المقالات والآراء

إستراحة الجمعة: بين العم عبدالله والكابلي!

حكايات من القرن الماضي: بين العم عبدالله والكابلي !

الليل عاد والشوق زاد، اذكر جدتي بملابسها البيضاء جالسة في غرفة جانبية يملأها ضوء الصباح المتسرب من النوافذ الكبيرة، وتعبق برائحة الحقول، رائحة الخبز الساخن ورائحة القهوة الطازجة بالجنزبيل، عبر الزمن يبدو ايقاع الحياة مختلفا، خاملا، يبدو الزمن مرئيا، شفافا، مخلوطا بالضوء، ورائحة النوار، نوار النيم ونوار الليمون ونوار المانجو، صوت الكابلي الذي يتسرب مثل الحلم عبر الازمنة، يتردد في موجات ضوئية تغمر غرف البيت وفنائه الواسع المفروش بالرمل الاحمر ، تصطدم بالغرباء الذين يعبرون فناء البيت حاملين امتعتهم القليلة في متاهة الرحلة اليومية الى المجهول..

في الخارج في المضيفة التي تحيط بها اشجار النيم واشجار الاركويت، أري العم علي جالسا يفترش الارض بجوال الملابس التي يعرضها للبيع، سراويل من قماش الدبلان، وجلاليب من قماش التترون، يتوقف دائما هناك ويخلد للنوم بمجرد ان يطأ جسده الارض، يبقي في انتظار ان تمر سيارة عابرة، أيا كان اتجاهها فهو على استعداد ليستقلها، لديه مشاوير مؤجلة شمالا وجنوبا، يستغل اصحاب السيارات غفوته وينطلقون لا يلوون على غبار..

اذكر ان الوالد لم يكن يحبه، لم تكن لديه معه مشكلة ما، كان يراه فضوليا يقتحم البيوت دون احم او دستور، مرة كان معنا عمال يحفرون بئرا ارتوازية وسبّب وجودهم هلعا تنظيميا في البيت، سعيدة تعوس الكسرة وزينب دكر تجلب الوقود، ووالدتي تعد الملاح، ونحن نساعد في كل شيء، في خضم الزحام جاء من يقول ان عم علي في الخارج، كان الوالد يبحث في تلك اللحظة عن فكة جنيه ليدفع عشرين قرشا لحطّاب أحضر ثلاثة أمتار من الخشب، حين سمع ان عم علي في الخارج أعلن علي الفور : سأذهب لأطرده!.

ذهبنا من خلفه لنتفرج على المشاجرة، لكننا وجدنا الوالد يجلس معه فيما عم علي يحسب فكة الجنيه: ستين، خمسة وستين، سبعين، خمسة وسبعين، وقال الوالد حين رآنا: اجروا جيبوا الفطور.!

كانت تلك بداية صداقة بينهما لم تعمر طويلا بسبب وفاة العم علي المفاجئة ، بسبب عشقه الازلي للسيارات، وفي النهاية صدمته سيارة كومر قديمة خالية من الفرامل وبها ماكينة ضخمة تكفي لإطلاق صاروخ باليستي .

كنا نتحلق حول العم علي في انتظار ان تمر سيارة، يحاكي اصوات الحيوانات، ويحكي قصة الضفدعة الصغيرة التي تنادي امها بلهجة الضفادع: يمة شيليني !

فتقول الام، شايلة ابوك! فيقول الصغير الماكر: فوق راي!

جمال المزارع الشاب الذي كان يطمح لتغيير حياته يبيع الخضروات التي يزرعها للعابرين وللغجر، وفي النهاية افلست تجارته فقد أحب إحدى بنات الغجر، وبسبب ضعف قلبه تم استنزافه اقتصاديا، فكان يبيع لهم الجرجير والملوخية دون مقابل او يحصل على مقابل عاطفي لا يمكن احصائه مثل النقود.

