ملامح من الحياة في كندا (١٢)

حامد بشري
كندا تُرحب بكم
في هذه السلسلة من المقالات حول المجتمع الكندي ، أجد نفسي في موقف غير متسق مع معاناة الشعب السوداني، الذي يرزح تحت نيران القنابل الحارقة والأسلحة الكيميائية الفتاكة ، وتشريد في العراء ، وجوع ، وموت في الصحراء و معسكرات النازحين والمدن ، نتيجة حرب قضت علي الأخضر واليابس، لا ناقة له فيها ولا جمل . أشعر بأستحياء حينما أتناول طريقة الحياة ومعاش الناس في بلدان تتولي فيها الدولة أمر مواطنيها من المهد الي اللحد ، بغض النظر عن اللون والشكل والجنس والعِرق ، كما عبّر عن ذلك الكاتب والقانوني محمد موسي جبارة في أحدي مقالاته حينما وصف أهله السويسرين . أضطررت للخوض في هذا الجانب لتعريف المواطن السوداني الذي وصل حديثاً أو سيأتي مستقبلاً الي كندا ، عسي ولعل أن يجد ولو قليلاً من الفائدة في تجربة من سبقوه الي هذه الديار التي تموت من البرد حيتانها ، كما وصفها أديبنا الطيب صالح .
الكنديون من الشعوب التي تحب الطعام والحديث عنه ، حتي أن بعضهم حينما يفكر في السياحة من ضمن الأشياء التي تجذبه وتشجعه علي الأسفار، إضافة للطقس والمصايف والآثار التاريخية ، أنواع الطعام وجودته وأسعاره . وعلي الرغم من مكوثي في هذه الديار لعدة عقود ، الأ أني أجد نفسي علي النقيض منهم فيما يخص الطعام . وكما ذكرت في مقال سابق ، لم أكن من مرتادي المطاعم لظروف أقتصادية ، وثانياً مردها الي التربية السوفيتيه علي أيام الطلب ، حيث تجد بالكاد في هذه البيئة علاقة تربطها بثقافة المطاعم حتي وصل الأمر في بعض الأحيان أذا تم تناول الطعام خارج المنزل يعتبر مسبة في حق الزوجة أو الأم ، لانه يوحي أن الطهاة في هذه المطاعم علي دراية أفضل مما تصنع أيادي الزوجات .
في الفترة الأخيرة بكندا ، وتحت ضغوط وإلحاح من أفراد العائلة لزيارة هذه المطاعم في المناسبات القومية وأعياد الميلاد ، صرت أرافقهم ، لان تناول الوجبات خارج مكان السكن أصبح جزءً من سلوك الجيل الذي خُلق وترعرع في كندا . وعلي قلة المناسبات التي زُرت فيها هذه المطاعم ، أتضح لي أن هنالك عوامل خفية تقف حاجزاً بيني وبين خلق علاقة ودية معها . بدءاً من أختلاف الآراء وسط أفراد العائلة حول أي المطاعم أفضل ، مما يضطرنا في أحيان لممارسة الديمقراطية لأختيار المطعم الذي يتناسب مع المقدرة المالية . مع ملاحظة أننا ، نُراعي في ديمقراطيتنا المنزلية للذكر مثل حظ الأنثي ، كما لا يجوز للوالدين أستعمال حق الفيتو ، علي الرغم من أنهم يقومون بدفع الفاتورة .
بعد أتخاذ القرار حول المطعم المعين يأتي دور الحجز وموقع الطاولة الجغرافي داخل المطعم لأهميته للعنصر النسائي في العائلة ، حيث يمكنّهن من مشاهدة الأزياء المختلفة للزوار . ثم تلي هذه الخطوات ، أختيار قائمة الطعام من الكراسة التي توشك أن تعادل عدد صفحاتها جزء “عم” . كذلك لا أنسي ، من العقبات التي وصلت بي حد التوجس من الولوج الي هذه الأمكنة ، الصعوبة في نطق أسماء المأكولات التي تُكتب علي هذه الكراسة ، وذلك مرجعه الي عدم الدراية بها حتي صرتُ أهاب الدخول اليها وأتحجج بأعذار مختلفة.
