مشروع السُودان الجديد مابين رؤية المؤسسين الأوائل واليوم (١)

نضال عبدالوهاب
من خدمة قضايا التغيير وحقوق المظلومين والهامش والكادّحيّن والسُودان المُوحد لخدمة أجندة الخارج والسُلطة والإنفصاليين في السُودان؟؟…
تاريخياً ظهر مشروع السُودان الجديد كمصطلح وبرنامج بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السُودان وقائدها ومُنظرها الأول والزعيم د.جون قرنق دي مبيور ، وكان ذلك مع بداية تأسيس الحركة الشعبية في ١٦ مايو ١٩٨٣م أي ما قبل أكثر من ٤٢ عام ، وكانت الفلسفة الرئيسية للمشروع هي خلق سُودان موحد ديمُقراطي خالي من الظُلم والتهميش والإختلالات التاريخية ، وتتم فيه العدالة والمساواة وتُمنح فيه حقوق المواطنة الكاملة لجميع السُودانين ، ويُراعي فيه التعدد والتنوع الديني والإثني واللغوي والجغرافي ومن حيث الهويات ، بحيث لاتطغي مجموعة سكانية أو أثنية علي أخري ولا هوية علي هوية ، ولاينفرد إقليم جغرافي بالسُلطة والثروة علي حساب آخرين ، ورُغم إن المشروع لم يكن خاصاً بالجنوبيون إلا أن غالبية أعضاء الحركة عند تأسيسها كانوا من الجنوبيون وبدأ الصراع المُسلح من هنالك ضد الحكومة المركزية والجيش المركزي ، وبدأت الحرب بينهما كإمتداد لحرب الجنوب الأولي ولأن واقع المظالم التاريخية في السُودان كان كبيراً إنضمت أعداد كبيرة من مختلف أقاليم السُودان للحركة الشعبية ، خاصة من جنوب كردفان والنيل الأزرق وجبال النوبة ثم الشرق وبقية المناطق الجغرافية بما فيها العاصمة الخرطوم ، حيث جذّب مشرّوع الحركة الشعبية والسُودان الجديد الكثيرين من المُتطلعين للتغيير في السُودان ، كان هذا قبل إنتهاء الحرب بين الشمال والجنوب والتوقيع علي إتفاقية نيفاشا في ٢٠٠٥م بعد حوالي ٢٢ عاماً من الحرب المتواصلة مابين الشمال والجنوب ، وقد حدثت أثناء وبعد تلك المرحلة الكثير من التحولات والتغييرات ، ومن المعلوم أن الذين حكموا بشكل مباشر في أغلب سنوات الصرّاع المُسلح بعد تأسيس الحركة الشعبية هم الإسلاميين وبعد إنقلابهم وتوليهم السُلطة في ١٩٨٩م ، وكان المشروع الذي يؤمن به الأسلاميون ويطبقونه في أثناء حكمهم الطويل علي النقيض تماماً من مشروع الحركة الشعبية ، ولذلك ونسبةً لتمسك الإسلاميين بمشروعهم وسُلطتهم وفشل الجميّع وكل القوي السياسِية حتي ذلك الوقت في إزاحتهم عن السُلطة وهزيمة مشروعهم ونظامهم السياسِي القائم علي الفرض بالقوة العسكرية والجبرية الإنقلابية وعلي التمكيّن العسكري و الأمني والإقتصادي للإسلاميين ، نتج عن كُل هذا فصل الجنوب بإرادة ورضي الإسلاميين والموافقة الضمنية لبقية القوي السياسية وقصر نظرها وقلة حيلتها وإختيارها للوقوع في إرادة دول خارجية غربية كانت ترغب وبشدة في فصل الجنوب ، الذي حدث نتيجة لتفعيّل إجراء حق تقرير المصيّر المُضمّن في إتفاقية نيفاشا والتصويت مابين الوحدة والإنفصال ، الذي كانت كُل الطُرق تؤدي إليه للأسف ، ونتيجة لذلك تمت الجريمة السياسِية السُودانية الكُبري في تاريخنا السياسِي بإنفصال الجنوب وتحوله لدولة أخري في التاسع من يوليو ٢٠١١م.