في عطلة الصيف نتوزع لرعاية البهائم، كان لدينا بقرتين وعدد من الاغنام والضأن، تحتاج المزرعة لجهد كبير لسقي اشجار النخيل، منذ مطلع الثمانينات ظهرت موجة الجفاف التي ادت الي تراجع منسوب المياه الجوفية، فبدأت اشجار النخيل تجف، كانت تلك علامة سيئة، فمحصول التمر هو الشيء الوحيد الذي يحصل عليه الناس هنا دون تكلفة، بينما تكلفة الانتاج الزراعي عموما عالية جدا، فعلي المزارع ان يحرث الارض ويجهزها، وعليه تركيب طلمبة تسحب الماء من بئر عميقة يجب تنظيفها سنويا وعملية التنظيف مكلّفة يقوم بها مختصون، كذلك لابد من استخدام محرك ديزل لسحب الماء، قطع غيار المحركات غالية ويستهلك المحرك الكثير من الوقود، وبسبب بدء تراجع القوة الشرائية بدا الناس في شراء قطع الغيار الهندية لوابورات الليستر الانجليزية. قطع الغيار الهندية رخيصة الثمن لكنها لا تعمّر كثيرا ويجب استبدالها كل فترة بعكس قطع الغيار الانجليزية التي تعمّر لسنوات. الغريب ان البضاعة الهندية ظلت تتراجع جودتها حتى أصبح عاديا في تسعينات الانقاذ ان تشتري قطعة الغيار الهندية وتقوم بتركيبها ثم تكتشف انها لا تعمل! أذكر أحد اقاربنا كان يكره قطع الغيار الهندية لكنه مضطر لاستخدامها بسبب رخص ثمنها، قضى ليلة في المدينة بسبب مرض شقيقته في المساء طلب ابنائه بعض المال للذهاب الى السينما، سألهم عن الفلم الذي سيذهبون لمشاهدته فأعلن أحدهم: فلم هندي!

أعلن قريبنا:

الله يلعن الهنود ويلعن اسبيراتهم!

حين بدأت اشجار النخيل تجف، قام قليل من المزارعين بمحاولة سقيها او زراعة علف حولها في موسم الصيف الحار، لكن الاكثرية تركوها تواجه مصيرها المحتوم، وفي السنوات الاخيرة كان محزنا ان تري مشهد آلاف الاشجار وهي تجف وتموت واقفة او تسقط بسبب الرياح، الغريب ان ما حدث لأشجار النخيل، تكرر بنفس الطريقة المأساوية علي الناس في المنطقة عموما، اعتاد الناس هنا ان يعيشوا في هدوء يزرعون ما يكفيهم ويساعدهم انتاج النخيل، يربون الضأن والماعز للاستفادة من اللبن وللطوارئ لبيعها ان استدعت الظروف السفر، لدى وفاة قريب عزيز بعيد عنهم او زواج قريب عزيز ايضا في الخرطوم او اي مدينة اخري، او كمصروفات للأولاد الذين يقبلون في مدارس بعيدة، لم تكن هناك هموم كثيرة، حين يمرض احدهم كانت الدولة تدفع تكلفة العلاج، وكان التعليم حتى جامعة الخرطوم مجانا.

منذ مطلع التسعينات القرن المنصرم، تبدلت الاحوال بعد وصول تجّار الدين الى السلطة عبر الخديعة والانقلاب على النظام الديمقراطي المنتخب. عانى الناس العوز الشديد للمرة الاولي، بعضهم سحب اطفاله من المدارس بعد ان اصبحت مجرد شركات وشاهد الناس للمرة الاولي العلم معروضا للبيع، وأصبح العلاج مكلفا، ورُفع الدعم عن الوقود وكل السلع، قبع الكثيرون داخل بيوتهم، حتى لا يمدون يدهم طلبا للمساعدة، ومات الكثيرون، واقفين مثلهم مثل اشجار النخيل. .

الطاهر العاشق للموسيقي خاصة أغاني الطمبور، كان يحب اغاني الفنان النعام ادم وحتى لا يسرق أحدهم شرائط الكاسيت التي تحوي اغنياته كان يقوم بدفنها ارضا، كنا نقول له ان التراب سيتلف الشرائط، لكنه كان يصر على ان تلك الطريقة الوحيدة المضمونة لحفظها.

