الحرب الإسرائيلية الإيرانية وأثرها على المنطقة

تاج السر عثمان
١. في خرق واضح للقانون الدولي، شنت إسرائيل فجر الجمعة ١٣ يونيو 2025م هجوما جويا استهدفت ضرباته منشآت مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، إلى جانب مصانع عسكرية، ومقرات قيادية، من بينها مقرات كبار قادة الحرس الثوري الإيراني. وقد أسفر الهجوم عن :
– مقتل عدد من القادة العسكريين البارزين، من ضمنهم قائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي، ورئيس هيئة الأركان العامة اللواء محمد باقي.
– سقوط عدد من علماء الذرة الإيرانيين تحت الأنقاض. – لم تسلم المناطق المدنية من الهجوم، مما تسبب بسقوط قتلى في صفوف المدنيين.
الهجوم كان بعلم أمريكا، كما أصبح واضحا دعمها يتيح لتل أبيب التصرف بحرية في الإقليم. هكذا، وبدون محاسبة أو عواقب. فقد قصفت اسرائيل دولة ذات سيادة ضاربة بعرض الحائط كل الأعراف والمواثيق الدولية. ولا غرو ان وجد إدانة واسعة من كل القوى المحبة والديمقراطية في العالم. فضلا أن إسرائيل تملك سلاح نووي فلماذا حرام على ايران؟
٢. خطورة هذا الهجوم انه جعل المنطقة مفتوحة لكل الاحتمالات بما فيها حرب عالمية، ولاسيما بعد الرد الإيراني واحتمال ان يستمر القصف المتبادل لفترة طويلة، اسرائيل تصورت ان هذا الهجوم نزهة، يمكن أن تعود منه بسلام، فإذا به يفتح عليها نار جهنم، وصندوق (باندورا) الذي في الميثولوجيا اليونانية اذا فتحته تنبعث منه كل المشاكل.
من جانب آخر إيران شريك استراتيجي لموسكو، يرتبط معها بإتفاق شامل للتعاون، لا سيما وأن إسكات إيران أو إسقاطها سيمثل ضربة عميقة لمعسكر القوى الصاعدة على حساب الغرب، مما قد يجر المنطقة لصراع أوسع، اذا قامت إيران بضرب القواعد الأمريكية في دول الخليج، فضلا عن أن هذا الهجوم لا يستهدف فقط المنشآت النووية لايران أو مراكز قوتها الدفاعية، بل يستهدف ايضا تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير الهادف لتقسيم وتمزيق وحدة بلدان المنطقة، وتحويلها إلى كانتونات عرقية وعنصرية دينية ، وجعلها ضعيفة لا حول لها ولا قوة، مما يسهل نهب مواردها، ودفعها في السياسات النيوليبرالية، اضافة الى كبح تحول العالم نحو التعددية القطبية، ومنع تفكك النظام الأحادي الذي ظلت تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها لعقود.
و اضافة الي أن الدعم الإيراني للميليشيات في كل أنحاء الشرق الأوسط لم يعد سريًا. والاتفاقيات العسكرية بين طهران وموسكو باتت تعني أن “الخطر الإيراني” لم يعد إقليميًا فقط بل دوليًا، بالتالي هناك خطر لحرب عالمية.
٣. لا يمكن عزل الحرب الإيرانية الإسرائيلية عن الحروب الدائرة رحاها مثل :الحرب الروسية الاوكرانية، حرب غزة، الحرب في السودان، بهدف نهب الموارد الثروات، فالحرب الإيرانية الإسرائيلية سوف تطال منطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر وبلدان أفريقيا، إيران اصبح لها امتدادا ومليشيات في بلدان الشرق الأوسط وتحالفاته عسكرية كما مع السودان الذي اصبح يتلقى الأسلحة من ايران، بالتالي لن يسلم السودان من الضربات الإسرائيلية.
الكيان العنصري الصهيوني عمل بنشاط على إبادة الشعب الفلسطيني كما هو جارى الان في غزة بدعم أمريكي، ومشروع التهجير لجعل المنطقة استثمارية، ومخلب قط لخدمة المصالح الطبقية الأمريكية في المنطقة، وضرب حركات التحرر الوطني في المنطقة، وبالمثل النظام الإيراني نظام فاشي متسلط باسم الدين، يقوم على المصادرة الكاملة للحقوق والحريات الديمقراطية، ومن مصلحة شعوب المنطقة النهوض في أوسع حراك جماهيري لإنقاذ المنطقة من الدمار المحدق بها، وتفكيك الأنظمة العنصرية والفاشية، وقيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن العرق أو اللون أو العقيدة أو الفكر السياسي اوالفلسفي. وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس بعد انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧م، وفي قيام الدولة الديمقراطية في فلسطين التي يعيش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون في سلام.
كنت طالبًا في المدرسة الثانوية عندما اندلعت الثورة الإيرانية، وأتذكر جيدًا كيف رحّب الشيوعيون السودانيون بالتغيير ودعموه.
قد لا يُنهي سقوط النظام الإيراني الصراع الأوسع، ولكنه بلا شك سيُفكك ما يُسمى “النموذج الإيراني”.
