مقالات وآراء

العدالة السودانية “أسيرة حرب” في محاكم الطوارئ

 

ملخص

تشير أنماط السلوك السياسي في السودان إلى ميل واضح لدى السلطة العسكرية إلى تحويل أدوات السيطرة الوقتية إلى هياكل دائمة تملأ فراغ المؤسسات، وتشكل نواة نظام سياسي جديد لا يُبنى على التوافق ولا القوانين، بل على الإجراءات.

في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أصدر رئيس الجهاز القضائي في الولاية الشمالية بالسودان خالد ميرغني في الـ 12 من يونيو (حزيران) الجاري، قرارات بتشكيل محاكم طوارئ في محليات دنقلا والدبة وحلفا ومروي، تتولى النظر في مخالفات القانون الجنائي لعام1991، وقانون الطوارئ وحماية السلامة العامة لعام 1997، ومُنحت هذه المحاكم صلاحيات قضائية واسعة داخل حدود المحليات، مع إمكانية الانتقال إلى أي موقع آخر بناء على توجيهات الجهاز القضائي، ما يشير إلى توسيع غير مسبوق لصلاحيات الطوارئ في مناطق لم تشهد اشتباكات أو انفلاتاً أمنياً واسع النطاق.

تأتي هذه الخطوة وسط انهيار المؤسسات العدلية التقليدية في معظم أنحاء البلاد بسبب الحرب، لتطرح تساؤلات حول شرعية محاكم الطوارئ خارج مناطق النزاع، وأهداف تشكيلها في ولايات تُعد مستقرة نسبياً، وبينما تبرر السلطات هذا التوسع بضرورات “حفظ الأمن” و”مكافحة النهب”، تحذر جهات حقوقية من أن هذه المحاكم تعمل خارج السياق القضائي المدني، وتخضع لتوجيهات أمنية، مما يهدد باستغلالها كأداة للقمع وتصفية الخصوم في غياب الشفافية والضمانات القانونية الأساسية.

وفي ظل غياب سلطة تشريعية منتخبة وتعليق العمل بأية مرجعية دستورية متفق عليها، دخل السودان مرحلة غير مسبوقة من تركز السلطات، حيث باتت السلطة التنفيذية والعسكرية تمارس أدوار التشريع والتنفيذ والرقابة مجتمعة، دون ضوابط مؤسسية أو مساءلة حقيقية، وقد أتاحت الحرب ذريعة لفرض حالة طوارئ، يتم تمديدها وتوسيعها بشكل متكرر من دون الرجوع إلى أية جهة رقابية مستقلة.

هذا الانفراد بصناعة القرار، خصوصاً في ما يتصل بإجراءات ذات طبيعة استثنائية كإنشاء محاكم الطوارئ، يشير إلى انزلاق تدريجي نحو الحكم بالأوامر، لا عبر القانون. فالمسار المؤسسي الذي يُفترض أن يكسب تلك المحاكم شرعية إجرائية بات غائباً، لتحل محله قرارات فردية تصدر من قادة الجهاز القضائي تحت تأثير مباشر من السلطة العسكرية، وبينما تبرر السلطات هذه التدابير بضرورات الأمن العام، فإنها تغفل، أو تتجاهل، خطورة التوسع في الإجراءات الاستثنائية من دون غطاء دستوري، لا سيما في مناطق لم تطلها الحرب.

جذور الطوارئ

تعود جذور محاكم الطوارئ في السودان إلى فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير بعد انقلاب 1989، إذ شرعت حكومة “الإنقاذ” في استخدام هذه المحاكم كأداة لضبط الأمن العام وملاحقة المعارضين السياسيين تحت غطاء قانون الطوارئ، وأُنشئت محاكم الطوارئ بموجب الأوامر العسكرية الخاصة بالحالة الاستثنائية، وغالباً ما كانت تُدار خارج الأطر القضائية التقليدية، إذ افتقرت إلى أبسط معايير العدالة والإجراءات القانونية الواجبة، واعتمدت على قضاة موالين للسلطة التنفيذية.

خلال تسعينيات القرن الماضي، استخدمت محاكم الطوارئ ضد النشطاء السياسيين وطلاب الجامعات، وبلغت ذروتها في الأقاليم التي شهدت احتجاجات أو اضطرابات معيشية، لا سيما دارفور والشرق، وحُكم على بعضهم بالسجن أو الجلد من دون حق الاستئناف، ومن أبرز هذه الحالات محاكمات طلاب جامعة الخرطوم عام 1998 بعد احتجاجات ضد غلاء المعيشة.

تكرر الأمر لاحقاً في احتجاجات سبتمبر (أيلول) 2013، حين أُحيل العشرات إلى محاكم طوارئ في ولاية النيل الأبيض بتهم “الإخلال بالنظام العام”، وتم إصدار أحكام قاسية من دون السماح للمتهمين بالتقاضي أمام قضاة مستقلين.

