بين إيران وإسرائيل : ما مصير الإسلام السياسي؟

نبيل منصور
في منطقةٍ لم تبارح مدار الانهيارات، ولم تلتقط أنفاسها من نزيف الدم، تلوح في الأفق نذر مواجهة جديدة… عنوانها هذه المرة : إيران في مواجهة إسرائيل.
لكن السؤال الأهم لا يُقاس بميزان السلاح وحده:
من سيخرج من تحت الركام بخطابٍ جديد؟ ومن سيفقد صوته، وشرعيته، وربما مبرر وجوده؟
سنوات طوال والمنطقة ترزح تحت ثقل الحروب والانقسامات، فيما ظلّ خطاب “الإسلام السياسي”، في نسخته المقاومة، يتغذى من رماد الدول التي تتساقط، وينتعش كلما خفتت الأصوات الأخرى، أو تم إسكاتها.
واليوم، تقف هذه الحركات على مفترق حادّ:
هل ستكون هذه الحرب آخر ما تبقى من أنفاس مشروعها؟
أم ستكون ـ كعادتها ـ فرصة لبعثه من تحت الرماد … في هيئة جديدة، بخطاب قديم؟
منذ لحظة تشكّله في القرن العشرين، لم يكن الإسلام السياسي محض تعبير ديني، بل مشروع سلطة، اتخذ من الدين أداة تعبئة، ومن النصوص مظلة تبرير.
وفي العقود الأخيرة، تشكّل جناحٌ مقاوم منه تحت عباءة إيران، تبنّى خطاب المواجهة مع إسرائيل والغرب عبر أذرع عسكرية كـ”حزب الله” و”أنصار الله” و”حماس”.
وفي المقابل، قدم الجناح السني ـ بدعم تركي قطري ـ نفسه كبديل “ديمقراطي إسلامي”، تجلّى في حركات كالإخوان بعد الثورات العربية.
لكن ورغم ما بين المشروعين من تباين مذهبي ومسافات جغرافية، فقد تشاركا في جوهر واحد: السعي إلى التمكين عبر الدين، وتحويل “العدو الخارجي” إلى ذريعةٍ لتأبيد السلطة وكبح الأسئلة الداخلية.
امتحان مزدوج … وفشل مركّب
اليوم، يجد الإسلام السياسي نفسه في مهبّ امتحان قاسٍ، مزدوج الوجوه:
1. فشل في الحكم: من إيران المُنهكة بالعقوبات والقمع، إلى غزة المختنقة بالحرب والحصار، إلى السودان الذي تهاوى إلى جحيم الحرب بعد تحالف هشّ بين العسكر والإسلاميين.
2. وإصرار على التمسك بخطاب العدو الخارجي، كستار يغطّي عورات الداخل، ويبرر انسداد الأفق وانهيار الأمل.
وباتت الشعوب تُدرك شيئاً فشيئاً أن تديين السياسة لم يُنتج عدالة، ولم يُحرر أرضاً، بل أتى بأنظمة لا تقلّ بطشاً عمّن زعمت مواجهتهم، وأن الخطاب الذي وعد بالخلاص، ما كان سوى مرآة أخرى للاستبداد.
إيران … هل تمثل الإسلام السياسي؟
صحيح أن إيران ليست الامتداد الكلاسيكي للإسلام السياسي السنّي، لكنها ـ بما تملكه من أدوات وتحالفات ـ باتت الراعي الأبرز لـ”الإسلام المقاوم”.
مشروعها ذو طابع مذهبي توسعي، يتقاطع ـ رغم التنافر الطائفي ـ مع الإسلاميين السنّة في الجوهر :
تديين الصراع السياسي، وبناء شرعية موازية للدولة الحديثة، وإدارة الحكم بمنطق الغلبة لا الشراكة.
