المنقذ الوهمي

نبيل منصور
كان الوطن مرآةً مكسورة، كل من اقترب منها رأى انعكاسه مشوهًا، فظنه حقيقة. في تلك الشظايا الحادة، انعكست وجوه كهنة النار القديمة، تنفث رماد الإله، وتعد بدولة الشريعة والخلود. وحين احترق المعبد، اختفوا في الدخان، ثم عادوا من البوابة الخلفية، يتخفّون خلف حراس البوابة العتيقة الذين لا يحرسون وطنًا، بل حطام ذاكرة. ارتدوا الصمت بدل الشجاعة، وادّعوا الحياد بينما كانوا يضعون ثِقل أجسادهم على طرف الميزان. فوق الجسور المحطمة، أعلنوا أنفسهم أوصياء، وأقسموا بشرفٍ، ك سِر في معركةٍ لم تقع.
ثم خرج ظل الضحية المسلح من قلب الحزن، يرفع كفن أمه راية، ويهتف أن الوقت قد حان لرد الدين. لم يكن زمن عدالة، بل زمن انتقام يبتلع العدالة نفسها. راح يلوّح بالذاكرة كأنها سيف، ويجبر الصوت الغارق في الطين أن يغني نشيد الخراب ، وصار الموت في كل مكان. في المزارع المهجورة، في المدارس التي صارت ثكنات، في البيوت التي صارت رمادًا. عطر النساء انقلب إلى دم، وضحك الأطفال صار نشيجًا في مقاطع فيديو. لم يبقَ شيء على حاله، حتى الشمس تغرب كأنها تستحي أن ترى.
والصوت الغارق في الطين لم يعد يسأل من بدأ، بل متى ينتهي. هذا الصوت لا يخون، لكنه مرهق. لا يعرف كيف يصرخ، لأن فمه مليء بتراب الخيبة، وأضلاعه تصرخ من الداخل بلا صدى. حتى الغرقى يُسألون إن نسوا أنهم كانوا يومًا ضفافًا. فهل يكفي الطين عذرًا للصمت؟.
الحرب لم تسرق المدن فقط، بل سلبت معاني الكلمات. “البيت” صار متراسًا، و”الخبز” صار رشوة، و”الوطن” صار سؤالًا يُخجل أن يُطرح. حتى “الرب” اختُطِف من قلوب البسطاء ووُضع رايات علي فوهات البنادق.
هناك من نسي ملامح بيته، ومن نسي لغة أمه، ومن صار وجهه جواز سفرٍ مرفوض. هؤلاء لا يحملون خريطة، بل خيبات على شكل حقائب سفر. يسكنون حدودًا لا أحد يريدهم فيها، وينامون تحت نجمات لا تضيء.
لو وُجد مشروع يشبه الحلم لا الكابوس، لربما نهض هذا الصوت. لو أن الحالمين صدقوا، لا تهاوشوا على فتات الوثائق، لربما انشق الطين عن نهر.
لكن كهنة النار القديمة يعرفون كيف يركبون الموجة. وحراس البوابة العتيقة، يعلمون متى يفتحون البوابة ومتى يغلقونها. وظل الضحية المسلح، يجيد لعب دور الجلاد وهو يبكي.
كلهم تاجروا بالدم، كلهم كتبوا مذكراتهم على جبين الصوت الغارق في الطين، ثم طلبوا منه أن يبتسم.
لكن هذا الصوت – وإن غاص في الوحل – ما زال يحلم. وما دام يحلم، فالحكاية لم تنتهِ بعد.