وفي السنوات الأخيرة من عهد البشير، في أعقاب احتجاجات ديسمبر (كانون الأول) 2018، أصدر رئيس القضاء السوداني في فبراير (شباط) 2019 قراراً بتشكيل محاكم طوارئ ابتدائية واستئنافية في جميع ولايات السودان، جاءت هذه المحاكم بناء على إعلان البشير حالة الطوارئ لمدة عام، وإصداره خمسة أوامر طوارئ، فوض بموجبها النائب العام بإنشاء نيابات الطوارئ وتنظيم إجراءات التحقيق والاستئناف، كما أصدر قراراً بحل حكومة “الوفاق الوطني” وحكومات الولايات، مما عزز من هيمنة السلطة التنفيذية عبر الأطر القضائية الاستثنائية.

عقب سقوط النظام السابق، سعت حكومة الفترة الانتقالية إلى تقويض صلاحيات الطوارئ، وأُلغيت العديد من القوانين الاستثنائية، في محاولة لإعادة الاعتبار لمؤسسات العدالة المستقلة، إلا أن الانقلاب العسكري في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 وإلغاء “الوثيقة الدستورية” أعاد بعض ملامح المشهد الأمني وعدم الاحتكام إلى القانون، ومع اندلاع الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في أبريل (نيسان) 2023، أعادت السلطات العسكرية تشكيل محاكم طوارئ في عدد من الولايات، مثل نهر النيل والولاية الشمالية، استناداً إلى قرارات محلية صادرة عن حكومات تلك الولايات.

دوافع القرار

أثار قرار تشكيل محاكم طوارئ في الولاية الشمالية، تساؤلات واسعة حول الدوافع الحقيقية وراء هذه الخطوة. فمن الناحية الظاهرية، صدرت هذه المحاكم من قبل بقرار من رئيس القضاء في أبريل 2024، بذريعة “مكافحة جرائم الطوارئ” و”حفظ النظام العام”، بينما يرى مراقبون أن السياق السياسي والجغرافي يشير إلى أسباب أعمق تتجاوز ما هو معلن رسمياً.

قال الصحافي محمد مصطفى إنه “من الناحية الجغرافية، تُعد الولاية الشمالية معبراً حيوياً بين مصر والسودان، وتشهد حركة تجارية نشطة وطرق عبور استراتيجية، لا سيما في ظل تصاعد نشاط التهريب والعبور غير القانوني للبضائع والوقود والذهب والبشر، خصوصاً مع تراجع دور الأجهزة النظامية في الولايات الأخرى، كما أن قربها من مناطق النزاع من دون أن تتأثر مباشرة بالحرب جعلها نقطة جذب للنزوح من الخرطوم وإقليم دارفور، وهو ما خلق ضغوطاً سكانية واقتصادية وأمنية في المدن المستقرة مثل دنقلا ومروي”.

وأورد مصطفى “أما من الناحية السياسية، فيبدو أن اختيار الولاية الشمالية يعكس رغبة السلطة المركزية في فرض الهيبة والسيطرة الوقائية في مناطق الأطراف قبل أن تمتد إليها فوضى الحرب، لا سيما وأن الولاية شهدت في فترات سابقة احتجاجات قوية ضد نظام البشير، كما تتسم بتركيبة قبلية ذات حساسية تجاه المركز، لذا، فإن نشر محاكم الطوارئ فيها يحمل أيضاً رسالة سياسية استباقية لردع أي حراك اجتماعي مستقبلي، وإعادة ترسيخ مركزية القرار القضائي من أعلى السلطة القضائية، بعيداً من السياقات الطبيعية لسيادة القانون”.

وتابع الكاتب الصحافي “يشهد الأمن المجتمعي نوعاً من التوتر المكتوم، حيث يخشى السكان من أن تتحول هذه المحاكم إلى أدوات ترهيب وليست عدالة، كما أن الثقة في مؤسسات الدولة، خصوصاً القضائية، تتآكل تدريجاً عندما تصبح قرارات العدالة خاضعة لضرورات السلطة لا لحكم القانون، وهو ما يعيد البلاد إلى نمط الاستثناء المزمن الذي ظلت تعانيه منذ عهد الإنقاذ، لكنه أكثر خطورة هذه المرة في ظل الانقسام والانهيار المؤسسي العام”.

تسييس العدالة

قوبل القرار أيضاً بانتقادات واسعة من نشطاء ومحامين، اعتبروه “تسييساً للعدالة” واستغلالاً لحالة الفراغ الدستوري، وفي هذا السياق، تقدمت المحامية والناشطة الحقوقية ازدهار جمعة، الأسبوع الماضي، بمذكرة احتجاج قانوني إلى كل من رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ورئيس القضاء القومي عبد العزيز فتح الرحمن، طالبت فيها بإلغاء أو على الأقل مراجعة قرارات تشكيل محاكم الطوارئ في الولاية الشمالية.

