ولاية الجزيرة في السودان: دراسة حالة للتهميش التنموي ضمن إطار نظرية المركز والهامش (1970–2023)

دكتور حامد الأمين
يشكّل التفاوت التنموي بين الأقاليم أحد أبرز التحديات البنيوية التي واجهت السودان منذ نيله الاستقلال في عام 1956. وقد تكرّست أنماط هذا التفاوت على مدار العقود المتلاحقة، بفعل السياسات المركزية، والصراعات السياسية، والتوزيع غير المتوازن للموارد العامة، مما أدى إلى نشوء علاقات غير متكافئة بين المركز ومحيطه، وظهور بيئات محلية تعاني من التهميش الاقتصادي والاجتماعي والمؤسسي.
لم تكن هذه الاختلالات محض نتاج تفاوتات طبيعية أو جغرافية، بل غالبًا ما كانت نتيجة مباشرة لاختيارات تنموية ذات طابع سياسي، ترتّبت عليها آثار بعيدة المدى على مستوى العدالة والمشاركة والفرص الاقتصادية. تُعد ولاية الجزيرة من أبرز النماذج التي تعكس هذا التحول من الريادة التنموية إلى التراجع والتهميش. فعلى مدى النصف الأول من القرن العشرين، شكّلت الجزيرة مركز الثقل الزراعي في السودان، بفضل مشروع الجزيرة الذي أُنشئ في ثلاثينيات القرن الماضي كمبادرة ضخمة لري القطن عبر شبكة هندسية متقدمة ترتبط بخزان سنار. مثّل المشروع آنذاك حجر الزاوية في الاقتصاد الوطني، وساهم في تعزيز البنية الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة، حيث أسّس لنمط إنتاج زراعي منظم، ودعم نشوء طبقة من صغار المزارعين، ووفّر خدمات تعليمية وصحية نسبية في الريف، كما شكّل أرضية لممارسة ديمقراطية محليه داخل مؤسسات الإدارة الزراعية. غير أن هذه المكانة بدأت بالتآكل التدريجي منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بفعل تراجع الاهتمام الحكومي بالمشروع، وتفكك البنية المؤسسية التي كانت تنظّمه، وتزايد الأعباء المالية على المنتجين، وانخفاض عوائد المحاصيل النقدية، بالإضافة إلى تغيّر أولويات الدولة نحو مركزية أكبر في الاستثمار العام. وقد ترافق هذا التراجع مع تحوّل في السياسات الاقتصادية الكلية، لا سيما في ظل برامج الإصلاح الهيكلي منذ التسعينيات، التي عمّقت الفجوة التنموية بين المركز وبقية الولايات، وخلّفت آثارًا مباشرة على ولاية الجزيرة التي لم تعد تحظى بالأولوية التنموية كما كانت من قبل.
تشير البيانات الأولية المعتمدة في هذه الدراسة إلى أن مساهمة ولاية الجزيرة في الناتج القومي الإجمالي قد انخفضت من مستويات تقديرية تتجاوز 15% في السبعينيات إلى أقل من 6% بحلول عام 2023. كما تراجع متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي في الولاية، ليحتل المرتبة التاسعة من أصل 18 ولاية سودانية، بعد أن كان في مصاف الولايات العليا من حيث الأداء الاقتصادي في العقود السابقة. وفي مؤشر التعليم، تراجعت نسب الالتحاق بالمرحلة الأساسية إلى أقل من 70% في بعض المحليات الطرفية بحلول عام 2020، مقارنة بمتوسط وطني يتجاوز 75%.
أما في قطاع الصحة، فقد تقلصت التغطية بالخدمات الأساسية في الريف، وتدهورت البنية الصحية التي كانت تتميز بها مناطق المشروع سابقًا، خصوصًا بعد خصخصة كثير من المرافق وتقليص الإنفاق الحكومي. تهدف هذه الورقة إلى تحليل واقع التهميش التنموي الذي طال ولاية الجزيرة خلال الفترة من 1970 إلى 2023، من خلال دمج البعدين النظري والكمي. تعتمد الدراسة على إطار نظرية المركز والهامش في تفسير التفاوتات البنيوية داخل الدولة القُطرية، وتوظف قاعدة بيانات زمنية تغطي جميع ولايات السودان الثماني عشرة عبر خمسة أبعاد تنموية رئيسية: نصيب الفرد من الناتج المحلي، التعليم، الصحة، البنية التحتية، والفقر التقديري. ومن خلال تحليل موقع الجزيرة ضمن هذا السياق الوطني، تسعى الورقة إلى اختبار فرضية تراجع مكانة الولاية داخل الهيكل التنموي العام، والتعرف على مدى اتساق هذا التراجع مع مؤشرات التهميش المنهجي، أو ما إذا كان ناجمًا عن عوامل داخلية محلية تتعلق بالإدارة والمؤسسات.