الحرب … لحظة انطفاء؟ أم لحظة تجدد؟
إذا اندلعت حرب شاملة، أو اشتعل الإقليم بجبهات جديدة، فإن مصير هذا المشروع قد يتحدد وفق سيناريوهين متضادين :
أولًا : الحرب كنهاية
إذا خرجت إيران وحلفاؤها بهزيمة نكراء، فإن الهالة الرمزية لمحور “المقاومة” ستتصدع.
وسينكسر الخطاب الذي ظلت جماعات الإسلام السياسي ترفعه لحجب فشلها.
وسيقول الشارع ـ الذي تعب من الدمار والخذلان ـ كلمته المريرة:
“لا حرّرتم، ولا عدلتم حين حكمتم.”
عندها لن تكون أزمة الإسلام السياسي أمنية أو عسكرية فقط، بل وجودية:
لا تحرير تحقق، ولا نموذج بديل بُني، ولا عدالة أنجزت.
ثانيًا : الحرب كإحياء مؤقت
لكن إن استطاعت إيران الصمود، أو وجهت ضربة موجعة لإسرائيل، فقد تستعيد هذه الحركات جزءًا من بريقها، لا باعتبارها مشاريع حكم، بل كممثل “شرعي” للمقاومة في ظل غياب بدائل حقيقية.
وقد يندفع قطاع من الجيل المقهور، خاصة في وجه الفساد والتطبيع، إلى من يرفع راية “العدو المشترك”.
وسرعان ما تخفت الأصوات الناقدة لتعلو نغمة واحدة:
“نحن في معركة وجود… فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة.”
المقاومة … بين المبدأ والتوظيف
وهنا، لا بد من التمييز الصارم:
النقد لا يطال “المقاومة” كقيمة، بل توظيفها كأداة لإسكات الشعوب وتأبيد الأنظمة.
الإسلام السياسي، لا سيما في نسخته المسلحة، طالما استخدم العدو الخارجي كقناع يُخفي فشله.
وعندما يُسأل عن انهيار الاقتصاد، أو قمع الحريات، يردّ :
“نحن في خندق المعركة … صبراً حتى النصر.”
لكن الشعوب، التي وحدها تدفع ثمن “الصبر”، بدأت تسأل بتوجّع :
“إلى متى سنجوع ونُذلّ باسم (القضية)؟
وإلى متى ستُستخدم شماعة العدو لتأجيل حياتنا؟”
من يحسم المصير؟
ليست الصواريخ ولا المعارك من يحسم مصير الإسلام السياسي،
بل وعي الناس، وإجاباتهم الكبرى عن أسئلة الحكم، والعدالة، والكرامة.
فإن بقي الشارع رهين الغضب والانفعال، فسيجد الإسلام السياسي دومًا طريقًا للعودة،
وإن على أنقاض المدن، وبقايا الأمل.
أما إن نهض الوعي وسأل :
كيف نُحكم؟ ولمصلحة من؟ وبأي شكل من الحكم تُصان الكرامة وتُصنع العدالة؟
وإن أدرك الناس أن الكرامة لا تُستعاد بشعارات جوفاء، بل تبنى بمشروع وطني، يردّ للإنسان مكانته، لا كمجند في معركة أبدية، بل كمواطن حرّ في دولة عادلة،
فحينها لن يتوارى الإسلام السياسي عن السلطة فحسب،
بل سينسحب من الوعي الجمعي ذاته… كذكرى موجعة لفصلٍ أراد أن يحتكر كل شيء، ففقد كل شيء.
من سيخرج من تحت الركام؟
إن سؤال “من سينتصر؟” لا تجيب عليه البيانات العسكرية،
بل الهوية التي تنهض من تحت الركام.
هل ستُبعث نسخة جديدة من الاستبداد، تغلف القمع بثوب الإيمان؟
أم سيولد مشروع عقلاني، إنساني، يقاوم الاحتلال…
دون أن يُشبهه؟
بح بح كاكا كاكا كخ كخ😹😹😹😹