أما في أماكن العمل فأصبح سلوكاً عادياً أن يتفحص زميلك بتمعن طبق الوجبة الذي أتيت به من المنزل ويسألك عما يحتوية . وبطبيعة الحال ، هذا السلوك يتعارض مع تربيتنا السودانية ويندرج تحت مفهوم (العيب) الذي ينهي عن إسترقاق النظر فيما يتناوله الآخرون ناهيك عن السؤال عنه . هذا ما كان عليه حالنا في السودان قبل الحرب ، أما الآن في عاصمة البلاد وحواليها فأن المواطن/ة يكون من المحظوظين أذا وجد ما يُسد رمقه من التكايا التي يجود بها فاعلي الخير. رغم ترحالي الكثير وتذوقي أنواع مختلفة من الأطعمة ، حقيقة لم أجد أطعم وأشهي من طعام وخبز أمي وشهد بذلك الغرباء قبل الأقربين.
في السنوات الأخيرة ، صار الكنديون مهوسيين بالحيوانات المنزلية من كلاب و قطط ، وخلافه . أضحوا يتعاملون معها كأنها جزء من أفراد العائلة ، أذا سألت الشخص منهم عن أفراد عائلته ، بدون تردد يجيبك بأن له زوجة وطفل وكلب . هذه الحيوانات تنام معهم علي الأسِرة ، وتسافر معهم بالقطارات والطائرات ،ويجيبون بها محلات الشراء ، ويطلبون من المخدم أجازة مرضية إذا ألمت بها وعكة ، ويشترون لها الملابس الواقية في فصل الشتاء وبعضها يتم تقبيله كالمحبوبة صباحاً ومساءً . يدربونها علي سماع التوجيهات ، ويطلبون منها أن تفهم اللغة التي تتم بها المخاطبة معها ، ولها نظام تأمين صحي وفاتورة علاج باهظة في حالة الذهاب للطبيب. وعندما يتم إمتلاكها من المحلات التجارية أو المالك يطلبون منه شهادة بأصلها وفصلها ونبذه عن والديها .
قبل فترة وأنا بمركبة عامة ، وفي المقعد الخلفي ، كانت هنالك فتاة تُزينْ عيناها نظارة طبية وبجانبها يرقد كلباً . بعد ان حييتها أطيب تحية ، سألتها عن أسم الكلب ، فرفضت أن تنطق أسمه وكان ردها أنه تحت الخدمة ولا تجوز مناداته . هنا الكل يعمل حتي كلابهم وقد يكون لها راتباً شهرياً . الرأسمالية أبتدعت “هوتيلات” خاصة لهذه الحيوانات في حالة سفر ذويهم في العطلات . أصبح من حكم العادة أن تقتني العائلة المكونة من شخصين ليس كلباً أو قطاً واحداً وأنما عدد لا يستهان به . من الهدايا المعتبرة في أعياد الميلاد أو أعياد الزواج أهداء كلب/ة أو كديس /ة للمحتفي به وهذه تعتبر هدية قيمة . علمت أن رؤساء البيت الأبيض الأمريكي يتعاملون مع صالون خاص لحلاقة كلابهم ، تمتلكه سيدة تسكن في أرقي الأحياء بواشنطن ، يرسلون لها الكلاب بالطائره الرئاسية من مقر منتجعاتهم حيث تقوم بتصفيف شعر الكلب علي حساب دافع الضرائب الأمريكي . وعما قريب سنري كلاباً بتسريحات علي آخر موضة . أما أذا لا قدر الله وأصطدمت بحيوان في حادث مروري فتوقع مرافعة أتهام وعقوبات لا أنزل الله بها من سلطان . وفي حالة الوفاه (كل نفس ذائقة الموت) فيزرف الدمع السخي علي فقدانها .