تسعى الورقة في نهاية المطاف إلى الإسهام في النقاش الأكاديمي والسياساتي حول العدالة التنموية في السودان، من خلال طرح ولاية الجزيرة كنموذج واقعي لنتائج التوزيع غير المتوازن للفرص والمنافع التنموية، وتقديم مؤشرات كمية ونوعية يمكن البناء عليها في رسم سياسات أكثر شمولًا وإنصافًا في المستقبل.
الإطار النظري والمفاهيمي تعتمد هذه الدراسة على نظرية “المركز والهامش” كنموذج تفسيري لتحليل العلاقات غير المتكافئة بين المناطق داخل الدولة الوطنية، وتسعى إلى توظيف هذا الإطار النظري لفهم أوجه التفاوت التنموي في السودان من خلال حالة ولاية الجزيرة. نشأت هذه النظرية في سياق نقدي للمنظومة الرأسمالية العالمية، وارتبطت في بداياتها بتحليل التفاوت بين الدول المتقدمة والنامية، ثم تطوّرت لاحقًا لتستخدم أيضًا في دراسة العلاقات البنيوية داخل الدول نفسها، حيث يُعاد إنتاج أنماط التهميش من خلال السيطرة المركزية على الموارد والقرارات. يُعتبر كل من إيمانويل واليرشتاين (Waller stein) وسامير أمين (Samir Amin) من أبرز منظّري هذا الاتجاه، حيث قدّما تفسيرًا بنيويًا للعلاقة بين المركز – بوصفه موقعًا للسلطة والثروة والقرار – والهامش بوصفه فضاءً للتبعية والضعف والافتقار إلى النفاذ لمصادر القوة. وفي السياق الأفريقي، استخدم عدد من الباحثين هذه النظرية لفهم كيف أعادت الدول المستقلة بعد الاستعمار إنتاج منطق المركزية القائم على الهيمنة الاقتصادية والسياسية لمناطق محددة على حساب الأطراف. وفي الحالة السودانية، تأخذ هذه النظرية بعدًا مركبًا يتجاوز البعد الجغرافي ليشمل عناصر سياسية، اقتصادية، وثقافية، حيث تمركزت الدولة منذ الاستقلال حول العاصمة الخرطوم ومحيطها، فيما ظلّت بقية الأقاليم، بما فيها تلك ذات الثقل الإنتاجي والتاريخ التنموي العريق كولاية الجزيرة، في موقع التبعية والتهميش النسبي. وقد تجلّت هذه المركزية في توزيع الموارد العامة، تخصيص الاستثمارات، تطوير البنى التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية. في هذا السياق، تأخذ الدراسة في اعتبارها أيضًا مفهوم “التهميش التنموي”، والذي يُقصد به التراجع النسبي في مؤشرات التنمية البشرية والاقتصادية في منطقة ما مقارنة بغيرها، نتيجة لعوامل هيكلية تتعلق بالسياسات الوطنية، وليس بالضرورة بفعل قصور محلي أو طبيعي. ويتقاطع هذا المفهوم مع مؤشرات العدالة التوزيعية، الحق في التنمية، والتمكين الاقتصادي، وهو ما يجعل من المؤشرات الكمية أداة تحليلية ضرورية لفهم هذا النمط من التفاوت. كما تستفيد الدراسة من أدبيات التنمية غير المتوازنة (Unbalanced Development) التي تشير إلى أن الدولة قد تنتهج، صراحة أو ضمنيًا، سياسات تفضي إلى تمركز التنمية في أقاليم بعينها دون غيرها، مما يفضي إلى نشوء “دوائر نمو” محدودة ومحاصرة في بحر من التهميش، ويؤدي إلى تفاقم الهجرة، النزاعات، واللامساواة الإقليمية. بناءً عليه، تعتمد الورقة هذا الإطار المفاهيمي لتفسير تدهور ولاية الجزيرة خلال العقود الماضية، انطلاقًا من فرضية أن هذا التدهور ليس مجرد نتيجة طبيعية لعوامل السوق أو الانكماش العام، بل هو انعكاس لتغيّرات في موقع الولاية داخل هيكل توزيع السلطة والموارد الوطني. ويتم اختبار هذه الفرضية باستخدام بيانات زمنية مقارنة لمؤشرات التنمية