شكّل انتصار الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ تحوّلاً جذرياً في الفكر السياسي العربي والعالمي. رحّب المثقفون من مختلف الأطياف الأيديولوجية – القوميون العرب والماركسيون والإسلاميون – بالثورة، كلٌّ منهم فسّرها من منظوره الأيديولوجي الخاص.
رأى الماركسيون الثورة ثورةً للمظلومين ضد الاستغلال الرأسمالي. واعتُبر مفهوم “المستضعفين” لدى الشيعة مُشابهاً للبروليتاريا الماركسية. ورغم الأسس اللاهوتية للثورة، تبنى العديد من اليساريين خطابها المناهض للإمبريالية ومعارضتها للهيمنة الغربية. حتى أن حزب توده الإيراني، وهو حزب شيوعي موالٍ للسوفييت، دعم نظام آية الله الخميني في سنواته الأولى – وهو تحالفٌ أثبت لاحقًا أنه كارثيٌّ لأعضائه.
القوميون العرب، الذين لطالما كانوا حذرين من الهيمنة الفارسية وعداءها التاريخي للهوية العربية، وضعوا هذه المخاوف جانبًا مؤقتًا. فسروا الثورة على أنها ضربةٌ للإمبريالية الغربية وحليفٌ محتملٌ في النضال الأوسع ضد الاستعمار. وكان لهذا صدىً خاصٌّ في أعقاب اتفاقيات كامب ديفيد (1978)، التي اعتبرها كثيرٌ من العرب خيانةً للقضية الفلسطينية.
في غضون ذلك، رأى الإسلاميون في الثورة مرآةً لتطلعاتهم: دولةٌ دينيةٌ متجذرةٌ في السلطة الإلهية والمقاومة. وقد برهن تأسيس جمهورية إيران الإسلامية على أن الإسلام السياسي لا يستطيع فقط تحدي الأنظمة العلمانية، بل أن يحل محلها أيضًا.
ولكن على مدى العقود الأربعة التالية، أفسح الوعد الثوري المجال للقمع والطائفية والتصلب الأيديولوجي. كشف المشروع الخميني، الذي اعتُبر يومًا ما منارةً للمقاومة، عن جوهره الاستبدادي والديني. ومع ذلك، لم يُدرك علنًا سوى عدد قليل من المثقفين العرب البارزين مخاطر “النموذج الإيراني”.
حتى الفكر الغربي لم يكن بمنأى عن جاذبيته. فقد دعم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الثورةَ دعمًا شهيرًا خلال زياراته لإيران بين عامي 1978 و1979. ووصفها بأنها “ثورة روحية” وشكل جديد من الروحانية السياسية يتحدى المعايير الليبرالية الغربية. واستمر حماس فوكو حتى مع بدء النظام في إعدام المعارضين وفرض قواعد دينية صارمة – وهو موقفٌ أثار انتقاداتٍ لاذعة من باحثين مثل جانيت عفاري وكيفن ب. أندرسون في كتابهما “فوكو والثورة الإيرانية” (2005).
في الآونة الأخيرة، وصفت جوديث بتلر، على نحو مثير للجدل، النموذج الإيراني بأنه جزء من “اليسار التقدمي العالمي”، مما يعكس اتجاهًا أوسع في نظرية ما بعد الاستعمار والنظرية النقدية، يُضفي طابعًا رومانسيًا على المقاومة دون التطرق بشكل كامل إلى نتائجها الاستبدادية. وقد شكّلت مجالات أكاديمية بأكملها، وخاصة دراسات ما بعد الاستعمار، في بعض الأحيان منصات غير نقدية لهذه الرواية.
لا يزال حزب توده الإيراني قائمًا، وإن كان مجرد موقع إلكتروني.
تأسس حزب توده عام ١٩٤١، وكان قوة سياسية بارزة، لا سيما خلال أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضي. دعم جهود رئيس الوزراء محمد مصدق لتأميم النفط، لكنه سُحق لاحقًا بعد انقلاب عام ١٩٥٣ المدعوم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. اختفى الحزب عن الأنظار، ليعاود الظهور خلال ثورة ١٩٧٩، عندما دعم في البداية الجمهورية الإسلامية، آملًا في أجندة مشتركة مناهضة للإمبريالية.
لم يدم هذا التحالف طويلًا. ففي عام ١٩٨٣، حظرت الجمهورية الإسلامية حزب توده، واعتقلت العديد من أعضائه، وأعدمت العديد من قادته. واتُّهم الحزب بالتجسس والتقارب الشديد مع الاتحاد السوفيتي.
يعمل حزب توده اليوم في المنفى، معظمه من أوروبا، ومقره الرئيسي في برلين ولندن. ولا تزال هذه المنظمة تنشر المواد وتدير موقعا على شبكة الإنترنت، لكن نفوذها داخل إيران ضئيل بسبب عقود من القمع.
كان دعم الجماعات اليسارية والشيوعية للثورة الإسلامية الإيرانية عام ١٩٧٩ مزيجًا معقدًا من
التوافقات الأيديولوجية، وسوء التقديرات الاستراتيجية، والسياق الجيوسياسي – ليس فقط بسبب النفوذ السوفيتي، وإن كان له دور.
