حاج أبّشر و المنادي .. من حكاوي الحرب

سيد محمود الحاج
حاج أبّشر دا أصلاً ما حجّ و لا شاف الحج بي عينه لكن بحكم العمر كان بطلقوا عليه لقب حاج فالراجل قارب السبعين .. عائش مع زوجته ( حاجة السرّة ) وهي ذاتا ما حجّت برغم إلحاحها علي زوجها في كل سنة لكن دائماً كان بقول ليها : ” المنادي لي هسع ما نادى … اصبري كان العمر فيه مدد بتمشي “… و كل ما يردد جملته دي كانت بتنقنق بي صوت خافت : ” هو العمر دا شن فضل فيه عشان نصبر…الحمدلله الخير عندك و ترانا علي رقبتنا لا عندنا فاطنة لا عندنا أُمْحمّد و طواحينك الاتنين يدهجن اليوم كله … القروش دي لاميهن لي منو !! “؟
بيني و بينكم فكرة الحج دي حاج أبّشر يبدو إنه ما بلحيل عليها و أهو الناس بنادوه بي حاج كان حجّ كان ما حجّ و جائز كتيرين مفتكرين إنه حجّ بالفعل … حتى مرته ذات نفسها بتناديه بالحاج مع انه هو ما كان بناديها إلا بإسمها المجرد.. تعالي يا السرة أمشي يا السرة .. جيبي القهوة يا السرة جيبي الأكل يا السرة.. و بالمناسبة عمكم ما بشرب الشاي خالص و كمان القهوة بشربها مرّة من غير سكر.. قال السكر دا غير يجيب المرض ما عنده فائدة تاني و كان دائماً يكورك في السرة لما يشوفها تجيب علبة السكر و تكب اربعة ملاعق في كباية الشاي و ملعقتين في فنجان القهوة : ” يا ولية و الله السكر البتغرفي فيه بالكوريق دا إلا يلحقك ( ود النائر ) تراه هداك بقى جتة زي ضقلوم الشدرة ” …و حاجة السرة بحسب معرفتها بي رفيق عمرها كانت متأكدة إنه في حقيقة الأمر خائف علي السكر أكتر من خوفه عليها من المرض حتى إنها في يوم من الأيام زعلت و قربت تكشح كباية الشاي و كوركت فيه : ” هوي يا راجل… السكر دا اشتريته أنا بقروشي مو من رطيل سكرّك البتجيبه في الاسبوع مرة واحدة دا …آي و حات أبوي من قروش عتودي البعته “!!
اليوم داك حاج أبّشر مزاجه كان رائق و عائد الطاحونتين كيس مليان و بعد ما خبأ الكيس في المكان الذي لن يصل إليه إنس و لا جان جرّ عنقريبه الهبابي علي ضل العصر منتظر صينية الغداء .. و هي شن الصينية يعني .. كورة ملاح بامية مفروكة و صحن كسرة … الشكية لي الله اللحمة إلا في عيد الضحية أو مرة مرتين يكون الحاج قرمان.. يقوم يجيب ليه ربع كيلو عجالي أما ناس سلطة و زلطة إلا تلاقيه في عزومة عرس و ألا بيت عزاء و طبعاً قصة فواكه دي لا وجود لها في قاموسه.. حاج أبشر أنشف من (خط مية غرب ) لكن حاجة السرة المسكينة مَرَت سترة .. لايكة المُرّة و صابرة …المهم بعد ما اتغدى و شرب قهوته خلف رجل فوق رجل و إتمدد علي العنقريب و بااع..باااع..بااااااع…
الحمدلله علي نعمتك يارب !!… حاجة السرة عاينت بطرف عينها و سندت حنكها بي إيدا متمحنّة و زي القالت في سرها : ” النعمة دي ياتا يا ربي.. هي نعمة الله وقفت علي مفروكة البامية و طريقات الكسرة … نِعَم الله ما عندهن حد لكن البني آدم جاحد ” !!… أكيد بتكون قالت كدا و يمكن يكون أكتر من كدا كمان !!