الأساسية، مع وضع نتائج ولاية الجزيرة ضمن مصفوفة تحليلية تقارنها ببقية الولايات السودانية، وفقًا لنموذج مركب يجمع بين التقييم الكمي والتحليل البنيوي. لمحة تاريخية عن ولاية الجزيرة تحتل ولاية الجزيرة موقعًا جغرافيًا استراتيجيًا في قلب السودان، بين النيلين الأزرق والأبيض، مما منحها بيئة زراعية متميزة بتربتها الطينية الخصبة ومناخها المعتدل نسبيًا. وقد لعبت الولاية، وخاصة عبر مشروع الجزيرة، دورًا حاسمًا في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الحديث للبلاد. يُعد مشروع الجزيرة – الذي بدأ فعليًا عام 1925 بعد اكتمال خزان سنار – أحد أضخم مشاريع الري الزراعي في أفريقيا، إذ امتد على مساحة تجاوزت مليوني فدان، وشكّل محورًا رئيسيًا في إنتاج القطن كمحصول نقدي موجّه للتصدير، إلى جانب الذرة والفول السوداني . نشأ المشروع في الأصل لتلبية طلب مصانع الغزل والنسيج البريطانية خلال فترة الاستعمار، لكنه تطور لاحقًا ليصبح ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني، حيث ساهم بحوالي 15% من الناتج القومي و60% من صادرات البلاد الزراعية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. كما وفّر المشروع مصدر دخل مستقر لأكثر من 100,000 مزارع، ويدعم قرابة نصف مليون شخص في الولاية، من خلال منظومة إنتاجية وإدارية وتنموية متكاملة. بحلول ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أصبحت ولاية الجزيرة تُعرف بـ”سلة غذاء السودان”، واستفادت من بنية تحتية جيدة نسبيًا مقارنة ببقية الأقاليم، شملت طرقًا فرعية، شبكات ري متقدمة، ومدارس ومستشفيات ومراكز صحية. وقد كانت مستويات التعليم والصحة والخدمات في بعض مناطق الجزيرة تفوق مثيلاتها في مدن كبيرة خارج الخرطوم. لكن هذه المكانة بدأت بالتآكل منذ أوائل الثمانينيات، بفعل ضعف الصيانة والتحديث في البنية التحتية، وتضارب السياسات الزراعية، وتراجع دعم الدولة للمدخلات الإنتاجية. مع تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي في التسعينيات، رُفعت يد الدولة عن التمويل والدعم الزراعي، وانهارت منظومة الخدمات المصاحبة، مما دفع كثيرًا من سكان الريف للهجرة نحو المدن أو خارج البلاد. وتشير البيانات إلى أن عدد المزارعين النشطين في المشروع انخفض إلى أقل من 40,000 بحلول عام 2020، وتقلصت المساحة المزروعة فعليًا إلى أقل من 800,000 فدان، بعد أن كانت تتجاوزاثنين مليون فدان. في الوقت ذاته، تراجع الإنفاق التنموي على الولاية بشكل ملحوظ، وأدى ذلك إلى تدنٍ في المؤشرات الاجتماعي : فقد انخفضت نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي من 78% عام 1980 إلى أقل من 65% بحلول عام 2020، وتراجعت تغطية الخدمات الصحية الريفية من أكثر من 70% إلى ما دون 55%، كما انخفض عدد المراكز الصحية الفعالة من نحو 320 إلى أقل من 185 ومع غياب خطة شاملة لإعادة تأهيل المشروع أو تطوير البنية الاقتصادية والاجتماعية في الولاية، أصبحت الجزيرة تعاني من “فراغ تنموي” رغم احتفاظها بمقومات طبيعية و بشرية كبيرة لم تُستثمر بعد بشكل عادل. تمثل هذه الخلفية التاريخية قاعدة تحليلية لفهم التراجع التنموي الذي شهدته الجزيرة، وتوضح كيف تحوّلت من مركز اقتصادي إلى منطقة ذات ترتيب متدنٍ في مؤشرات التنمية، ما يجعلها