عوض يتحلق حوله الناس في ايام وليالي الصيف يحكي مقالبه وحكاياته، ذات مرة كان الناس يسمرون في حلقات حول اشجار النيم، حين سمعوا فجأة صوت نهيق حمار الحاج عبدالله المميز وفي لحظات ولي الجميع الادبار واختفوا داخل نبات الذرة، كان الحاج عبد الله عليه رحمة الله رجلا من افاضل الناس، كان يتولى القيام بالأعمال الخيرية، بناء المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية، ولأن عين الحكومات كانت دائما بصيرة في تقديم الخدمات ويدها قصيرة، وان كانت دائما طويلة فيما يختص بملاحقة الناس وقطع ارزاقهم، كان الحاج عبدالله يعتمد في الخدمات التي يقدمها علي المساعدات القليلة التي يحصل عليها من الأهالي او من المغتربين خارج الوطن .

وقد حكي لي مرة انه ذهب في زيارة للسعودية للحصول على دعم من المغتربين وكان آنذاك يقوم بالعمل في انجاز مشروع مستشفى في منطقة السير القريبة من مدينة ارقو، كان المغتربون الذين تبنوا دعم المشروع من البداية قد شعروا ان مشروع البناء سيستمر الى الأبد، فقرروا التوقف عن دعمه حتى يتم اعلان موعد افتتاح المستشفى، لم يكن هناك في ذلك الوقت واتساب او فيسبوك فلم يعرفوا ان الحاج قام حين شعر ان زيارة طلب الدعم غير مرحب بها، بافتتاح المستشفى على عجل قبل سفره بأيام قليلة. تم كل شيء بسرعة حتى انه لم يتسن العثور على شريط قماشي فوضعوا بدلا من ذلك قطعة حبل من ليف النخيل قام المسئول بقصها وسط تصفيق الحضور.

وفي الاجتماع الذي ضم الوفد مع المغتربين وقف أحدهم وقال:

نريد ان نعرف متي يتم افتتاح هذا المستشفى؟

قال الحاج للسائل واسمه عبدالله:

اهنئك يا عبدالله لقد تم افتتاح المستشفى وجاء والدك وامك ورقدا فيه ستاشر يوما وخرجا !

سكت عبدالله علي الفور ولم يتكلم مرة اخري .

نهض اخر وقال: لماذا احضرت في وفدك صلاح هذا رغم ان الجميع يعرفون أنك تختلف معه وان بينكما مشاكل.

قال الحاج عبدالله:

صلاح لم يدخل معنا موضوع المستشفى فلم يأكل شيئا، فشال حالنا في كل مكان، جبناه معنا ليأكل شيئا ويمسك خشمه !

فمسك الجميع خشومهم وان لم يستطيعوا الامساك بجيوبهم. !

نعود لعوض ، حين سمع الناس صوت حمار الحاج لاذوا بالفرار خوفا من اجبارهم على دفع التبرعات بسبب ضيق ذات اليد، وجد عوض عمه الحسن وكان ضريرا فأشار له ليجري على اتجاه عكس الاتجاه الذي كان يجري فيه الضرير، كان هو نفس الاتجاه الذي سيأتي منه الحاج.

فيما كان الرجل الضرير يجري استوقفه شخص ما وسأله لماذا يجري.

قال الرجل الضرير: الحاج عبد الله ما جننا كرّهنا العيشة.

قال السائل: انا حاج عبدالله !

فقال الرجل الضرير: الرجل الطيب!.

عوض اشتهر بمقالبه وذات مرة وكان لا يزال صبيا أيقظه والده في الرابعة صباحا ليحلب البقرة وكان معهم ضيوف

استيقظ عوض منزعجا وقال:

يا ابوي الدنيا لسع بدري والبقرة ذاتها لسة نايمة !

تراجع الاب مصدقا ان البقرة قد تكون نائمة ولا داعي لازعاجها بهذا الامر غير الهام !