تعرفتَ كندا علي عادات وتقاليد شعوب العالم المختلفة ليس عن طريق الإستعمار وأنما بهجرة هؤلاء الشعوب وإستيطانهم بهذه البقعة المباركة . لذا تجد معظم مدنها الكبري خليط من الثقافات في المأكل والملبس والمشرب . وفي كل عام تفتح حكومة كندا باب الهجرة لشعوب العالم المختلفة بشروط ومواصفات تتناسب مع حوجة الأقتصاد الكندي والديموغرافي ، حتي وصل عدد المهاجرين في العام الماضي الي ما يزيد عن الربع مليون . وكما ذكرت في المقال السابق تم السماح لعدد ضئيل ومحدود جداً من السودانيين باللجوء الي كندا تحت بند لمّ الشمل . ورغم التنبية الوارد في البرنامج بشروط الكفالة لمدة عام إلا أن المعلومات التي وردت ، أوضحت أن بعض السودانيين الذين وُفّقوا في أكمال الإجراءات والحضور أخلّوا بشروط الكفالة . بعضهم قدّموا طلبات للضمان الأجتماعي قبل أن يُكملوا السنة الأولي التي يجب أن تكون تحت ضمانة الكفيل ، والبعض الآخر عاد الي السودان أو الي من حيث أتي الي كندا بعد أن أستلم وثائق الأقامة الدائمة ، مما يعني بأنه مارس عملية التزوير في المعلومات حين قدّم طلب اللجوء (النسخة المعدلة من رئيس الوزراء) حيث حضر من منطقة آمنة لا تنطبق عاليها أهلّية شروط اللجوء. وآخرون حضروا وتم أستئجار منازل لهم أو سكنوا مع الكفيل في منازل أستوعبت أكثر من سعتها السكانية . الحكومة الكندية وأدارة الهجرة ليست بهذه العفوية والسذاجة التي يمكن أن يتم التحايل والتلاعب بقوانينها . هذا السلوك المخل بالأمانة أجبر السلطات الكندية أن تتباطأ في أجراءات الهجرة للبقية وقد تعيد النظر كلياً في أمكانية إستيعابهم بكندا (الخير يخص والشر يعم) .
أما الذين حضروا الي كندا برفقة أبنائهم وزوجاتهم وبرجوع رب الأسرة الي دول أخري ومنها السودان لممارسة أعماله التجارية أو خلافه ، فقد لا يسمح له بالعودة ثانية الي كندا حتي وأن وصل الي المطارات الكندية . حيث يتم أرجاع الآباء من حيثوا أتوا ويبقي الأمهات والأطفال بكندا . ويتحول البرنامج من لمّ الشمل الي بعثرة الشمل .
في بعض لقاءتنا العائلية نتعرض لمناقشة قضايا عامة ، وفي آخر لقاء الاسبوع الماضي ، تعرضنا لموضوعين: الأول فيما يخص الخلاف بين دونالد ترمب وأيلون ماسك والثاني حول المهاجرين الجدد والتعليم في المدارس الاولية . وضح من النقاش أن هنالك نسبة رسوب عالية وسط أبناء المهاجرين الجدد في اللغة الأنجليزية والرياضيات بعد أمتحان السنة الثالثة أبتدائية كأول تجربة أختبار يُواجه بها التلاميذ . عادة يتم النقل من السنة الأولي الي الثالثة بدون أختبارات . أتفق الجميع أن سبب ذلك الرسوب نتيجة لأنخراط الوالدين في العمل في وقت واحد لتوفير لقمة العيش وليس لهم زمن إضافي يمكنهم من مراجعة دروس الأطفال والأحتمال الثاني هو عدم إلمام الوالدين أو أحدهما بلغة التخاطب في هذا الجزء من العالم . لذا من المهم التوفيق بين الأحتياجات الأكاديمية للأطفال في هذه السن المبكرة وبين السعي لتوفير لقمة الخبز . كذلك من الضروري تعلم أبناء وبنات القادمين الجدد الذين يودون الإستيطان بمحافظة كويبك أو العاصمة أتاوا اللغة الفرنسية .
الكنديون شعب مسالم ويحب الخير والسلام ، لذا تجد الماره بدون سابق معرفة يرحبون ببعضهم البعض ويتبادلون التحايا : صباح الخير ومساء الخير في المركبات العامة وفي المحطات وأماكن الخدمات . ويشكرون بعضهم البعض لأصغر خدمة تُقدم ، بينما نحن نقتل بعضنا البعض لأتفه الأسباب كما جاء علي لسان الرئيس الهارب . الشكر عند الكنديين ، يبدأ من فتح الباب للشخص الداخل أو الخارج وأنتهاءً بأي خدمة تقدم للزبون حتي وأن كانت عن طريق الهاتف . كذلك من خواص المجتمع الكندي أحترام وتقدير النساء والأطفال وكبار السن . من الواجبات المهمة التي يجب أن نعّود عليها أطفالنا ضرورة أفساح المجال والتنازل من المقاعد في المركبات العامة لكبار السن . الأشخاص المعاقون يجدون كل تقدير وأحترام وبعضهم يشاركك الفصل الدراسي وأماكن السكن والعمل . أذا أرتكب الفرد خطئاً عليه أن يعتذر ويتأسف . الأعتذار بالنسبة للكنديين قمة الأعتراف بالخطأ . وكما جاء في الأثر: الأعتراف بالذنب فضيله . وللخروج من كل كربة وضيق أنزل الله تعالي في سورة الأنبياء هذه الآية :” وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ” . من الأشياء التي تسترعي الأنتباه ، وخاصة في المحلات التجارية ، أن تجد في السوبرماركت بعض الفواكه والخضروات بدون تغليف ، يجب تنبيه الأطفال الجدد لعدم تذوق أو أخذ أي بضاعة من المحل قبل دفع ثمنها، هذه قد تعرض الطفل لمحاسبة غير محمودة العواقب .