نموذجًا حيويًا لتحليل ديناميات التهميش البنيوي في السودان. المنهجية والبيانات تعتمد هذه الورقة على منهجية تحليلية تجمع بين المدخل الكمي المقارن والتحليل البنيوي، بهدف تقييم مدى التهميش التنموي الذي طال ولاية الجزيرة ضمن السياق الوطني الأوسع. ويتأسس هذا التقييم على قاعدة بيانات زمنية تم إعدادها خصيصًا لهذه الدراسة، تغطي جميع ولايات السودان الثماني عشرة خلال الفترة من 1970 إلى 2023، وتستند إلى خمسة مؤشرات مركبة تعكس الأبعاد الأساسية للتنمية الإقليمية. أولًا: اختيار المؤشرات التنموية تم اختيار خمسة أبعاد رئيسية تعكس الأداء التنموي للولايات، على النحو الآتي: .1 نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (Per Capita GDP): يُستخدم كمؤشر على القوة الاقتصادية النسبية ومستوى الدخل الفردي، ويعكس قدرة السكان على الوصول إلى الموارد الاقتصادية. وقد تم استخدام قيم حقيقية (بالأسعار الثابتة) لقياس الأداء الفعلي. .2 مؤشر التعليم: يشمل معدلات الالتحاق بالتعليم الأساسي والثانوي، نسبة المعلمين إلى الطلاب، ومعدل إتمام المرحلة الابتدائية. ويُعد التعليم مدخلًا أساسيًا لفهم القدرات البشرية والتنموية في الولاية. 3 .مؤشر الصحة: يُقاس من خلال توفر المراكز الصحية، نسبة السكان المغطين بالخدمات الصحية الأساسية، ومعدلات وفيات الأمهات والأطفال. ويعكس هذا المؤشر جودة حياة السكان وفعالية السياسات الصحية. 4.مؤشر البنية التحتية: يشمل نسبة القرى المتصلة بشبكات الطرق المعبدة، وتوفر خدمات الكهرباء والمياه والاتصالات. ويُعد مقياسًا مهمًا للاندماج الاقتصادي والجغرافي للولاية. 5.مؤشر الفقر التقديري: نظرًا لشح البيانات الدقيقة حول الفقر في بعض السنوات، تم استخدام مؤشرات بديلة مثل نسبة السكان تحت خط الكفاف، ونسبة التغطية بالحماية الاجتماعية، كمقاييس تقريبية لانتشار الفقر. تمت معالجة المؤشرات على أساس نسبي باستخدام أسلوب التقييس الإحصائي (Z-scores)، ثم جرى تجميعها في مؤشر مركب Composite Marginalization Index (CMI) يعبّر عن الموقع التنموي النسبي لكل ولاية مقارنة ببقية الولايات في كل عام. ثانيًا: مصادر البيانات تم تجميع البيانات من مصادر وطنية ودولية موثوقة، من بينها: – ا(لجهاز المركزي للإحصاء) تقارير السكان، الناتج المحلي، التعليم، الصحة. – وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي. – تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة (UNDP). – بيانات المسوحات العنقودية متعددة المؤشرات (MICS). – دراسات علمية منشورة وتقارير أرشيفية خاصة بولاية الجزيرة. – تقديرات الباحث لمتغيرات مفقودة بناءً على سلاسل زمنية واتجاهات عامة. خضعت البيانات لعدة مراحل من التنقيح والتكامل لضمان الاتساق الزمني والإقليمي، مع تقدير القيم المفقودة في بعض السنوات باستخدام المتوسطات المتحركة (Moving Averages) والانحدار الخطي عند الضرورة، مع توثيق جميع الافتراضات والإجراءات المستخدمة. ثالثًا: طريقة التحليل تم استخدام أدوات التحليل الإحصائي الوصفي والتحليل المقارن الزمني عبر الولايات، مع التركيز على ما يلي: -تتبع ترتيب ولاية الجزيرة في المؤشر المركب خلال الفترة الزمنية المدروسة – تحليل التباين بين الولاية ومتوسط الأداء القومي (جميع الولايات( – مقارنة أداء