المقالات والآراء

أمل تحت السيطرة حكومة لإدارة الفراغ، لا الدولة

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.

خطاب كامل إدريس لم يكن إعلانًا لتشكيل حكومة، بل إيذانًا بفراغٍ يتكلّم. بلا خارطة طريق واضحة، ولا ملامح حقيقية للسلام، ولا أدنى تفويض شعبي، تهاوت الكلمات المطمئنة على أنقاض وطن ينهار. غابت أي إشارة للحرب، أو التزام بالسلام، أو حتى تعريف لمفهوم (الانتقال) المنشود. كانت مجرد قائمة وعود هادئة، تُلقى على شعب ممزق، كبيان إداري يُتلى في جنازة سياسية.

حين تتحول الحرب إلى النظام الفعلي، لا مجرد انحراف عنه؛ وحين يُختار رئيس للحكومة لا ليحكم، بل ليكون واجهة تُغطي غياب السلطة الحقيقية، وحين تُؤسّس (الشرعية) على ركام الانهيار لا على إجماع وطني، عندئذ لا نكون أمام بداية جديدة، بل أمام هندسة متقنة للفراغ، تُقدم بقناع مدني زائف.

تعيين كامل إدريس، في هذا السياق، لم يكن فعل حكم، بل إقرارًا صريحًا بأن المنظومة القائمة فقدت حتى القدرة على إنتاج سلطة صالحة للاستخدام المؤقت. لم يُستقدَم إدريس بفضل رؤية يمتلكها، بل لكونه لا يمثل تهديدًا لمن يحتكرون كل الرؤى والقرارات. قصته ليست قصة تكنوقراط مستقل، بل حكاية وظيفة تُؤدَّى داخل مسرح منهار، مهمتها تجنيب أصحاب القرار صخب الفعل السيادي المباشر، وتمديد عمر الشلل الوطني بلغة بيروقراطية خالية من أي مضمون سياسي.

البرهان لم يعيّن حكومة لقيادة البلاد، بل لإعادة تدوير الانهيار القائم. هذا الواقع اتضح جليًا منذ اللحظة الأولى لخطاب إدريس، الذي لم يأتِ بأي وعد بتحول حقيقي، بل قدم نسخة طبق الأصل من الصمت المنهجي الذي يحكم البلاد. لسنا أمام نقطة انطلاق، بل حلقة جديدة في سلسلة تدوير سلطة متهالكة. ليس صدفة أن الخطاب أغفل تمامًا ذكر السلام، أو الإقرار بواقع الحرب المدمرة، أو إظهار أي نية للتفاوض. بدت كلماته وكأنها رسالة ضمنية تقول(دعوا الحرب لأهلها، وسأتولى أنا ترتيب الواجهة). ففي نظام تتولد فيه السلطة من رحم الحرب، يصبح السلام نفسه ليس مجرد غياب، بل تهديدًا بنيويًا يجب تحجيمه.

كل مكونات هذه الحكومة مصممة بذكاء للإبقاء على الأزمة قيد الإدارة لا قيد الحل. هي لا تَعِد بتحولات جذرية، بل تُسوق التآكل المستمر للبلاد وكأنه (مرحلة انتقال). إدريس يتحدث عن مكافحة الفساد بلا أدوات حقيقية، عن الاستدامة بلا سيادة فعلية، وعن رفاهية في بلد لا يُعرف أين تبدأ حدوده الإدارية وأين تنتهي مؤسساته.
ولسخرية القدر، أقرّ إدريس بنفسه في خطابه بخمس علل رئيسية تضرب كيان الدولة السودانية. الفساد، ضعف السلطة، انعدام الثقة، تفكك النسيج الوطني، وعدم قبول الآخر. لكن المفارقة الصارخة تكمن في أنه لم ينتبه إلى أن الحكومة التي يترأسها تجسّد بذاتها كل هذه الأعراض. وكأن خطابه لم يُقدم بهدف معالجة الواقع، بل لإعادة إنتاجه بعبارات مموهة تخفي حقيقته.

في الخرطوم، الاختناق بالكوليرا هو الواقع. في أم درمان، الجوع سيد الموقف. في دارفور، القصف لا يتوقف. ومع ذلك، يتحدث البيان عن (التنمية العادلة) و(الحوكمة الرشيدة)، وكأن الانهيار الشامل يُعامل كخطأ بسيط في التوصيف الإداري، لا كسقوط مادي لدولة بأكملها.

وكيف لـ(الرفاهية) أن تعبر خطوط النار والدمار؟ كيف ستصل إلى أمٍّ في نيالا لا تملك وثيقة ميلاد لابنها؟ أو إلى أسرة تُقصف في (الكومة) لمجرد أنها تعيش في حيٍّ صُنّف (حاضنةً للدعم السريع)؟ ماذا تعني الرفاهية في مناطق حُرِمَت من الامتحانات ومن استخراج الأوراق الثبوتية، وقُطعت عنها خدمات الإنترنت والاتصالات، وتُركت تواجه الغارات الجوية كعقاب جماعي؟ وفي مناطق سيطرة الجيش، يصطدم القادمون من الغرب بـ(قانون الوجوه الغريبة) غير المعلن، لكنه نافذ بقوة الأمن والصورة. هؤلاء ليسوا مواطنين في عيون النظام، بل مجرد ملفات أمنية متحركة. هذه المآسي ليست استثناءات، بل الصورة اليومية لحياة لا تصلها يد الدولة ولا تنقذها أي وعود. لا رفاهية تعبر النيران، إلا إذا كانت نكتة ثقيلة تُؤدَّى بعبث بيروقراطي بلا شهود.

