حول العبودية القديمة وعبودية العمل المأجور (3-3)

محمود محمد ياسين
العبودية غير المباشرة في العالم المعاصر
في الدول المتخلفة، يتسم سوق العمل (labour market) – أي شراء وبيع قوة العمل – بالضعف الذى يعزى لتخلف اقتصاداتها المتسمة بمحدودية قوة الإنتاج؛ فلا يمكن ان تزدهر عملية بيع وشراء قوة العمل طالما كان هناك غياب واسع لسوق السلع الأخرى. ان سوق العمل حيث يتمتع فيه العمال بالحرية لا يسبق وجوده قاعدة إنتاجية متقدمة، بل العكس هو الصحيح.
وجدير بالذكر ان “قيمة” العمل اللازم لإنتاج السلع في البلدان المتخلفة، تعكس الاستغلال البشع لهذه البلدان من قبل الدول الامبريالية وسيطرتها- بالاعتماد على تفوقها العسكري والتكنولوجي والصناعي-على التجارة الخارجية وعلى المؤسسات المالية العالمية وبالتالي التحكم في التدفقات المالية. ولهذا، فان قانون القيمة (law of value) في الدول المتخلفة يعمل في بيئات اقتصادات راكدة، ضعيفة الإنتاجية مما يؤدى الى تقليل الأجور ووجود جيش ضخم من الاحتياطي من العاطلين عن العمل. ان وجود الاعداد الضخمة من العاطلين يجعل تكلفة الفرصة البديلة (opportunity cost) لاستخدام العمالة صفرا اذ لا يتم تخصيص أي موارد إضافية من اجل إعادة التوظيف. وهكذا، فان الأوضاع الاقتصادية للبلدان المتخلفة خلقت بيئات يجرى فيها استغلال العمل المأجور بحيث يكون العمال أحرارا من الناحية الفنية (technically) لكن يواجهون بشكل ممنهج ضغوطا تحد بشدة من خياراتهم وتخضعهم لأنماط من الاستغلال التي رغما عن عدم مساواتها بالعبودية التاريخية(chattel slavery)، الا ان بعض سماتها في الإكراه والسيطرة والتبعية تماثل لدرجة كبيرة بعض سمات النظام القديم.
ان لجوء الرأسمالية للعبودية كما حدث في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة الامريكية خلال الفترة من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، شيء مستحيل تحقيقه في ظروف عالم القرن الواحد وعشرين. فمن الناحية الاقتصادية البحتة، فان العبودية والقوى المنتجة المتطورة والمحسنة تستبعد بعضها البعض (mutually exclusive)، والعبودية وبشكل عام وجدت في اقتصادات يعتمد فيها النشاط الاقتصادي على العمل الذى يتم يدويا (manually) أو بأدوات بدائية صعبة الاستخدام. كما لا يمكن تصور إعادة العبودية في ظروف ازدهار العمل النقابي الذى ساعد على ظهوره نظام الإنتاج الرأسمالي بخلقه جماعية العمل في مؤسسات (رأسمالية)؛ والرأسمالية حسمت استمرارية نظام الملكية الخاصة، الذى سارت عليه الأنظمة (السابقة) للعبودية والاقطاعية، بإنفاذ نظرية فائض القيمة لتحقيق الربح. كذلك هناك عدة أسباب أخرى تمنع حدوث العبودية كالمحظورات القانونية بموجب القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية، وغنى عن القول الإدانة الاجتماعية والأخلاقية التي تدين بها الشعوب في جميع انحاء العالم لهذه الظاهرة.
ان الشكل القديم للعبودية غير قانوني في معظم البلدان الحديثة حيث تم القضاء عليه إلى حد كبير (بالرغم من العبودية “الملكية القانونية للناس” محظورة في كل الدول، الا انها، في بعض الدول – وفى حدود ضيقة- لا تعتبر جريمة جنائية اذ لا يمكن مقاضاة شخص على استعباد إنسان آخر). ومع ذلك ، فإن العبودية الحديثة والاتجار بالبشر، لها وجود في البلدان المتخلفة وتأخذ أشكالا مختلفة، متخفية في شكل عمل قسري (forced labour) أو عبودية الدين (debt bondage) تزدهر بشكل خاص في المناطق ذات الحوكمة الضعيفة والفساد.