المهم حاج أبّشر أخد ليه كشمة و مازال في رقدته و يطالع في السماء : ” السنة دي يا السرة إن شاء الله نمشي الحج .. بإذن الله ..بس ختي النية في قلبك .. و ان شاء الله المنادي ينادي “… حاجة السرة أصلها ظلت تسمع الكلام دا ١٧ سنة ، و عارفة إنه حاج أبشر شبعان غير حاج ابشر و هو جيعان بالذات مع مفروكة البامية …الزول دا مرات بشربها عديل زي مديدة الدخن .. و حاجة السرة متأكدة إنه المنادي بكون ناداهم كم مرة لكن أضان حاج أبشر دائما بتسمع الدايرة تسمعوا طالما إنه مجّان عشان كدا ما فرحت ولا زعلت ..اهو أي كلام و ما ماخدها شك في حقيقة مناداة المنادي مادام البتتلقى النداء هي أضان حاج أبّشر و ليست أضانها هي !!
حاج أبّشر كعادته في كل صباح قام بدري بعد صلاة الصبح مباشرة ومشى علي محل شغله.. فتح باب الطاحونتين و العمال بدوا شغلهم .. و هم كلهم اتنين بس .. ( حُمّيدة الأطرش ) و ( سعيد أب كرنك ) و حاج أبشر خمسة دقائق هنا و خمسة دقائق بهناك .. يومه كله جاري زي كلب الحر : ” يلا يا الأطرش شد حيلك شوية .. كيلات الدخن الباقيات ديل أعمل حسابك تطحنن أوّل عشان الحجر بعدين ما يسخّن “.. و نفس الحكاية مع أب كرنك : ” أها يا سعيد .. ( ود عكر ) دا خلطّو بي حبة عيش ابيض و ألا كبيته في الصبابة زي ما هو !؟ ”
و أثناء المساسقة من هنا لي هناك الكهرباء قطعت .. ضرب كف بكف : “لا حول ولا قوة إلا بالله…أهاااا.. ناس الكهرباء قاموا علي جنهم … امس قطعوها تلاتة ساعات .. الليلة كمان دايرين يقطعوها كم ساعة يارب … بالطريقة دي نحن ناكل عيشنا من وين !!”.. الود تقول أكله سمك و ألا شية و ألا سجوك … ما ياها مفروكة البامية و ألّا مفروكة الخدرة بالمصارين .. في الوقت داك حاج أبشر ما كان جائب خبر و مفتكر قطعة الكهرباء دي زي القطعات الروتينية البتحصل من حين لآخر و ماعرف الحاصل إلا بعد ما سمع الخبر من ( عبيد ) بتاع القهوة .. الحرب قامت في المدينة … ” حرب شنو يازول .. انت بي صحك .. الحرب قامت كيف يعني و القال ليكم منو ؟؟!! دا كلام فارغ ساكت .. بلدنا دي ما بلد حروب.. يازول إنت الله ماليك “!!… حاج أبّشر قعد يطمّن في نفسه و ما إقتنع أبدا و مصرّ علي رأيه إنه مافي حرب قامت و ضرب السلاح القالوا عليه دا بكون تدريب ما أكتر من كدا .. عمّك ما أقتنع ولا صدّق إلا تالت يوم لما شاف ناس المدينة جوا نازحين علي الحلة بالميّات !!
و انحصر كل هم عمك في الكهرباء بترجع متين و الطواحين ديل يشتغلن كيف و زعل جدا لما ( السر ) الكهربجي قال ليه محطات الكهرباء و المحولات قالوا إنضربت .. و كورك في السر زي تقول هو الضربا : ” القال ليك الكلام دا منو … انت يا السر شفتها بي عينك و ألا بنيت كلامك علي الإشاعات .. يضربوا المحولات و المحطة كيف و هم ذاتهم بدون كهرباء يحاربوا كيف !!؟؟ “. السر الكهربجي ندم علي كلامه و انسحب بالراحة فات من جنب حاج أبّشر !!