حكي لي الحاج عبدالله انه بعد ان قامت حكومة نميري بحل الادارة الاهلية وعينت بعض الاعيان كقضاة شعبيين انه تم تعيينه كرئيس للمحكمة الشعبية وفي اول قضية يفصل فيها، كانت الشاكية امرأة دهشت حين وجدته يجلس في مقعد رئيس المحكمة وكانت تعرفه ويبدو انها لم تكن تسمع جهاز الراديو فلم تسمع بحل الادارات الاهلية .

قالت له هل اصبحت القاضي؟

فقال نعم .

قالت له: مكان الشيخ الزبير؟!

فقال نعم

قالت له: سبحان الله !

وسكتت قليلا قبل ان تردف باللغة النوبية وهو يجلس مستمعا لها :

البحر لامن يبقي خسيس الحمار كمان بيخوضو !

لم يشأ أن يبدأ حياته (القانونية) بمحاكمة امرأة بتهمة إهانة المحكمة الموقرة، فتجاهل تعليقها الحماري وكأن شيئا لم يكن.

حكي لي حاج عبدالله انه حضر احتفال استقبال اول والي يعين في الولاية وحضر الحفل أحد رموز الانقاذ، طلب الحاج ان يشارك بكلمة وحين جاء دوره قال : زمان كان لامن دايرين يشتمونا يقولون لنا : إلهي ما تلقي الوالي : الحمدلله هسع واشار للوالي : أخيرا لقينا الوالي !

قال ان الرمز الانقاذي سأله من اين تعلمت هذه الفصاحة يا حاج؟

فقال له : انا في العمل العام اكثر من خمس وخمسين سنة وماجيت ناطي فيه بعكاز ذيك !

ذات مرة كنت في السوق سوق مدينة السير، كانت السنوات قد مرت وعملت معلما في مدرسته الثانوية، سمعت في السوق ان رجلا من القرية ينتمي لجماعة أنصار السنة المحمدية معتقل عند جهاز الامن وانه يتعرض للتعذيب هناك، بعد عودتي من السوق ذهبت للمدرسة فوجدته يجلس امام بيته تحت ظلال شجرة المسكيت، قلت له بصفتك رئيسا للجنة الشعبية للقرية هل ذهبت تسأل عن اسباب اعتقال الرجل، فقال لي ببساطة اسأل عنو؟ انا البلغت عنو! !

قلت له كيف ؟

قال لي انه حدثت مشاجرة في المقابر، حين لام مواطن من حزب الحكومة مواطن من جماعة انصار السنة لانه لم يقدم له واجب العزاء في ابنه الشهيد وكانت هناك مشاكل واحتكاكات بين انصار السنة والكيزان، فرد عليه انصار السنة بجفاء: القال ليك هو شهيد منو ؟

تدخل الحاج لتهدئة الموقف باعتباره كبير البلد لكن أنصار السنة المنفعل لم يعره اهتماما، او احتراما فكانت النتيجة انه وجد نفسه بعد يومين يواجه العذاب الدنيوي في جهاز الامن!

قلت له يا حاج انت مالك ومال مشاكل الجبهجية وانصار السنة ، خليك في حالك بعدين انت ذاتك ما عندك مشكلة مع اي زول لكن انا شايف ان استاذ عثمان (وهو احد الرموز الكيزانية في القرية) دافرك في الكلام دة، وختمت قولي: الكوز دة قاعد يلعب بيك!

اغضبه كلامي فقاطعني: صلي علي النبي يا خينا، والله ابوه ما يلعب بي!

حاولت ان اتحادث معه لحل موضوع المواطن المعتقل لكنه لم يصغ لي ، فذهبت لأستاذ عثمان سكرتير اللجنة الشعبية : قلت له هل لديك علم ان الحاج ابلغ رجال الامن عن هذا الرجل المعتقل باسم اللجنة الشعبية، انكر علمه وقال لي انه سيستوضح منه الامر.

في اليوم التالي أبلغني انه سأل الحاج وقد أنكر الحاج انه قال لي ذلك بل حلف بالطلاق!