الجزيرة بأداء ولايات “المركز” مثل الخرطوم ونهر النيل، وولايات “الهامش” مثل غرب دارفور والنيل الأزرق – تقديم جداول ورسوم بيانية تُظهر المسارات الزمنية لمؤشرات التنمية وتبايناتها تُسهم هذه المنهجية في اختبار الفرضية الأساسية للورقة القائلة بأن التراجع التنموي في ولاية الجزيرة ليس مجرد انعكاس لأداءالافتراضات والإجراءات المستخدمة ,بل هو نتاج لتغير موقع الولاية ضمن هيكل السلطة والتوزيع التنموي في السودان. التحليل الكمي يرتكز هذا القسم على تحليل موقع ولاية الجزيرة ضمن الخريطة التنموية للسودان، من خلال استقراء المؤشرات الكمية المستخرجة من قاعدة البيانات الزمنية التي تغطي الفترة من 1970 إلى 2023، وتشمل 18 ولاية سودانية. يتمثل الهدف الأساسي في تحديد موقع الولاية داخل مؤشر التهميش المركب (CMI)، وتتبع تحوّلات هذا الموقع عبر الزمن، بالإضافة إلى تحليل التباين بينها وبين ولايات المركز والهامش الأخرى. أولًا: تطور ترتيب ولاية الجزيرة في المؤشر المركب أظهرت النتائج أن ولاية الجزيرة بدأت الفترة المدروسة بموقع متقدم نسبيًا بين الولايات السودانية، حيث كانت تحتل المرتبة الثالثة في مؤشر CMI في عام 1975، وذلك بفضل البنية الزراعية المتماسكة، ومستوى الخدمات الاجتماعية، والقدرة الاقتصادية التي توفّرها البنية المؤسسية لمشروع الجزيرة. غير أن المؤشر شهد تدهورًا تدريجيًا ابتداءً من منتصف الثمانينيات، وتسارع هذا التدهور مع بداية تسعينيات القرن العشرين، متأثرًا ببرامج التحرير الاقتصادي وتفكيك آليات دعم الإنتاج الزراعي. وبحلول عام 2005، تراجعت الجزيرة إلى المرتبة السابعة، ثم واصلت الانحدار إلى المرتبة التاسعة بحلول عام 2023، لتصبح ضمن الولايات متوسطة الأداء، بعدما كانت تصنّف ضمن الولايات المتقدمة. ثانيًا: مقارنة بالولايات الأخرى مقارنة مع ولايات المركز (الخرطوم، نهر النيل): سجلت هذه الولايات تحسنًا مضطردًا في المؤشر المركب، مدفوعة بالاستثمارات الحكومية، وتوسّع البنية التحتية، وتركّز الخدمات والتعليم والصحة. فعلى سبيل المثال، ارتفعت الخرطوم من المرتبة الرابعة (1975) إلى المرتبة الأولى (2023)، في حين تقدمت نهر النيل من المرتبة السادسة إلى الثالثة. مقارنة مع ولايات الهامش (غرب دارفور، النيل الأزرق، البحر الأحمر): رغم بقاء هذه الولايات في المراتب الدنيا من المؤشر، إلا أن بعض الفترات شهدت تحسنًا طفيفًا بسبب تدخلات تنموية محدودة أو مساعدات إنسانية. لكن اللافت أن أداء الجزيرة تقاطع أحيانًا مع هذه الولايات، مما يشير إلى مدى تراجعها. ثالثًا: تحليل الأبعاد الفرعية البعد الاقتصادي: نصيب الفرد من الناتج المحلي بالأسعار الحقيقية في الجزيرة انخفض من كونه ثاني أعلى مستوى في البلاد في 1980 إلى المرتبة التاسعة في 2023. ويعكس ذلك ضعف النمو الاقتصادي المحلي وتدهور الإنتاجية الزراعية. البنية التحتية: ظلّت خدمات الكهرباء والمياه متوفرة نسبيًا في مركز الولاية، لكنها ضعفت في المحليات الطرفية. نسبة الطرق المعبدة في بعض المناطق الريفية أقل من 25%، مقارنة بمتوسط وطني يتجاوز 40%. الصحة والتعليم: أظهرت المؤشرات تراجعًا واضحًا، إذ تقلصت معدلات إكمال التعليم الأساسي، وزادت فجوة الخدمات الصحية بين المدينة والريف. رابعًا: التحليل الرسومي يوضح الشكل التالي تطور ترتيب