مقالات سياسية

ندى والحرب: حين يصبح الوطن رهينة للاستقطاب

عاطف عبد الله

في إحدى الأمسيات الأسرية، خلال حديث لا يخلو من وجع الهم العام الذي بات يفرضه واقع الحرب في السودان، وجدت نفسي في نقاش مؤلم مع ابنتي ندى. ندى، التي كان قلبها معلقاً بالثورة، تهتف من على البعد مع المعتصمين أمام القيادة العامة، وتحلم بوطن حر ودولة مدنية، تحوّل موقفها فجأة إلى الدفاع عن الحرب باعتبارها “الخيار الحتمي”.

لم تكن صدمتي نابعة من اختلافها معي، بل من ذلك التحوّل الجذري الذي جعلها، كآلاف غيرها، أسيرة لرواية أحادية، لا تقبل النقاش، ولا تعترف بوجهة نظر أخرى. إن ما حدث مع ندى ليس حالة فردية، بل هو صورة مكثفة لما يفعله الاستقطاب الإعلامي الحاد والتضليل المنهجي في عقول الشباب، وفي نسيجنا الاجتماعي ككل.

كيف ترسّخ هذا التحوّل؟

عندما حاولت النقاش معها، وجدت قناعاتها قد استقرت على خمس مرتكزات:

1. أن الحرب ضرورة وطنية يجب خوضها حتى النصر، ودحر قوات الدعم السريع.

2. أن أي تسوية أو اتفاق سلام مع هذه القوات مرفوض تماماً.

3. أن تأخر الحسم سببه دعم خارجي لقوات الدعم السريع.

4. أن القوى المدنية، ممثلة في تحالف “صمود” بقيادة حمدوك، تمثل الواجهة السياسية للدعم السريع،

5. أن تحالف “الحرية والتغيير” هو من اختطف الثورة ويتحمّل مسؤولية اندلاع الحرب.

والأخطر من ذلك كله: أنها لم تكن مستعدة لسماع رأي مخالف، أو مراجعة أي معلومة تتعارض مع قناعتها.

هذه القناعة ليست إلا ثمرة مُرّة لحصار إعلامي ضيق الأفق. واحتكار للحقيقة، تمارسه آلة منظمة تقف خلفها جماعات لها مصلحة مباشرة في استمرار الحرب، وعلى رأسها بقايا النظام الإسلاموي، الذي لم يتقبل سقوطه، ولا يزال يسعى للعودة إلى السلطة ولو على أنقاض السودان ومآقي أهله.

وأنا هنا لست بصدد دحض أو تفنيد هذه الادعاءات، فالصحف والمدونات، وكتابات رشا عوض، لم تترك شاردة أو واردة إلا وتناولوها، ولكن ما يشغل بالي هو تمزق النسيج الاجتماعي والأسري في السودان، نتيجة الاستقطاب الحاد حين تصبح الحقائق نسبية، والمواقف غير قابلة للنقاش.

ماذا نفعل في وجه هذا الاستقطاب؟

موقفي مع ندى ليس استثناءً. كثيرون وجدوا أنفسهم في نقاشات مشابهة مع أحبائهم — أناس لم يكونوا يوماً جزءاً من المشروع الإسلاموي، ولا رصيداً له. وفي لحظة صدق مع النفس، أدركت أن الإقناع لا يأتي بالصوت العالي، ولا بالسخرية، ولا

بالاحتقار، بل يكون ممكناً باتباع نهج هادئ، تراكمي، وعاطفي بقدر ما هو عقلاني، عبر مسارات خمسة:

أولاً: الانطلاق من القيم المشتركة

لسنا في حالة خصومة. كلنا نريد وطناً عادلاً آمناً. يجب أن يبدأ الحوار من هذه الأرضية، وأن نتحدث عن معاناة المدنيين في الفاشر ونيالا والخرطوم وأم درمان. فالدم سوداني، والوجع مشترك.

ثانياً: طرح الأسئلة بدلاً من تقديم الإجابات

أسئلة تفتح الفكر ولا تفرض موقفاً، مثل:

· ماذا لو استمرت الحرب خمس سنوات؟

· هل المطالبة بالحوار خيانة؟

· هل النصر الحقيقي هو بقاء أحد الطرفين فقط؟

· هل كل من يرفض الحرب بالضرورة يدعم الدعم السريع؟

· هل يمكن حقاً اختزال الشعب السوداني كله في معادلة “مع أو ضد”؟

ثالثاً: كسر ثنائية “مع أو ضد”

الواقع أعقد من هذه المعادلة المبسطة. هناك وطنيون – وهم الأغلبية – يرفضون كليهما، البرهان و حميدتي، ويقفون مع الوطن، لا مع البندقية.

رابعاً: كشف الجهة المستفيدة

من يروّج للحرب؟ من يملك أدوات التشويه والتخوين؟ من يسعى لتصفية الثورة تحت شعارات وطنية كاذبة؟ الجواب واضح حين نتابع خطاب إعلام النظام البائد وتحالفاته الخفية.

خامساً: الحفاظ على لغة الاحترام والاحتضان

السخرية لا تقنع، ووصف المخالف بأنه ساذج أو مضلل لا يزيده إلا تمسكاً بآرائه. والتعالي لا يفتح القلوب. شبابنا يحتاج إلى أن يُحاور بثقة، لا بتخوين، ويُحتضن لا يُدان. لأننا نريد تحرير عقولهم، لا الانتصار عليهم. يجب أن يشعروا أننا مثلهم نريد سوداناً مدنياً ديمقراطياً، لكن ليس عبر حرب لا نهاية لها.

الحرب لا تصنع وطناً

لقد أثبتت كل التجارب أن الحرب لا تبني ديمقراطية، ولا تنقذ دولة، بل تفتح أبواب الفوضى، وتغلق نوافذ الأمل. من المحزن أن نُحاصر بخطاب يروّج لأن الحرب فضيلة أو حرب كرامة، والسلام خيانة. لا يوجد نصر في حرب أهلية، بل سلسلة من الخسارات المتتالية، ومن لا يقرأ التاريخ محكوم عليه بتكراره.

ليست الوطنية في إحراق الوطن لمنع خصمنا من حكمه. وليست الشجاعة في شيطنة كل مخالف، أو تخوين من يرفض الحرب. ما نحتاجه اليوم هو شجاعة الاعتراف أن الوطن لا يُبنى على أنقاض البيوت، ولا يُحرّر بجثث الأبرياء، ولا تُنقذ ثورته بأدوات ومليشيات النظام الذي أسقطه الشعب في ديسمبر المجيد.

أخيراً…

ندى، مثل كثيرين، تعيش في فقاعة إعلامية مُحكمة، ترى العالم من خلال مرآة واحدة. لكنني أؤمن أن هذا الجيل، الذي خرج يطالب بالحرية والسلام والعدالة، وقدم الغالي والنفيس في سبيل الانعتاق من القهر وإسقاط دولة الفساد والاستبداد، لا يمكن أن يختطفه إعلام الكراهية إلى الأبد.

إنني مؤمن أن ندى وأمثالها من الشباب الثائر، في داخلهم – كما في داخل هذا الوطن – شعلة لا تنطفئ، تبحث عن السلام.

وحده الحوار قادر على هزيمة الكراهية، ووحده الوعي كفيل بكسر قيد التضليل. السودان ليس ملكاً لطرف واحد، ولا يُدار بالبندقية، ولا يُحكم بالكراهية.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..