بعد الظهر جئت للمدرسة، كنا نقوم بدورة تقوية صيفية للطلاب وجدته يجلس امام البيت في ظلال شجرة المسكيت حين رآني من علي البعد قال لي : اها جايي تتم البديتو !

قلت له وانا امضي في طريقي للمدرسة: والله انا ما عارف لكن واشرت الي بيته حأرسل لي اهل المرة دي يجوا يسوقوها !

تركته يضحك وفي اليوم التالي عرفت بإطلاق سراح الشخص المعتقل .

جمال معلم البناء الماهر والفنان، يملك موهبة فطرية في عمله، لم يقرأ فنونا او يتعلم شيئا سوي كما حكي لي دروس المدرسة التي لم يكن فيها سوي مدرس واحد كان يعطيهم دروس اللغة العربية باللغة النوبية!

وذات مرة في حصة التربية الاسلامية سألهم بصوت جهوري وبلغة عربية فصيحة: متي توفي النبي صلي عليه وسلّم؟

تمت ترجمة السؤال في البداية الي الاندادي (النوبية) فنهض طالب كان يعاني بعض التخلف العقلي وصرخ :

لا حول ولا قوة الا بالله، النبي تي ديكو ؟

وترجمتها: لا اله الا الله هل توفي النبي (ص)؟

ويبدو انه لم يسمع بذلك، كان عاشقا للزلابية وفي طريقه للمدرسة على الحمار كان يشعر بالتعب احيانا من ثقل الاشياء التي يحملها: الطبق الضخم الذي يحمل فيه القراصة والزلابية اضافة لخرتاية الكتب، ولكي يتمكن من مواصلة المشوار كان يتعين عليه التخلص من بعض ما يحمل، كان يتخذ القرار دون تردد فيلقي بخرتاية الكتب ارضا! والمؤكد انه لدي عودته كان يجدها في نفس المكان فليس هناك كائن يرغب في سرقة كراساته المليئة بعبارات اعد وقابلني والرجاء احضار ولي امرك! والواقع انه فعل ذلك مرة واحدة واحضر ولي امره، وكان خاله، حضر شخص ضخم الجثة يتطاير الشرر من عيونه ويتأبط عصا ضخمة من النوع الذي ينتهي بكعكة في اخره، حتى ان المدير اضطر للاعتذار له!

حكي لي جمال ان المدير كان يحضر احيانا خاصة في يوم الخميس سكرانا دون رغبة في الدخول للمدرسة، كان يجلس فوق حماره بجانب جدار المدرسة وينادي على أحد الطلاب: يا ولد دق الجرس.

وحين يصطف الطلاب في الطابور، يدير هو الطابور من فوق حماره: صفا .. انتباه.. صفا .. انتباه. الي الفصل دور، ثم يعلن وهو يضرب حمار مغادرا: إذا تأخرت في السوق دقوا الجرس وروحوا !

كان في الفصل صبيين ابناء عمومة عوض والسيد جدهما اسمه ابوشوك، عوض كان ضئيل الجسم فاسماه الاستاذ ابوشوك كنة اي ابوشوك الصغير وكلمة كنة بالنوبية ربما أفضل كلمة لترجمتها هي قلّيّل بتشديد اللام والياء !، والسيد كان ضخما فاسماه المدرس أبوشوك دول! اي ابو شوك الكبير او المانع. وكان السيدان كنة ودول يجلسان دائما في الصف الاخير بجوار بعضهما، حيث يعمل السيد دول في اوقات فراغه كحارس شخصي لابن عمه السيد كنة والذي بسبب صغر حجمه يتعرض احيانا لمضايقة فتوات المدرسة من الطلاب الذين نسيهم اهلهم في المدارس او اصبحت المدرسة لهم مجرد برنامج يومي أبدي .

في حصة الحساب اثناء العذاب الازلي المسمي جدول الضرب اعلن الاستاذ : كم حاصل ضرب

6 في 7

ثم نادي علي الطالب الذي يجب ان يجاوب علي السؤال : ابوشوك دول، فقال ابوشوك دول بصوت ضخم : 16 !