ولاية الجزيرة وعدد من الولايات المرجعية في مؤشر CMI خلال الفترة 1975–2023: الشكل:1 تطور ترتيب الولايات المختارة في مؤشر CMI (1975–2023) مناقشة النتائج تُظهر النتائج المستخلصة من التحليل الكمي أن ولاية الجزيرة قد انتقلت خلال العقود الخمسة الماضية من موقع متقدم نسبيًا في الخريطة التنموية الوطنية إلى موقع متوسط يميل إلى التراجع، وهو ما يدعم فرضية التهميش التدريجي الممنهج الذي تعرضت له الولاية. ويكتسب هذا التحول دلالاته العميقة إذا ما وُضع في سياقه التاريخي والمؤسسي، حيث كانت الجزيرة تمثل لسنوات طويلة نموذجًا فريدًا للتنمية الزراعية المتكاملة، وتُعدّ من أوائل الولايات التي شهدت بنى تحتية وخدمات عامة متقدمة نسبيًا. إن التراجع المتواصل في ترتيب الولاية على مستوى مؤشر التهميش المركب (CMI)، لا يمكن عزله عن السياسات الاقتصادية الكلية التي انتهجتها الدولة منذ ثمانينيات القرن الماضي، لا سيما تلك المتعلقة ببرامج الإصلاح الهيكلي والتحرير الاقتصادي، والتي قلّصت دور الدولة في دعم القطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها الزراعة المروية. لقد أثّرت هذه السياسات بصورة مباشرة على مشروع الجزيرة، الذي يُعد العمود الفقري للاقتصاد المحلي في الولاية، مما أدى إلى تدهور مستويات الدخل، وارتفاع معدلات الفقر، وانخفاض القدرة على الوصول إلى الخ… كما أن المقارنة بين ولاية الجزيرة والولايات التي تُصنّف تقليديًا ضمن المركز، مثل الخرطوم ونهر النيل، تكشف عن خلل بنيوي في توزيع الموارد والاستثمارات الحكومية. ففي حين حافظت ولايات المركز على ترتيبها المتقدم بل وحققت صعودًا في مؤشرات التنمية، انزلقت الجزيرة تدريجيًا نحو مواقع أقل، رغم احتفاظها بمقومات اقتصادية وبشرية كبيرة. ويشير ذلك إلى وجود نمط من التخصيص غير العادل للموارد، حيث لا تُوزّع الاستثمارات العامة بناءً على الحاجة أو الكفاءة الاقتصادية، بل على أساس اعتبارات سياسية أو مركزية. أما عند المقارنة مع ولايات الهامش مثل غرب دارفور والنيل الأزرق، فإن تقارب ترتيب الجزيرة معها في بعض الفترات يُعد مؤشرًا مقلقًا، إذ يكشف عن مدى التراجع الذي بلغته الولاية، رغم تاريخها التنموي وتوسط موقعها الجغرافي. وهذا يعكس، من منظور نظري، كيف أن “الهامشنة” لا ترتبط فقط ببعد جغرافي أو حدودي، بل قد تُنتج داخل الفضاء القومي بفعل السياسات وتوزيع-السلطة. تشير الأبعاد الفرعية للمؤشر أيضًا إلى أن التدهور لم يكن محصورًا في جانب واحد، بل شمِل أغلب قطاعات التنمية. فإلى جانب الانخفاض في نصيب الفرد من الناتج المحلي، وُجِدت فجوات واضحة في التعليم والصحة والبنية التحتية، لا سيما في المناطق الريفية من الولاية. ويعزز ذلك الاستنتاج القائل بأن التهميش التنموي في الجزيرة كان تراكميًا ومركبًا، ولم يكن عرضيًا-أومؤقتًا. بناءً عليه، يمكن القول إن ولاية الجزيرة تمثل حالة نموذجية لفهم ديناميات التهميش التنموي في السودان، وتؤكد الحاجة إلى مراجعة شاملة لسياسات التنمية الإقليمية، تتجاوز منطق المركزية والتخصيص الانتقائي للموارد، وتعتمد على مبادئ الإنصاف والعدالة-المكانية. الاستنتاج والتوصيات أظهرت الورقة، من خلال التحليل الكمي والمقارنة التاريخية، أن ولاية الجزيرة قد انتقلت من موقع متقدم في الخريطة التنموية للسودان إلى