صمود).. جمود وتوهان سياسي.. لماذا؟

مجاهد عبدالله الفاطرابي
لم يكن ظهور التحالف المدني الديمقراطي (صمود) في الساحة السياسية إلا تعبيراً متأخراً عن حالة (التخبط) السياسي والفكري التي أعقبت تهاوي تجربة الانتقال في السودان، (فصمود) ليس جسماً جديداً بالمعنى السياسي.. بل هي في تقديري إعادة (توضيب) لقوى كانت جزءاً من إخفاقات المرحلة الانتقالية.. خصوصاً تلك التي تشكلت تحت مظلة الحرية والتغيير (المجلس المركزي) والتي لم تستطع أن تبني كتلة تاريخية توازي زخم الثورة التي أنجبتها.
ما تعانيه (صمود) اليوم من (وهن) سياسي يعود بلاشك لتلك الفترة (العصيبة) والتي شهدت (تجاذبات) كبيرة بين التيارات السياسية وقتها ادت في نهاية الامر الى (انهاكها) فكريا ومعنويا..!..
فمنذ انطلاق ثورة ديسمبر المجيدة، لم تكن قوى الثورة معنية ببناء مشروع وطني واضح بقدر ما كانت تسعى لتكريس سلطتها على مفاصل الدولة، مستخدمة الشعارات الثورية كأداة تفاوض.. لا كمرجعية قيمية.. فلا تكاد تجد داخل هذه الجماعة تصور واحد للسودان المستقر، بل الذي حدث هو ان تقاطعت مشاريع (ليبرالية) منبتّة عن الواقع، مع هواجس يسارية تجاوزها الزمن، وتحالفات مع حركات مسلحة بلا هوية فكرية واضحة، مما أدى إلى تناقض مريع في الأداء والرؤية والوسائل.. والنتيجة كانت إهدار (رأس المال..!) السياسي الذي وفرته ثورة الشباب في صراعات داخلية وتحالفات قصيرة النفس، وخطابات استعلائية كانت ترى في الشارع وسيلة ضغط لا شريكاً في القرار.
عندما وقع الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 كانت تلك الاحزاب السياسية قد بلغت ذروة التشظي، وتحول مشروعها من طموح ثوري إلى إدارة أزمة وجود.. فبدلاً من أن تنتج مراجعة شجاعة، دخلت في طور جديد من الهروب للأمام، قادته لاحقاً تحت مسمى (تقدم) ثم (صمود).. دون أن يحدث أي تحول جوهري في طريقة تفكيرها.. بل الأدهى أن التغييرات كانت (شكلية)..! يغلب عليها الطابع (التجمّلي) لا البنيوي.. لقد راهنت (صمود) على الخارج كطوق نجاة، ولم تفهم أن فقدانها للثقة في داخل السودان يجعل من أي دعم دولي لها رصيداً هشاً لا يصمد أمام اختبارات الفعل السياسي الحقيقي.. (لاغضاضة) في العمل مع المجتمع الدولي ولكن ان تضع كل (الامال والاحلام) عليه في ايجاد حل للازمة السودانية فهذا غير (معقول ولا مقبول)..!.

كل ما تملكه (صمود) الآن هو رصيد علاقات خارجية محدود الفاعلية وخطاب سياسي (خافت..)! وأمل (باهت) في أن يفرض السياق الإقليمي والدولي تسوية تُستدعى هي فيها (كشاهد ملك) لا كطرف صانع..!.. ولكن هذا الرهان في ذاته يحمل بذور فنائه.. فلا المجتمع الدولي يثق تماماً في قدرة (صمود) على تمثيل الداخل، ولا الداخل يراها أكثر من (نادٍ) للنخب التي استنفدت أغراضها، فحتى خطابها السياسي بعد إشتعال الحرب غلبت عليه اللغة (النرجسية) فاضحى لايعبر تعبيرا حقيقيا عن الواقع، كما أن حالة (الجمود) التي تعيشها الان جعلتها تفشل في إفراز اي قيادات جديدة، أو مشروع سياسي مختلف، بل تستمر في إعادة تدوير ذات الأسماء التي أدارت ظهرها للثورة حين كانت في أوجها..!.
إن جوهر (المأزق) السياسي والتنظيمي الذي تعانيه جماعة (صمود) اليوم لا يتعلق فقط بانعدام القدرة على التأثير السياسي، بل بفقدان المعنى السياسي ذاته.. فقد أصبحت بعد خروج عدد من التيارات السياسية والحركات المسلحة عنها وتوقيعها على ماسمي بالميثاق التاسيسي مع الدعم السريع وذلك بعد انفضاض (سامر..!) تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) اصبحت بعد ذلك بلا رؤية جامعة وبلا قدرة على بناء تحالفات صلبة وبلا أدوات فاعلة للضغط اطراف الحرب للجلوس للتفاوض.. لقد تآكلت (هويتها) فعلا وانفضّ من حولها الحلفاء (الاقوياء).. وغاب عنها التأثير الجماهيري فغدت كياناً رمزياً أكثر منه قوى سياسية حقيقية.. وهذا التآكل في اعتقادي لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة حتمية لمسار طويل من سوء التقدير وغياب الرؤية وفقر البناء التنظيمي وفشل في تحويل الزخم الثوري حينها إلى مشروع سياسي قابل للاستمرار.