في بعض الأحيان ، عندما أرافق زوجتي للسوبرماركت ، وبعد أن ندفع المبلغ المحدد لقيمة المشتروات لاحظت أنها تقف فترة لمراجعة الفاتورة ، وكنت علي يقين في أنها مضيعة وقت لا جدوي منها . أنتبهت الي انها تحفظ أسعار المواد التي كانت علي الرفوف وتم شراءها ومن ثم تقارنها مع الأسعار المكتوبة علي الفاتورة . وفي حالات كثيرة بعد المراجعة يظهر الفرق بين السعرين . السعر علي الفاتورة هو الأعلي ، والسبب في ذلك أن تخفيضاً تم علي قيمة البضاعة ولم يصل إخطار بعد لمحل الدفع لتغيير السعر . وحينما أسجل أعتراضي علي موقف الزوجة لان الفرق لا يتعدي بعض السنتات أو حتي الدولارات ، يأتي ردها في الحال ، هل يسمح لك المحل بأخذ البضاعة أذا نقص من سعرها سنتاً واحداً ؟ حينها أقتنع بهذا المنطق رغم ضياع جزء من الوقت في هذا الاجراء . حكي لي أحد الأضدقاء أنه أستلم في البريد شيكاً مطبوعاً وفي مظروف بريدي بمبلغ واحد سنت من محل تجاري كبير لخطأ أرتكبه المحل في السعر مع الأعتذار عن الخطأ الذي صاحب القيمة . تجدر الأشارة الي أن قيمة الظرف والطابع البريدي تفوق بمراحل السنت الذي تم أرجاعه .
مفارقات من الحياة في كندا : المنازل السكنية في رأي ، قد تكون من الأسباب التي تؤدي الي تخفيض أعمار المواطنيين علي الرغم من عدم وجود دراسة علمية موثقة بهذا الأكتشاف ، وذلك نتيجة للخدمات والتكلفة الضرورية التي تتبع هذه المساكن ، إضافة الي أسعارها التي وصلت الي أرقام فلكية . هنالك بعض حالات الأنتحار التي تمت بسبب عدم أيفاء المالك بالديون المترتبة عليه من المنزل وتكلفته .
وحتي لا يفاجئني الخريف هذا العام كما هو الحال في دولة السودان ، قمتُ بتغير (سبلوقات) بالمنزل ، مع العلم بأن المالك لا يستطيع تغير السبلوقات بمفرده الأ أذا كان متخصصاً ، لذا من الضرورة إستئجار شركة للقيام بهذا العمل ، لأن العامل أو الفني الذي يقوم بالتغيير المطلوب منه أن يرتدي زياً وحذاءً مخصصاً يقيه من السقوط من أعلي المبني ، كما يتطلبُ منه تأمين علي حياته إضافة لرخصة مزاولة المهنة . تغيير سبلوقتين كلف ستمائة دولار وبقية واحدة بحالة جيدة بعد أن تم فحصها. المكيف بالمنزل عمل لفترة تجاوزت العشرين عاماً وأنتهي عمره الأفتراضي . شراء وتركيب مكيف جديد يكلف سته الف دولار . وصول أي فني لمعاينة أي من الأعطال داخل المنزل قبل أن يبدأ في التصليح وطلب الأسبيرات : مائة دولار علي أقل تقدير ، الأعمال اليدوية أسعارها باهظة لذا علي المهاجرين الجدد المحافظة علي هذه المنازل سواء أستأجروها أو أمتلكوها .
وفي الختام كندا ترحب بكم