ومن امثلة العبودية غير المباشرة وغير قانونية التي تأخذ أشكالا مختلفة نجدها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهذا يعزى أساسا لضعف سوق العمل – أي شراء وبيع قوة العمل – الذى يعزى لتخلف اقتصاداتها كما مر ذكره. وغالبا ما تكون هذه الممارسة مخفية، مما يجعل من الصعب اكتشافها ومقاضاة مرتكبيها، وتفتقر العديد من البلدان إلى الأطر القانونية الكافية للتصدي لها.
من الاشكال السائدة للعبودية غير المباشرة ما يلى :
– الإكراه الاقتصادي الذى يتمثل في لجوء العمال لبيع عملهم فقط للبقاء على قيد الحياة نتيجة لقلة فرص العمل. وفى هذه الحالة للعوز الشديد يقبل العامل بالعمل باجر زهيد للغاية وهو يعلم أن فقدانه للعمل يعنى التشرد والفقر والجوع.
– عدم الاستقرار وانعدام الأمن. ان العديد من الوظائف مؤقتة أو بدوام جزئي على أساس الاجر اليومي وهى محفوفة بالمخاطر ينعدم معها الأمان الوظيفي؛ ففي هذه الوظائف يعتمد العمال في معيشتهم على أجر الى حين يقبضون أجرا آخر ولهذا تجدهم محاصرين في دائرة من الديون والتبعية.
– قلة الحركة. غالبا ما يكون العمال محاصرين بالبقاء في الوظائف بسبب الضرورة الاقتصادية أو قيود التأشيرات (مثل العمالة المهاجرة) أو المساكن التي يسيطر عليها صاحب العمل، كما يواجه بعضهم عبودية الديون، خاصة في القطاعات غير الرسمية أو غير المنظمة. وهذه الظروف تقلل من الحرية الحقيقية وتعكس العبودية بالسخرة.
– قمع السلطة. ان النزوع المستمر للسلطات الى اعاقة العمل النقابي والقوانين المناهضة للعمل واقتصاد الوظائف المؤقتة، يؤدى إلى إضعاف تضامن العمال والحد من قدرتهم التفاوضية لتحسين ظروف العمل … الخ.
– عدم المساواة في العمل العالمي حيث يحقق راس المال، المتدفق من الدول الغنية، الأرباح العالية من العمل منخفض الأجر أو القسري في البلدان المتخلفة.
-المراقبة الشديدة. تفرض العديد من أماكن العمل انضباطا صارما ومراقبة وإدارة دقيقة تعتمد على تقنيات مثل أجهزة تتبع الإنتاجية والكاميرات والرقابة الخوارزمية (control algorithms) بشكل يحد من الاستقلالية ويحاكي السيطرة التأديبية الموجودة في نظام العبودية القديمة.
ومن الأمثلة الكثيرة للاستغلال البشع لعمال البلدان الفقيرة، فهناك عبودية الديون في بعض ولايات الهند حيث يحصل العمال الزراعيون على قروض لفلاحة الأرض، ومن ثم يجدوا أنفسهم محاصرين في عبودية الديون، وتؤدي أسعار الفائدة المرتفعة على القروض والخصومات للاحتياجات الأساسية إلى أجور بالكاد تغطي نفقات المعيشة، الأمر الذى يديم دورة استغلال العمال.
وكمثال آخر للعبودية الحديثة فهناك صناعة الأزياء؛ فصناعة الأزياء في بنغلاديش والصين ترتبط بممارسات تشابه العبودية. فواردات الملابس السنوية الى الدول المتقدمة، التي تقدر قيمتها ب 150 مليار دولار، تجرى صناعاتها بواسطة العمل القسري حيث يمنح العمال أجورا متدنية لا تناسب كمية العمل الذى يؤدونه؛ كما يُفرض على العمال، الذين يعملون في ظروف عمل خطرة، ساعات إضافية قسرية.
أما المثال الأكثر ألما هو استغلال اصحاب العمل حاجة الناس باستخدامهم لعمالة الأطفال (في بنغلاديش مثلا) حيث يشارك العديد من الأطفال في أعمال خطرة في مختلف القطاعات الانتاجية. وفقا لبعض التقارير الدولية فانه في العام 2023 شارك قرابة اثنين مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عاما في عمالة الأطفال (معظمهم كانوا يعملون في ظروف عمل خطرة).
– ملحوظة: لأهمية هذا الجزء الأخير من المقال، فسنتعرض بمزيد من التفصيل، في مقال منفصل، لمحتواه من ناحية الأساس الاقتصادي للعبودية الحديثة وما تعنيه على الصعيد السياسي بالنسبة للصراع المتصاعدة حدته بين الدول المتقدمة وشعوب البلدان المتخلفة.