مقالات وآراء

لقاء في خط النار

عاطف عبدالله

قصة قصيرة

 

فيما مضى، أي قبل اشتعال هذه الحرب المجنونة، كنت أقطع المسافة بين بيتي وبيت شقيقتي الكبرى نادية سيراً على الأقدام، في غضون خمس عشرة إلى عشرين دقيقة على الأكثر. أما الآن، فقد مضى عام ونصف دون أن أراها، وأخبارها منقطعة عني تماماً. فأنا أعيش وحدي في الجزء الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع، بينما تقيم شقيقتي في الجهة التي يسيطر عليها الجيش. كلانا في مرمى نيران الطرفين، بلا شبكة اتصال، نقضي الأيام بلا كهرباء، ونشتري الماء من عربات الحمير التي تجوب الحي.

 

اسمي المرضي. أعمل معلّماً. قبل أيام، اقتحم منزلي عدد من المسلحين يرتدون زيّ قوات الدعم السريع. بلا أي مبرر، تعرضت لأبشع أنواع الضرب والإهانة، ووجهوا إليّ تهمة التعاون مع الجيش. السبب؟ أنني دخلت في خلاف بسيط مع الرجل الذي يجلب الماء. المياه التي صار لونها غريباً ورائحتها نتنة دفعتني إلى أن أطلب منه، بأدب، تنظيف البرميل الذي يستخدمه. وحين تجاهل الأمر، هددته بأنني سأبلغ مرتكز جماعة الدعم السريع – حكومة الأمر الواقع – لكن يبدو أنه سبقني، فلفّق بلاغاً كاذباً يتهمني فيه بأن لي نشاطاً مشبوهاً وعلاقات مع استخبارات الجيش.

 

بعد أن شفيت قليلًا، لم يعد لديّ خيار سوى الرحيل. كنت أعلم أن من يغادر منزله يُفقد كل شيء، وأن ممتلكاته ستُنهب دون رحمة، ولا يملك حق العودة. لكن البقاء أصبح ضرباً من الانتحار. جمعت ما خف وزنه وغلا ثمنه، وقررت مغادرة الحي ليلاً نحو بيت شقيقتي نادية. رتبت مع صاحب ركشة أن يقلّني إلى ما يُعرف بـ”الأرض المحايدة” بين طرفي الحرب.

 

كانت مجازفة كبرى، فالأرض المحايدة ليست إلا ساحة مكشوفة وسط القتال، وأي تواجد فيها قد يكلّفك حياتك. وحين وصلت إليها، وقبل أن أتخذ وجهتي التالية، وقعت المفاجأة … ركشة أخرى كانت تتوقف في اللحظة ذاتها، تقلّ أختي نادية، التي كانت تهرب من بيتها بعد أن أرهقها اللصوص “الشفشافة”، وسقوط القذائف من حولها دون توقف.

 

في لحظة نادرة وسط جنون الحرب، كان لقاؤنا. لم نخطط له، ولم نعرف كيف حدث، لكن كأن الحياة – رغم كل شيء – أشفقت علينا، وقررت أن تمنحنا هذا العناق المؤجل في أكثر الأماكن خطراً. لا نعرف إلى أين سنذهب بعدها، لكننا نعرف أننا وجدنا بعضنا، لا في بيتها ولا في بيتي، بل في قلب العدم … في الفراغ المريع بين جيشين لا يعرفان إلا لغة الموت.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..