لم يقتنع حاج أبّشر بأنّ الحرب أصبحت واقعاً إلا بعد زمن من إندلاعها و بعد أن قابل العشرات ممن يعرفهم من النازحين و حتى من لا يعرفهم و رووا له حقيقة ما يحدث في أحياء المدينة و في أسواقها و كيف أنهم طردوا من بيوتهم من قبل الغزاة و كيف نهبت ممتلكاتهم و انتزعت أموالهم من قبل المتفلتين الذين باتوا يحملون السلاح … أخبروه بما رأؤوه بأم أعينهم و أن البنوك و الشركات و محلات الذهب و معارض السيارات و المتاجر بكافة أنواعها قد نهبت في وضح النهار و أمام الملأ دون حامٍ يحميها أو رادع يصد كيد العابثين فلا جيش ولا شرطة كان واقفاً يتصدأ لحماية المواطن و يصونه في نفسه و عرضه و ماله و كان كل ما يهم حاج أبشر هو أمر الكهرباء : ” و طيب موضوع الكهرباء دا كيف.. صحيح ضربوا المحطات و المحولات و ألا القطع دا ياهو زي المعتاد ! !؟
بعد أن أيقن تماما أن الحرب مستمرة و لا احد يدري متى تكون نهايتها و أن الغزاة بدأوا الزحف نحو الضواحي و القرى ، بات يحسب ألف حساب و في كل مرة يقول لزوجته غاضباً : ” أها السرة شفتي نجيهتك .. حالتنا دي نوينا الحج السنة دي .. تاني باقي لي إلا نحج في ودالأحد !! ” .. كان يردد مثل هذه العبارة أمامها من حين لآخر و لا تملك المسكينة إزاء ذلك إلا أن تزم شفتيها إلى أن فاض بها الكيل ذات حين فرّدت قائلة و بصوت لم يعد خافتاً كما كان : ” يشهد الله إتلقي الحرب دي وقعت ليك علي جرح..دا كان رصينا وعودك دي صف.. قسماً عظماً كان وصلتنا مكة و من مكة للمدينة !! ” ومنذ أن قالت ما قالت أمسك عن تكرار مثل هذه العبارات .
و لما أصبحت الرؤية أكثر وضوحاً و تواترت الأخبار و كثرت الأحاديث عن حقيقة ما يجري من فوضى و نهب و سلب و قتل لم تسلم منه حتى الأرياف ، بدأ أبّشر يأخذ الأمر مأخذ الجد فذات عصر كان راقداً كعادته على عنقريبه الهبابي و لكن ليس على ظهره كما اعتاد بل كان على جانبه الأيمن و وجهه قبالة الحائط .. أصبح كلامه قليلاً و صمته يطول من يوم لآخر حتى أن حاجة السرة ، و مع علمها بسر معاناته ، إلا أنها كانت تسأله و ربما بدافع الشماتة : ” إنت يا الحاج نعلّك حاسي بي حاجة !!؟ ” فكان يجيبها بصوت تشوبه قوة مصطنعة : ” لا أبداً .. الحمدلله ما عندي عوجة تب.. بس رقدة العصر دي أصلي متعوّد عليها “!! لكن في الحقيقة كان فكره منشغلاً بكيفية تدبير الأمور و ما أن غابت الشمس و مضت حاجة السرة إلى مهجعها حتى أتى بعتلة و بدأ بحفر عدد من الحفر في أماكن متفرقة في ساحة الحوش و أحضر عددا من أكياس من مخابىء لم يكن يعلم بها سواه ليودعها في تلك الحفر ثم يطمرها و عقب ذلك يعمل جاهدا على إخفاء أي أثر للحفر بحيث لا يمكن لأي متطفل أن يستدل عليها أو يعرف مستقرّها و بعد ان أنهى مهمته إنتابته راحة لا حدّ لها حتى أنه طفق يدندن بصوت مسموع ، و لعلها أوّل مرة يدندن فيها منذ عهد الشباب و منذ أن إنخرط في مهمة جمع المال : ” الوافر ضراعه أمنته الرسول..مامون الوداعة.. برّد جيب أبوه ” مع أنه الأغنية بتقول ” برّد دار أبوه ” لكن تبريد الجيب عند حاج أبّشر أهم من تبريد دار أبوه و دار أمه و دار جده القريب لي جده العشرين .
داوم على رحلته اليومية من داره إلى حيث طواحينه حتى في عدم وجود الكهرباء على أمل أن يعاود تيارها السريان في أي لحظة إلى أن عاد التيار فجأة ذات صباح ليصرخ ثائراً و هاتفاً على نحو يناقض شيخوخته : “برضو يا السر تقول المحطة انضربت .. أهو الكهرباء رجعت .. أها جات من وين كان أصلاً المحطة إنضربت !! “… يعني كلام السر الكهربجي القالوا زمااان داك كان مالي صدر حاج أبّشر و ما نساه أبداً مع إنه السر فات من الحلة من زمن ، و مع أن الكهرباء باتت تستمر لساعات فقط و تنقطع لأيام إلا أن ذلك أعاد شيئاً من الأمل في نفس عمكم على الأقل أصبح يأتيه بعض الدخل حتى و إن كان قليلاً لكنه يخفف من وطأة إدمان المال .