مرتبة متوسطة تميل إلى التراجع، حيث انخفض ترتيبها في مؤشر التهميش المركب (CMI) من المرتبة الثالثة في منتصف السبعينيات إلى المرتبة التاسعة من بين 18 ولاية بحلول عام 2023. يدعم هذا التراجع فرضية تعرض الولاية لتهميش تنموي ممنهج، ناتج عن اختلالات هيكلية في توزيع الموارد والسياسات العامة، وليس فقط بسبب ضعف الأداء المحلي. تشير البيانات إلى أن مساهمة ولاية الجزيرة في الناتج القومي الإجمالي تراجعت من نحو 15% في سبعينيات القرن الماضي إلى أقل من 6% في عام 2023، في حين انخفض متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي بنسبة تفوق 40% بالقيمة الحقيقية مقارنة بمستواه في أوائل الثمانينيات. كما انخفضت نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي في بعض المحليات الطرفية من 78% إلى نحو 65%، وتراجعت التغطية الصحية الريفية إلى أقل من 55%، في مقابل متوسط يتجاوز 70% في ولايات المركز. تُظهر هذه المؤشرات أن التدهور كان بنيويًا ومتعدد الأبعاد، وشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبنية التحتية، وهو ما يؤكد ضرورة التدخل العاجل من خلال سياسات واستراتيجيات إنمائية عادلة ومستندة إلى تحليل البيانات والاحتياجات الفعلية. بناءً على ما سبق، تقدم الورقة التوصيات التالية: .1تبني سياسات تنمية إقليمية متوازنة – إعادة هيكلة توزيع الموارد التنموية بحيث تحظى الولايات الأقل نموًا بنسبة أعلى من الاستثمارات الحكومية. يُقترح رفع حصة ولاية الجزيرة من الميزانية الإنمائية القومية إلى ما لا يقل عن 10% خلال السنوات الخمس القادمة، مقارنة بنسبة تقل عن 5% حاليًا. – تفعيل مبدأ “التمييز الإيجابي” لصالح الولايات التي شهدت تراجعًا حادًا في المؤشرات التنموية، من خلال تخصيص تمويل إضافي لمشروعات البنية التحتية والخدمات الاجتماعية. .2 إعادة تأهيل مشروع الجزيرة بمنظور تنموي شامل – تخصيص تمويل لا يقل عن 200 مليون دولار أمريكي على مدى خمس سنوات لإعادة تأهيل البنية الأساسية للمشروع (الري، القنوات، المحالج ) ( – تقديم دعم مباشر لحوالي 40,000 مزارع نشط حاليًا في شكل مدخلات إنتاج، قروض زراعية، وخدمات إرشادية، بهدف مضاعفة الإنتاج واستعادة القدرة التنافسية للقطاع الزراعي. .3 تعزيز البنية الصحية والتعليمية في الريف – زيادة عدد المراكز الصحية الفعالة من 185 إلى 300 مركز على الأقل، مع ضمان توزيع جغرافي عادل يغطي القرى النائية. .4رفع معدل الالتحاق بالمدارس في المحليات الطرفية بنسبة لا تقل عن 15% عبر برامج دعم التغذية المدرسية، وتقليل التسرب، وتعيين معلمين جدد في المناطق الأقل خدمة. .5 إدماج ولاية الجزيرة ضمن الخطط القومية للتنمية المستدامة .6تضمين خطة تنموية متكاملة للولاية ضمن رؤية السودان 2030، وربطها بأهداف التنمية المستدامة (SDGs) لزيادة جاذبية التمويل الدولي. .7إنشاء وحدة متابعة وتقييم محلية لتحديث بيانات التنمية سنويًا، مما يساعد في تحسين التخطيط وتخصيص الموارد. .8 إصلاح الحوكمة المحلية وتعزيز المشاركة 9.تمكين المجالس المحلية في الجزيرة من إدارة ما لا يقل عن 30% من الإنفاق التنموي الولائي بصورة مباشرة، مع تعزيز آليات الرقابة الشعبيه 10.دعم منظمات المجتمع المدني في الولاية للمساهمة في تحديد أولويات التنمية ورقابة تنفيذ المشاريع.