بدأ بعد ذلك فصل جديد من تاريخ الحركة الشعبية لتحرير السُودان والتي تحولت للحركة الشعبية شمال داخل السُودان مابعد الإنفصال ، وجيشها الشعبي أصبح غالبية قوامه من منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان وجبال النوبة ، وظهرت خلافات مابين قيادة الحركة الشعبية في الشمال وإنشقاقات ، كان أبرزها هو الإنقسام الذي حدث في ٢٠١٧م بقيادة القائد عبدالعزيز الحلو ، والذي كان ظاهره هو الصرّاع القيادي مابين مجموعة مالك عقار وياسر عرمان من جهة ومجموعة كاودا بقيادة عبدالعزيز الحلو ، فإنقسمت الحركة في ذلك التاريخ ، وذهب الجزء الأكبر من جيش الحركة وقوامها القيادي الأساسي مع مجموعة القائد عبدالعزيز الحلو…
تم إصرار من القائد عبدالعزيز الحلو علي وجود شرط العلمانية كشرط تفاوضي مع حكومة المركز وعلي حق تقرير المصير في حال عدم تحقيق هذا الشرط ، ولم يكن حق تقرير المصير هدفاً للمجموعة الأخري ولا تحقيق شرط العلمانية في حال الدخول في مفاوضات ، وبعد نجاح الثورة في ٢٠١٩م في إسقاط نظام الإسلاميين وذهاب الحركة الشعبية مجموعة مالك عقار للتفاوض ضمن مجموعة الجبهة الثورية دخلت في إتفاقية سلام جوبا وأصبحت جزءاً من قسمة السُلطة ثم واصلت إرتباطها بالمجموعة العسكرية حتي مابعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م والحرب الحالية ما بعد ١٥ أبريل ٢٠٢٣م وبقاء جزء من قيادتها ومنسوبيها فيها حتي اللحظة.
هنالك إذن تغييرات كبيرة طالت الحركة الشعبية خلال مسيرتها ، والسؤال الهام هو “هل ظلّ مشروع السُودان الجديد الذي تأسست وفقاً عليه الحركة وناضلت لقيامه في عهد المؤسسين الأوائل ود.جون قرنق هو نفسه الذي تلتزم به الحركة الشعبية شمال اليوم؟؟”.
للإجابة علي هذا السؤال الهام نستعرض في الأجزاء القادمة ماهي التغييرات التي حدثت للحركة الشعبية ككل نظرياً وتنظيمياً ، وقادتها من مربع النضال لأجل سُودان موحد علماني ديمُقراطي لجميّع السُودانيين إلي مجرد مشروع يخدّم أجندة الخارج والإمارات وأجندة السُلطة والإنفصاليين داخل الحركة الشعبية شمال بعد أن كان مشروعاً لكل السُودانيين الكادحين والمُهمشيّن ولوحدة السُودان والتغيير فيه ، وسنتعرض إجمالاً لتقييم تجربة الحركة الشعبية والنضال المُسلح الذي أتبعته لإحداث التغيير المطلوب ، ومحاولة الإجابة علي عدد من الأسئلة المُتعلقة بمشروع السُودان الجديد بشكله الحالي وهل يمكن له المواصلة بذات الأدوات والقيادة والبرنامج ؟؟ أم أن هنالك حوجة لتغيير داخل الحركة الشعبية شمال تعود به الحركة لخط التأسيس الأول لمشروع السُودان الجديد ، وأن يتم تقييم كامل تجربة الحركة بمافيها نهج العمل المُسلح داخل الحركة كاداة للتغيير ، وإمكانية تحولها للنضال السِلمي المدني لتحقيق أهداف الحركة؟؟….
نواصل…