ودعت جمعة، في مذكرتها، نقابة المحامين السودانيين والمنظمات الحقوقية الدولية والمحلية إلى “التحرك العاجل للدفاع عن استقلالية السلطة القضائية”، مؤكدة أن استمرار هذه المحاكم من دون سند دستوري يُعد تقويضاً لسيادة حكم القانون، كما ناشدت مجلس السيادة الإسراع في تشكيل المحكمة الدستورية العليا، كخطوة ضرورية لرقابة دستورية مستقلة على أعمال القضاء، مشيرة إلى أن “غياب هذه المحكمة فتح الباب واسعاً أمام انتهاكات قانونية جسيمة من دون رادع مؤسسي”.

وعلى صعيد آخر، تناولت المذكرة جانباً مالياً حساساً، إذ طالبت بوقف ما وصفته بـ”تجنيب الأموال داخل الجهاز القضائي”، مشددة على ضرورة قصر التحصيل المالي على النظام المحاسبي الرسمي (أورنيك 15)، معتبرة أن تحصيل الغرامات عبر إيصالات غير رسمية “يخل بالشفافية، ويفتح المجال أمام شبهات تضارب المصالح”، خصوصاً إذا ما استُخدمت تلك الأموال في تحسين أوضاع القضاة والعاملين في السلك القضائي، وهو ما وصفته جمعة بأنه “طعنة في صميم مبدأ نزاهة القضاء”.

من جانبها، حذرت المحامية وصال عبدالله من خطورة تشكيل محاكم استثنائية في ولاية مستقرة، قائلة إن “القرار يعطي انطباعاً مضللاً بانعدام الاستقرار، ويزج بالقضاء في مسارات أمنية بحتة، لا تقوم على أسس قانونية واضحة”، واتفقت مع ازدهار جمعة، بإشارتها إلى أن السلطات التنفيذية هي من تدير هذه المحاكم من دون رقابة قضائية مستقلة، محذرة من “انهيار مبدأ التقاضي أمام القضاء الطبيعي، نتيجة توسيع اختصاص هذه المحاكم ليشمل القانون الجنائي العام”.

ولفتت عبدالله إلى غياب الضمانات الأساسية في الإجراءات، ومنها حق الدفاع، وعلنية الجلسات، وحق الاستئناف، معتبرة أن هذا التجاهل يضاعف من خطر الانتهاكات، في ظل فراغ دستوري شامل وغياب سلطة قضائية عليا تراقب وتفصل في مدى قانونية هذه المحاكم.

 ونوهت المحامية إلى أن الجدل المتصاعد حول محاكم الطوارئ في ظل الاحتجاجات السابقة، وفي الشمالية حالياً يعكس أزمة عميقة تتعلق بتوازن السلطات، واستقلال القضاء، ومستقبل العدالة في دولة بلا مرجعية دستورية واضحة.

سيناريو التحول

تشير أنماط السلوك السياسي في السودان إلى ميل واضح لدى السلطة العسكرية إلى تحويل أدوات السيطرة الوقتية إلى هياكل دائمة تملأ فراغ المؤسسات، وتشكل نواة نظام سياسي جديد لا يُبنى على التوافق ولا القوانين، بل على الإجراءات، وعليه، فإن استمرار العمل بمحاكم الطوارئ في ولايات لم تشهد اشتباكاً مباشراً، مثل الشمالية، يمثل مؤشراً على نية توسيع نموذج الحكم الطارئ ليشمل كل جغرافيا الدولة.

في غياب دستور حاكم، وبرلمان منتخب، وقضاء مستقل، تصبح هذه المحاكم أداة لترسيخ قبضة السلطة، فهي لا تحتاج إلى تعديلات قانونية كبيرة، ولا تخضع لرقابة شعبية، ويمكن استخدامها بكفاءة ضد المعارضين، والنشطاء، وحتى الفاعلين الاقتصاديين الذين لا يخضعون لشروط النظام، ومع مرور الوقت تصبح هذه المحاكم أشبه “بالمحور المؤسسي البديل” الذي يدير شؤون الدولة خارج المؤسسات الرسمية المعطلة.

 ولذلك، فإن سيناريو التحول إلى “حكم محاكم الطوارئ” يطرح ثلاثة احتمالات رئيسة، الأول، تطبيع الاستثناء، حيث تتسرب آليات الطوارئ إلى القضاء العادي، وتُدمج الإجراءات الاستثنائية في منظومة الحكم اليومي، مما ينهي فعلياً مبدأ المحاكمة العادلة، والثاني، احتواء الدولة عبر القانون الأمني، حيث تُعاد صياغة دور القضاء بوصفه شريكاً في الضبط الاجتماعي، لا حارساً للحقوق. أما الثالث فهو انهيار الثقة الشعبية، ومعها يظهر الميل إلى العدالة غير الرسمية، أو حتى إلى تحدي النظام نفسه بوصفه فاقداً للشرعية.

اندبندنت عربية

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..