خاتمة: تخلص الورقة إلى أن ولاية الجزيرة تُعد نموذجًا واضحًا لتأثير التهميش التنموي الناتج عن اختلالات هيكلية ومركزية القرار. ويُعد إنصاف الولاية مدخلًا ضروريًا لإعادة بناء نموذج أكثر عدالة في التنمية الإقليمية، ليس فقط لصالح الجزيرة، بل لضمان استقرار السودان ونموه الشامل.
الملاحق
(1)الملحق : تعريف المؤشرات المستخدمة المؤشر التعريف المصدر أو طريقة الحساب نصيب الفرد من الناتج المحلي إجمالي الناتج المحلي ÷ عدد السكان الجهاز المركزي للإحصاء، تقديرات الباحث مؤشر التعليم نسب الالتحاق، نسبة المعلمين، معدل الإتمام وزارة التربية، MICS مؤشر الصحة عدد المراكز، تغطية صحية، وفيات الأطفال وزارة الصحة، بيانات المسح العنقودي مؤشر البنية التحتية طرق، كهرباء، مياه، اتصالات تقارير البنية التحتية مؤشر الفقر التقديري نسبة تحت خط الكفاف أو دون تغطية اجتماعية تقديرات الباحث، تقارير الفقر
الملحق (2): ترتيب الولايات في مؤشر CMI – مختارات السنة الجزيرة الخرطوم نهر النيل غرب دارفور 1975 3 4 6 17 1985 4 3 5 18 1995 6 2 4 18 2005 7 1 3 17 2015 8 1 3 16 2023 9 1 3 15
الملحق (3): المسار الزمني لنصيب الفرد من الناتج المحلي في ولاية الجزيرة (1970–2023) السنة المؤشر (الجزيرة( 1970 100 1980 115 1990 90 2000 78 2010 70 2023 65
الملحق (4): الرسم البياني لتطور ترتيب ولاية الجزيرة الشكل: تطور ترتيب الجزيرة مقارنة ببعض الولايات في مؤشر التهميش المركب (1975–2023)
الملحق (5): مصادر البيانات والافتراضات الإحصائية – تم تقدير بعض القيم المفقودة باستخدام المتوسطات المتحركة ثلاثية السنوات. – عند غياب بيانات الفقر الرسمية، تم استخدام نسبة التغطية الاجتماعية كمؤشر بديل (Proxy). – تم توحيد القيم على أساس Z-score لكل سنة لضمان القابلية للمقارنة بين الولايات. – جرى اعتماد مصادر رسمية مثل الجهاز المركزي للإحصاء، تقارير التنمية البشرية، وبيانات MICS))، إلى جانب تقديرات الباحث.
الملحق (6): الرسوم البيانية الشكل (1): المسار الزمني لترتيب ولاية الجزيرة مقارنةً ببعض الولايات المرجعية ضمن مؤشر التهميش المركب (CMI) خلال الفترة 1975–2023
السودان كلو مهمش وحتي الخرطوم مهمشة ففي مجال الصحة والتعليم نجد إهمال حكومي في كل السودان مع ترك أمور الصحة والتعليم للقطاع الخاص وهم المتنفذين والمقرببن من اهل القرار لاكتناز المال وتراكم الثروة، ،،،سؤال لكاتب المقال: هل توجد تنمية وخدمات في الخرطوم ونهر النيل؟ هل توجد بنية تحتية في الخرطوم ونهر النيل؟ علما بانني لا انتمي الي اي من الولايتين وغرضي من مداخلتي هذه ان تكون المطالبة بالحقوق او حتي النضال ضد الطغاة من منظور قومي فاي رقعة في السودان هذا البلد الغني بموارده تعاني من التهميش وعدم التنمية والتخلف وما سبب لنا الضرر والتخلف الا تشتتنا وانقساماتنا في حربنا ضد الطغاة والديكتاتوريات……
وفر علينا التنظير
سيد نظرية المركز الهامش ذاااااا تو إصطف مع جيش الكيزان الجلابة ضد الكيزان الجنجا.