء الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، العودة إلى مساكنهم مع انتهاء العمليات العسكرية. بيد أن انتشار الألغام والمخلفات الحربية والذخائر غير المنفجرة بدد آمال كثيرين، رغم توقف القتال المباشر في ست ولايات هي الخرطوم والنيل الأبيض والجزيرة وسنار وأجزاء من شمال كردفان ونهر النيل.
وتسببت المخلفات الحربية التي تركتها الأطراف المتحاربة في مقتل وإصابة عشرات المدنيين، بعضهم أطفال دون الخامسة في مناطق متفرقة بالسودان، وأحدثت أضراراً جسيمة بالبنية التحتية التي تأثرت كثيراً بالعمليات العسكرية، ولم تنج منها الأبقار والأغنام بولايتي كردفان والجزيرة. كما قتل تلاميذ داخل المدارس نتيجة العبوات المتفجرة التي تركها الجنود خلفهم في كل من الخرطوم والجزيرة وكردفان.
وفي الثامن والعشرين من مايو/ أيار الماضي، لقي أربعة تلاميذ مصرعهم وأصيب تسعة من زملائهم بإصابات متفاوتة في مدرسة قرية الفضوة الابتدائية الواقعة في قرية الغبشة في ريف مدينة أم روابة بولاية شمال كردفان، نتيجة لانفجار عبوة قرنيت عثر عليها الصغار داخل المدرسة.
يقول أحمد محمد، وهو من سكان القرية، لـ “العربي الجديد”: “بقيت المدرسة مغلقة منذ سيطرة قوات الدعم السريع على أم روابة في أغسطس/آب 2023، وأعيد فتحها بعد فرض الجيش سيطرته على المنطقة وطرد الدعم السريع في يناير/ كانون الثاني الماضي”. يتابع: “في ظل عدم الاهتمام بإزالة مخلفات الحرب وضعف التوعية بمخاطر المتفجرات، ظلت المخلفات الحربية مبعثرة داخل القرى التي كانت مسرحاً للعمليات العسكرية، وفي المرافق الخدماتية، بما فيها المستشفيات والمدارس التي تحولت أثناء العمليات الحربية إلى مراكز عسكرية وثكنات لإيواء الجنود الذين تركوا الذخائر والمتفجرات في فصول الدراسة وفي عنابر المرضى وبين الأنقاض حول سور المدارس”. وعن حادثة مقتل التلاميذ، يقول: “حضر التلاميذ كعادتهم في وقت مبكر إلى المدرسة، وأثناء لهوهم قبل طابور الصباح، عثروا على علبة قرنيت حاولوا فتحها، ما أدى إلى انفجارها ومقتل ثلاثة منهم على الفور، فيما توفي الرابع أثناء إسعافه مع آخرين. وأصيب تسعة، وبترت أطراف بعضهم”. وفي ظل غياب الجهات الرسمية، يتوقع مقتل المزيد من الأطفال، قائلاً إن “التلاميذ يريدون الذهاب إلى المدارس. وبدلاً من العودة لأسرهم سالمين، أصبحوا يعودون أشلاء ممزقة بفعل أدوات الموت المخبأة بعناية في المدارس”.
وفي الثلاثين من مايو، انفجر جسم من المخلفات الحربية في ثلاثة أطفال دون سن السابعة، في أحد أحياء مدينة أم روابة، ما ألحق بهم أضراراً بليغة نقلوا إثرها إلى المستشفى حيث لا يزالون يتلقون العلاج. فيما عثر سكان قرية الجوغان التابعة إلى أم روابة، وتقع على مسافة كيلومترات قليلة من قرية الفضوة، على عدد كبير من الألغام الأرضية والصواريخ، واضطر السكان لنقلها بواسطة عربة بدائية يجرها حمار إلى منزل شيخ القرية. ويقول أحد سكان القرية لـ “العربي الجديد”، إن “تصرف السكان ونقلهم المتفجرات بتلك الطريقة كادا أن يتسببا في مقتل العشرات”. يضيف أنه كان يمكن أن تنفجر وتقتل عدداً كبيراً من سكان القرية الذين تجمعوا لمشاهدتها. ويؤكد أنه ليست لدى الأهالي معرفة بكيفية التعامل مع مخلفات الحرب في الوقت الذي لم تعمد الجهات الرسمية إلى إزالتها من المناطق التي كانت مسرحاً للعمليات الحربية، أو حتى إرشاد الناس حول كيفية التعامل معها.
وفي مدينة الأبيض (غرب)، لقي 7 مدنيين مصرعهم في الفترة ما بين فبراير/ شباط ومايو/أيار الماضيين، في انفجارات متفرقة لمخلفات الحرب. ويقول مسؤول حكومي محلي رفض الكشف عن اسمه، لـ “العربي الجديد”، إن السلطات أجرت مسحاً لستة أحياء فقط في المدينة، عثر فيها على 475 جسما حربيا، ورصدت حالات وفيات وعشر إصابات بين المدنيين. ويشير إلى انتشار مخلفات الحرب في المدن والقرى، قائلاً: “ظلت المعارك تدور في سهول الولاية وقراها ومُدنها بالتزامن مع بداية الحرب في الخرطوم. على ومدى أكثر من عامين، تنقلت قوات الطرفين من موقع إلى آخر، ما يشير إلى أن المقاتلين تركوا خلفهم الكثير من الذخائر غير المنفجرة والألغام الأرضية، ولم تشرع الجهات بعد في إزالتها، ما يتسبب في مقتل وإصابة الكثير من المدنين”.