مرت أشهر و الأمور باتت تنحدر و تسوء من يوم لآخر و أصبح الأمن مسألة تورق الجميع فقد كثرت هجمات المتفلتين المشكوك في أمرهم و من هم في الأصل فبدأ كثير من المتعقلين يعدون العدة لرحلات نزوح او لجوء لدول الجوار و كانت حاجة السرة قلقة تجاه هذا الأمر فمعظم الأقارب قد غادروا و هي تدرك تماماً أن حاج أبّشر آخر من يفكر في مثل هذا طالما أن طواحينه لا تسير على عجلات و لن تسعها حفرة فلم تناقشه في هذا الأمر و لن تناقشه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا .
ذات مساء كان وجه السماء متجهما ًو برق البرق و هدر الرعد و انهمر المطر كما لم ينهمر من قبل و برغم العواصف و تساقط المطر بغزارة إلا أن ذلك لم يصد حاج أبّشر عن الخروج من غرفته إلى فناء الدار بين حين و آخر حاملاً كشافه اليدوي فيطيل المكوث خارجاً غير آبه بتحذيرات زوجته : ” يا الحاج خاف علي روحك من الالتهاب …خليه الإلتهاب الرعد دا ما بتخاف منه …إنت خائف علي شنو في الحوش !! ” فكان جوابه أنه يراقب ( الجرّاية ) حتى لا تتراكم المياه داخل الدار علماً بأن الجراية ساعتها كانت في أفضل حال و لا شيء يعيق جريان المياه من خلالها و ظل على هذا الحال إلى أن خارت قوّاه فلم يجد بدًاً من أخذ قسط من الراحة إنخرط عقبها في نوم عميق و لم يستيقظ إلا بعد أذان الفجر ليجد أن فناء داره قد تحوّل إلى بركة تجهم وجهه على مرآها حتى عاد كالمركوب القديم فجلس و رأسه بين يديه يقلّب الفكر هنا و هناك ثم مضى يتفقد ( الجرّاية ) فإذا هي سليمة من أي عائق يحول دون تصريف المياه المتراكمة في الداخل و لما خرج إلى الشارع داهمته الحقيقة المرة ، فالشوارع قد حُمّلت فوق طاقتها فكانت كبحر هادر لا طاقة له بالمزيد فآوى إلي داره و هو يعض على أصابعه العشرة وليس واحداً !!
الموية قعدت تلاتة يوم حتى انحسرت..شربتها الواطة يعني و طبعاً الحوش بقى ( طملة ) و طين زي طين ( الباجة ) .. عند ذلك أعلن الحاج حظر التجول داخل الحوش و حدد مسار معيّن لحاجة السرة و منع كمان الزيارات و عشان يتمكن من كدا ختّ ليه ( بنبر ) قدام باب الحوش وقعد عليه و راسه بين إيدينو .. يعني الزيارات تنتهي قدّام الباب و بس . بعد تلاتة يوم أخرى الواطة جفّت شوية و حاج أبّشر عينيه ما بتفارق السماء خوفاً من مطرة تنزل و تجوط الواطة علي العليها…كان بقعد علي نفس الحال ..الراس من كترة وضعه بين اليدين قرّب ينطفق و لم يجد مفرّ من الإستعانة بصديق .. لكن الصديق دا منو !!!… حاج أبّشر في مسألة الفلوس ما عنده صديق و الحفر كتيرة و مسألة تحديد مواقعها أصبحت في حكم المستحيل و لا حيقدر عليها براه ، و طبعاً حاجة السرّة خارج المربّع دا .. طيّب يا ربي الحل شنو!!! .. إتذكّر ( البدير ) ود أخته … نعم مافي غيره…أيوه هو بتاع سجارة لكن عمره ما مدّ ايدو علي حق زول ولا شحد زول ولا جاه يوم يطلب منه دين و لا قعد يوم عاطل .. يعني بإختصار ما زول مادة و فوق كدا زول حقّاني لأبعد مدى … حاج أبشر عارف الحقائق دي عن ود أخته و كان الأقرب ليه من بين الجميع .. أها أثناء قعاده في الشارع شاف ( البدير ) من بعيد : ” يا البدير… البدير..