لعل القوى المدنية والتي كانت تيارات التحالف المدني الديقراطي الحالية جزءا اساسيا فيها استفادت من اخطائها التي ارتكبتها اثناء الفترة الانتقالية والتي كان ابرزها (صفقة..!) الوثيقة الدستورية مع المجلس العسكري، فبعد انقلاب الجيش عليها في ٢٥ اكتوبر، حدث (فوران) كثيف في الشارع رافض للانقلاب، ما ادى الى (خنوع)..! العسكر للتفاوض معها مرة اخرى بوساطة دولية، وكان الدرس الذي تعلمته القوى المدنية هذه المرة، رفض اي شراكة مع (العسكريين) وان يكون الحكم مدني (مئة بالمائة)، ويعود الجيش الى ثكناته ليقوم بمهامه المتعارف عليها في النظم الديمقراطية.. جاء ذلك (مفصلا) في الاتفاف الاطاري، ويمكننا ان نقول ان هذه كانت لحظة من (لحظات) النضج السياسي لقوى (صمود) باعتبارها كانت على راس القوى المدنية (المفاوضة) انذاك.
لكن رغم هذا (الانجاز السياسي) والذي كان ينبغي ان تحافظ عليه القوى المدنية التي تمثل (صمود) عمودها الفقري في كل المراحل.. فأنها بعد اندلاع الحرب انكفأت على نفسها مرة اخرى ، فبدلا من ان تقوم بتأسيس تيار سياسي عريض منذ (الوهلة) الاولى تجمع الرافضين للحرب، استحدثت نسخة (مشوهة) من قوى اعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي)..فتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)لم تأتي بجديد لا من الناحية التنظيمية ولا السياسية وهي في اعتقادي كانت تعبر عن عجز (فكري..!) وسياسي لهذا التيار.. والذي حدث من انشقاق لهذا الكيان لاحقا بخروج جماعة (مؤثرة) وهي المجموعة (المنضوية) حاليا تحت التحالف التأسيسي هو اكبر دليل على ذلك.. بل وانه بعد هذا الانشقاق الكبير يعتقد كثير من المراقبين ان جماعة (صمود) تحولت الى (مجرد) منظمة مجتمع مدني (تتسول) (الفند) الدولي..! لتغطية مصروفات كادرها في زمن (الفاقة والعوز)..!.وليس تيارا سياسيا وطنيا حقيقيا يحاول ان يجد مخرجا للشعب السوداني من (ورطة) الحرب المتسعة يوما بعد يوم.
كل هذه الاخطاء تبين ان قوى التحالف المدني الديمقراطي في حالة (تيه..!) سياسي وفقدان للبوصلة، ولعل مايحدث في اضابيرها من صراع (محموم) بين تياراتها منذ ان كانت في (تقدم) هو احد اهم اسباب هذا (التوهان..!) الذي تمر به، فبعد الانقسام الكبير (لتقدم) اصبح هناك تياران قويان يتجاذبان كتلة (صمود).. تيار يجذبها ناحية التقارب مع الجيش و(جماعة بورتسودان) وتيار اخر يشدها نحو التحالف مع التحالف التأسيسي ومن خلفه الدعم السريع، فالتسريبات تقول ان تيار التقارب مع (الجيش)..؟! داخل صمود بات هو الاقوى..؟!.
فطنت بعض قيادات (صمود) لهذا المأزق فعقدت مؤتمرها الاخير في العاصمة اليوغندية (كمبالا)، لتلافي ماقد يحدث.. القاريء لتوصيات هذا المؤتمر في الجانب السياسي يستشف من بين سطوره الخلافات الكبيرة داخلها،و لربما اذا لم تجد لها حلولا عاجلة قد تعصف بها ، فعندما تأتي مخرجات المؤتمر بفتح (الابواب) للتواصل والتنسيق مع جميع التيارات السياسية وفي نفس الوقت امكانية الجلوس مع الجيش والدعم السريع في المائدة المستديرة، يعني ذلك ان هناك محاولة ذكية من (الحادبين) على امرها لإرضاء التكتلات المتصارعة داخلها ، فكان التحالف المدني الديمقراطي قبل ذلك (انطوائي وانكفائي الي ابعد الحدود)، و(معتد) كثيرا بنفسه.. ولايعترف بالاخرين..؟؟!. وحتى تخرج قوى (صمود) من هذا (التيه..!) السياسي الذي “يهدد” وجودها.. فإن عليها أن تبدأ بمواجهة شجاعة مع الذات قبل أن تطلب الشرعية من الداخل أو الخارج..فلا طريق للنجاة الا بمراجعة عميقة وصريحة لمسارها السياسي، وإعادة تعريف دورها بوصفها كيان سياسي جماهيري لا نادٍ للنخب، وأن تعيد بناء مشروعها على أسس وطنية لا محاصصات وتحالفات آنية ولهث وراء القوى الخارجية، وان تسعى جديا في تحقيق كيان جامع وكتلة صلبة تنطلق من مباديء وطنية بعيدا عن الانحيازات الفكرية الضيقة، وهذا في تقديري ما انتهى اليه مؤتمرها الاخير في كمبالا، فإن فعلت ذلك قد تستعيد بعضاً من ثقة الناس، وتعيد تموضعها كلاعب مؤثر في مستقبل السودان.. أما إن تجاهلت هذا المنعطف الحرج، فستجد نفسها أمام ثلاثة سيناريوهات لا رابع لها.. إما (التلاشي) تدريجيا من الساحة بحيث تصبح ليس لها اي تأثير ، أو الانقسام الداخلي الحاد الذي يحوّلها إلى واجهات متناحرة باسم واحد، أو الذوبان (القسري)..! في تحالفات أكبر تستخدمها كغطاء، لا شريكٍ حقيقي في الرؤية والقرار..؟!.
دروب