وفي إبريل الماضي، انفجر لغم أرضي كان مزروعاً عند جسر في قرية الزندية، إحدى قرى ولاية النيل الأبيض، ما تسبب في إصابة عدد من المواطنين. ويقول أحد سكان القرية التي كانت تخضع لسيطرة “الدعم السريع”، لـ “العربي الجديد”، إن سكان المنطقة يعتقدون أن عشرات الألغام زرعت فيها، مشيراً إلى وقوع حوادث سابقة في المنطقة.
وتبدو جهود المركز القومي لمكافحة الألغام في السودان متواضعة، في البحث عن المخلفات الحربية وإزالتها في أحياء مدينة الخرطوم وتحت الأنقاض. ويقول مصدر محلي لـ “العربي الجديد”، إن المركز يستخدم معدات بالية يعود تاريخ صنعها إلى عام 2002، مضيفاً أن “إمكانات المركز القومي لمكافحة الألغام ضعيفة ولا ترقى لحجم الكارثة التي خلفتها الحرب المستمرة في العديد من المناطق”.
وبحسب مسؤول في حكومة ولاية شمال كردفان، فإن مركز مكافحة الألغام لم يرسل فرقاً للبحث عن الألغام والمتفجرات في عدد من الولايات، ومنها ولاية شمال كردفان. يضيف: “اكتفى مركز مكافحة الألغام بالعمل في العاصمة الخرطوم فقط وترك بقية الولايات”.
في المقابل، يقول مدير مركز مكافحة الألغام، اللواء خالد حمدان، إن الخرطوم التي شهدت أعنف المعارك بين الجيش و”الدعم السريع”، سجلت حوادث عدة بالألغام والمتفجرات، والتي تسببت في مقتل العديد من المدنيين، بينهم أطفال. يضيف أن المركز “سجل 40 حالة انفجار ألغام ومخلفات حربية، وبلغ عدد الضحايا 66 شخصاً بينهم أطفال”. كما يشير إلى مقتل 16 مدنياً بالألغام والمتفجرات، عدا عن الحالات التي لم يتم التبليغ عنها. ويوضح أن “حوادث انفجارات الألغام والمخلفات الأخرى وقعت في كل من الخرطوم وحجر العسل بولاية نهر النيل، وولاية الجزيرة وولاية سنار”، ولم يستبعد حدوث انفجارات في مناطق أخرى ينتظر التبليغ عنها. ويقول إن الألغام منتشرة في كل من شمال العاصمة الخرطوم وولايتي الجزيرة وسنار. ويعزو خطورة الوضع الحالي في السودان إلى أن الألغام ومخلفات الحرب الأخرى توجد وسط العاصمة وفي المدن الأخرى، وهي أماكن فيها كثافة سكانية عالية.
ويحاول مركز مكافحة الألغام جمع المخلفات الحربية في أسرع وقت، حتى يتمكن السكان من العودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعية في العاصمة وبقية المناطق، وقد تمكن من إزالة أكثر من 13 ألف قطعة من مخلفات الحرب في مدينة أم درمان، وسبعة آلاف بولاية الجزيرة، وثلاثة آلاف في مناطق مختلفة، بحسب مدير المركز. يضيف أن الألغام كانت موجودة في 11 ولاية من مجمل 18 ولاية سودانية قبل الحرب، وحالياً أصبحت في كل ولايات السودان.
وينتظر المدنيون في السودان مستقبلاً مظلماً من جراء انتشار الألغام والمخلفات الحربية في المدن والقرى، ومن غير المُستبعد أن تستمر معاناتهم لسنوات. ويقول مدير الدعم القُطري لمكافحه الألغام بالسودان، معتز عبد القيوم، إن إزالة الألغام ومخلفات الحرب في منطقة مثل العاصمة تحتاج لحوالي عشر سنوات من العمل الدؤوب، ويدلل على ذلك بوجود ألغام بشرق السودان تعود للحرب العالمية الثانية. ويقول عبد القيوم لـ”العربي الجديد”: “قبل الحرب، كانت هناك خريطة معتمدة لمناطق الألغام في السودان. وحالياً، تلاشت تلك الخريطة، بل نحن أمام خريطة جديدة. بالتالي، فإن الفترة المقبلة سوف تمثل خطراً على المدنيين في السودان”. ويعزو التأخر في إزالة الألغام في السودان إلى ضعف المؤسسات العاملة في هذا الإطار.
ويواجه السودان أزمة كبيرة في إزالة الألغام والأجسام المتفجرة وفقاً لعبد القيوم، الذي يشير إلى أن “إزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة عملية مكلفة للغاية، وخصوصاً أنها منتشرة في كل ولايات البلاد”. ويقول إن السودان “لن يستطيع تجاوز هذه المخاطر إلا بعقد شراكات حقيقية وقوية مع جهات خارجية تدعمه في إزالة الألغام والمتفجرات من القرى والمدن ومناطق الإنتاج في الريف”.