معاداة الإمبريالية المشتركة: اعتبرت العديد من الفصائل اليسارية والشيوعية في إيران، بما في ذلك حزب توده، نظام الشاه دميةً في يد الإمبريالية الغربية – وخاصة الولايات المتحدة. كانت الثورة، بقيادة آية الله الخميني، معاديةً بشدة للغرب، لذلك اعتبرها اليسار في البداية حليفًا محتملًا في تفكيك الهياكل الإمبريالية.
الحذر السوفيتي وسوء الفهم: حافظ الاتحاد السوفيتي على موقف إيجابي ولكنه حذر تجاه الثورة. قلل صانعو السياسات السوفييت من أهمية الأصولية الإسلامية على المدى الطويل، ولم يروا فيها تهديدًا في ذلك الوقت. كانوا أكثر تركيزًا على موقف الثورة المناهض للغرب وفرصة إضعاف النفوذ الأمريكي في المنطقة.
أمل في ثورة أوسع: اعتقد العديد من اليساريين الإيرانيين أن الثورة الإسلامية ليست سوى المرحلة الأولى من موجة ثورية أوسع نطاقًا قد تتحول في النهاية نحو الاشتراكية. دفعهم هذا الاعتقاد إلى دعم الثورة، على أمل توجيهها نحو اليسار بعد رحيل الشاه.
الانقسامات الداخلية وسوء التقدير: كان اليسار الإيراني متشرذمًا ومنقسمًا أيديولوجيًا. تحالفت بعض الجماعات، مثل حزب توده، بشكل أوثق مع الاتحاد السوفيتي وكانت على استعداد للتعاون مع النظام الإسلامي الجديد. بينما أملت جماعات أخرى، مثل الفصائل الأكثر تطرفًا في حرب العصابات، في الاستفادة من الزخم الثوري، لكنها سرعان ما هُمّشت أو سُحقت بمجرد أن وطّد رجال الدين سلطتهم.
ومن المفارقات أن العديد من هذه الجماعات اليسارية تعرضت لاحقًا للاضطهاد من قبل النظام نفسه الذي ساهمت في وصوله إلى السلطة. انقلبت الجمهورية الإسلامية عليهم بشكل حاسم بحلول أوائل الثمانينيات.
التاريخ مليء بالتحالفات الغريبة، أليس كذلك؟
تأسس حزب توده عام ١٩٤١، وكان قوة سياسية بارزة، لا سيما خلال أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضي. دعم الحزب جهود رئيس الوزراء محمد مصدق لتأميم النفط، لكنه سُحق لاحقًا بعد انقلاب عام ١٩٥٣ المدعوم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. اختفى الحزب عن الأنظار، ليعاود الظهور خلال ثورة ١٩٧٩، عندما دعم في البداية الجمهورية الإسلامية، آملًا في أجندة مشتركة مناهضة للإمبريالية.
لم يدم هذا التحالف طويلًا. ففي عام ١٩٨٣، حظرت الجمهورية الإسلامية حزب توده، واعتقلت العديد من أعضائه، وأعدمت العديد من قادته. واتُّهم الحزب بالتجسس والتقارب الشديد مع الاتحاد السوفيتي.
يعمل حزب توده اليوم في المنفى، بشكل رئيسي من أوروبا، ومقره الرئيسي في برلين ولندن. لا يزال الحزب ينشر مواده ويدير موقعًا إلكترونيًا، لكن تأثيره داخل إيران ضئيل بسبب عقود من القمع.
إنها قصة عن الأمل الثوري، والحسابات الخاطئة المأساوية، والبقاء على قيد الحياة في المنفى.
لقد أثّر النموذج الإيراني تأثيرًا عميقًا على الشباب الشيعي في جميع أنحاء الشرق الأوسط، غالبًا على حساب التقدم الفكري والاجتماعي. لقد رسّخ لديهم سردية الشعور بالذنب التاريخي تجاه استشهاد الحسين والولاء لإمام معصوم. وقد استُخدم هذا الإطار العاطفي والديني كسلاح لخلق جيوب طائفية تتسم بالفقر والأمية والتعبئة الأيديولوجية، لا سيما في لبنان والعراق واليمن.
لعل انهيار هذا النموذج يُتيح فرصة للتحرر: قطيعة مع الماضي المُأسَطَر، وإعادة الانخراط في الحداثة والتعددية والفكر النقدي.
لم يُشكّل “النموذج الإيراني” دولةً فحسب، بل استعمر مخيلة الشارع العربي. استبدل تطلعات الرخاء والحرية بأساطير مُقدّسة عن الاستشهاد والمقاومة، كل ذلك بقيادة نخبة رجعية ترى في الحرية تهديدًا لرسالتها.
لن يُمثّل سقوطه نهاية نظام فحسب، بل سيُغلق فصلًا طويلًا ومظلمًا في تاريخ المنطقة الحديث: فصلٌ استعبد الشعوب باسم التحرير وقوّض الأمم باسم المقاومة.