حتى مصطلح الاستدامة، الذي زُجّ به في تسمية وزارة البيئة، لا يستطيع حجب الغياب التام لأي التزام بالعدالة البيئية. لم يتحوّل غرب السودان إلى معمل سري، بل إلى مسرح موت علني. الهواء مسموم، المياه ملوّثة، المحاصيل محترقة، والحيوانات نافقة. أما العاصمة، التي كانت ذات يوم مختبر السودان الإيكولوجي، فقد انهارت إلى مدينة طوارئ منهكة، لا ترى الكهرباء إلا ومضًا عابرًا في ليل طويل. وكل هذا الخراب لا يُقابله لدى إدريس أي خطة إنقاذ، أو حتى اعتراف بحجم الأزمة، بل يكتفي بتعديل لافتات الوزارات، وكأن ما ينهار هو المصطلح، لا الدولة نفسها.

وخارج الحدود؟ المشهد لا يقل ضبابية. لا خارطة طريق دبلوماسية، ولا تعهدات سيادية، ولا حضور دولي يمكن الاعتماد عليه. إنها حكومة بلا ملامح قانونية، بلا اتفاق سياسي داخلي، وبلا رؤية واضحة، فبأي اعتبار ستُعامل دوليًا؟ وأي سفير سيتعامل معها كممثل لكيان سياسي يدرك أنه لا يملك من أمره شيئًا؟.

وهكذا يظهر إدريس في لحظة تاريخية لا تحتمل أنصاف الحلول أو المواقف الرمادية. طُلِب منه أن يملأ مقعدًا لا يملك مفاتيحه، وأن يوقّع على مستقبل ليس من صُنع يديه. لم يُعيَّن لأنه يحمل مشروعًا حقيقيًا، بل لأن المشروع الحقيقي (وهو الحفاظ على سلطة الوضع الراهن) لا يُقال بصوت مرتفع. إنه لا يرأس حكومة حقيقية، بل حامل لملف مغلق يُسند إلى صدره، لكنه لا يُفتح أبدًا.

هذه ليست حكومة مدنية بالمعنى الحقيقي، بل هي نقطة اتصال باهتة بين الحكم العسكري المباشر والدولة العميقة الخفية. إنها مجرد نسخة ناعمة من عملية إعادة إنتاج للمركز المسيطر، وليست محاولة لاستعادة الدولة من براثن الانهيار. لا سلام يلوح في الأفق، لا مساءلة عن الجرائم، ولا حتى اعتراف دقيق بماهية الشعب ومن يمثله في هذه الظروف العصيبة.

في المحصلة النهائية، لسنا أمام بيان سياسي حقيقي، بل أمام هندسة باردة للفراغ، مصمّمة بعناية لكي تظل الأمور (قيد الإدارة) دون أن تُثير قلقًا جوهريًا لأحد. ليست الحكومة هي من ستنهار في هذا السياق، بل فكرة (الانتقال) نفسها، حين يُعاد تدوير الخراب المستمر باسم الاستقرار المزعوم.

وفي مدن مثل الفاشر وزالنجي والجنينة، لا أحد يسمع صوت إدريس، ولا ينتظر توقيعه أو بياناته. هناك شعب بأسره خارج نطاق الخدمة، لا تصله إشارة (الأمل)، بل موجات متتالية من القصف والتطهير العرقي والعطش الجماعي.
فأي رفاهية هذه التي ستعبر خطوط النار لتصل إلى طفلٍ لم يعرف المدرسة يومًا؟ أو أمٍّ لا تملك وثيقة تُثبت بها هوية ابنها؟ بل أي حكومة هذه التي تدّعي الزهد والتضحية بينما تغض البصر عن مأساة إنسانية بهذا الحجم الفادح والوضوح الصارخ؟
والنتيجة، كما كانت وكما ستبقى؟
(حكومة أمل) بلا أفق، بلا حلفاء، بلا عمق جماهيري، تمضي نحو المجهول، مثقلة بأثقال تناقضاتها، ومحاصرة بلا حول ولا قوة بين أحذية العسكر والمكاتب البيروقراطية للتكنوقراط.

‫2 تعليقات

  1. أخى محمد هاشم محمد الحسن اصبت كبد الحقيقة لك التحية، هذا الكميل أدرس لن يفعل شيء سوف يغادر كما أتى، هو فقط متنطع ،ليس إلا.

  2. وما هو دوركم انتم يا إعلام الخراب فى كل الذى قلت مطالبك ما تتحقق إلى يكون لكامل إدريس عصاة سيدنا موسى عليه وعلى رسولناافضل الصلاة والسلام
    نسأل الله له التوفيق والنجاح وان يكفيه شركم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..