فنادي الاستاذ: ابوشوك كنة !

فرد بصوت رفيع مثل صوت فأر: 17!

فقال الاستاذ: شد واركب !

جمال كان فنانا في عمله لكنه مثله مثل الفنانين كان يعاني من الملل ولا يكاد يبدأ عملا حتي يمله ويتركه وكانت النتيجة انه لم يكمل اية بيت بدأ بناءه، كان يبدأ العمل في وجود صاحب البيت الذي يكون عادة شخصا مغتربا حضر لقضاء اجازته، يبدأ العمل نشيطا مع عماله ، يكون هناك سجائر ومسجل جديد يصدح بجانبه اثناء العمل وهو يعشق الغناء لدرجة الجنون، وتكون هناك ذبائح واكل جيد، فيمضي العمل علي ما يرام، ثم تبدأ ميزانية المغترب في التراجع، فيستبدل البنسون الفاخر بجوال صغير من القمشة وبدلا من الذبائح تعود القراصة 6 بوصة لتتصدر المائدة، ويستبدل المسجل الذي استهلك كل حجارة البطارية الموجودة في دكان التعاون، يستبدله بطنبور قديم ويستخدم اذان مستمعيه لتجربة الحانه القديمة من ايام الشيطنة كما يسمي ايام شبابه، ويستبدل عرقي الامسيات بالشاي باللبن مشيرا الي الاول باعتباره : هو اصلا حرام ! عندها يطفش جمال الي الابد!

ذات مرة جاء الي العمل في بيتنا، كانت الوالدة وشقيقنا الاكبر قد سافرا الي الحج ولاجل استقبالهما تعين اجراء بعض الاصلاحات كما هي العادة في استقبال الحجاج. ولان اخي الاكبر كان يعرف نظام جمال فقد اوصانا قبل السفر ان نوفر له اساسيات الونسة ان رغبنا ان يكمل الشغل وشدد علي الا يتوقف جهاز التسجيل مطلقا، وجدنا بطارية سيارة قديمة، شحدنا صديقنا علي الذي يعمل سائقا لاحد الجرارات الزراعية ليشحن لنا البطارية واوصلنا المسجل وجهزنا كومة من الشرائط، جاء جمال وبقي معنا لمدة عام بعد ان اكمل العمل ! وكان الناس يسألوننا مستغربين الزول دة مسكتوا كيف ؟ وقال لي احد الجيران: فقيركم القوي المسكتو بيه الزول دة اسمه منو! قلت له شيخنا اسمه: عبد الكريم الكابلي، كان جمال مثلنا يعشق غناء الكابلي الى حد الجنون!!

كان لديه هواية غريبة، يعشق استبدال الاشياء، يعرف احيانا انه سيكون خاسرا من الاستبدال رغم ذلك لا يستطيع مقاومة الاغراء، ذات مرة جاء الينا يحمل جهاز مسجل جديد، استبدله مع اخي بجهاز راديو، ثم قايض جهاز الراديو بساعة سيكو مع أحد جيراننا وفي نهاية اليوم كان المسجل الجديد قد انتهي به الامر الي ماعز جاء يسحبها من اذنيها وهي تزعق بصوت هستيري، ربطها في مدخل المزرعة وغادر على ان يعود في اليوم التالي ليأخذها.

في اليوم التالي جاء ليطعمها ببعض البرسيم و الحشائش، ثم سقاها بعض الماء بجردل، وتركها مغادرا ليتكرر في الايام التالية نفس برنامجه، حين عرف الناس بذلك البرنامج أصبح بعض من يريدون منه اكمال عمل بدأه لهم وزاغ يلبدون له جوار الماعز! ذات يوم تجمهر بعض من يريدونه، في الموعد المحدد وبدلا من حضوره حضر شخص متعجل نزل وسط دهشة الحضور ليفك الماعز ويرفعه على حماره، وأعلن وهو يغادر: جمال باعو لي !

#لا_للحرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..