تعال يا زول … وينك اليومين دي ما بتنشاف ” .. و الله يا البدير ولدي محتاج ليك في مهمة فردّ عليه : ” أبشر ياخالي أبّشر .. أعتبرها منتهية “!! و البدير لأنه زي ما قلنا زول حقّاني ما كان بضيف لقب حاج لي خاله فكان بكتفي بكلمة خال فقط . أمسك حاج أبّشر بيد ود اخته و قاده للداخل : ” عارف يا البدير انا عندي كيس دافنه في الحوش من زمااان… و هسه راح علي و قدر ما حاولت ألقى مكانه ما قدرت…فيه قريشات كنت لاميهن للحج أنا و خالتك السرة لكن المنادي ما نادى ” .. أصدر البدير ضحكته المعهودة : ” والله ياخال حكاية مناديك دي ذكرتني بصاحبي علاء الدين .. قول لي ليه !! ” نظر الخال في وجه إبن أخته مبتسماً : ” طيب يا البدير .. ليه !؟ “.. فردّ البدير ضاحكاً : ” أصله علاء دا كان كل سنة بقدّم لي اللوتري و اللوتري يجليه ” !!
حدّد الخال أماكن معينة لإبن أخته لحفرها و لكن دون جدوى إلى أن أشار أخيراً إلى مكان في جانب قصي من السور و يبدو أنه يحتوي على ( الكوم الكبير ) : ” شائف هنااك بتلقى كوز قديم مختوت.. كدي أحفر تحته ” !! تلفت البدير يسار و يمين دون أن يجد أثراً للكوز لكن ظل يحفر في ذات الحيز دون العثور على أثر لكنز خاله أبّشر فوقف مستنداً على مقبض المجرفة تسبقه ضحكته : ” إنت يا خال ما لقيت إلا الكوز عشان تخته فوق مالك.. أها خُم و صُر .. يكون هسه حجّ بي فلوسك دي و كمان يكون أمير حج ” !!
تعالت الأصوات ذات صباح و نادى منادٍ في الناس بأن الدعّامة قد هجموا فلاذ كثير من أهل القرية بالفرار و لكن حاج أبّشر لزم داره و اوصد باب الدار و ظل بجانب زوجته المغلوبة على أمرها و بقى على هذا الحال ليومين إلى أن تفاجأ بأثنين منهم يقفان قبالته وجهاً لوجه : ” يلا يا حاج جيب الدهب و الفلوس العندك و الموبايلات و اتخارج ” .. فردّ عليهما الحاج الذي كان يلبس عراقي ممزق و هو يخرج من جيبه ألفين جنيه و تلفون ريبيكا أكل الدهر عليه و شرب : ” و الله يا أولادي أنا زول علي باب كريم ..دا كل ما أملك و هدا البيت قدامكن .. فتشوا زي ما عاوزين و ان لقيتوا حاجة نافعة شيلوها.. عفو الله و الرسول “!!.. نظر الدعامي في وجه الحاج طويلاً قبل ان يخرج الشريحة من الربيكا ليضعها في تلفون حديث و يقدمه لحاج أبّشر قائلاً له : ” هاك يا حاج ..الضرب علي الميّت حرام ” .
وجد حاج أبّشر نفسه تحت سقيفة في خلاء تتلاطم في متاهاته أمواج السراب مع مجموعة من النازحين و ليس في جيبه سوى الألفا جنيه و التلفون الذي أهداه إياه الدعامي و الذي بات أغلى ما يمتلكه … و كان في كل مرة يحاول تطييب خاطر زوجته بقوله : ” شيلي الصبر يا السرة .. تتسهل إن شاء الله..و المنادي لا بد ينادي ” !! و لما كرر ذلك أكثر مما يلزم قالت له في حدة لم يعهدها فيها من قبل : ” و الله المنادي عرف تب محل يوديك.. ياهو دا المكان المختوت ليك .. ياها قسمتك … خلاء و صي .. أها أحفر و أدفن !! ” .