الخرطوم عاصمة أم كارثة قومية؟

خالد فضل
لأول نشأتنا في ريف الجزيرة ومعرفتنا بالحياة , بداية السبعينات من القرن المنصرم , سمعنا بالخرطوم , دار غربة تضم من أسرتي خالي أحمد الذي كنت أراه لماما دون أن أتأكد من ملامحه جيدا , أسمع أنّه شغال موظف هناك ومجيئه للقرية في مناسبات محدودة , لكنه حين يحضر كانت تحضر معه الفواكه الطازجة والنادرة كالتفاح والعنب والملابس الفاخرة لنا أطفال شقيقته. لذلك كانت الخرطوم تبدو لي مكانا ثريّا بعيدا وغريبا للغاية , ليست فيها حواشات ولا أبقار وأغنام ولا رواعية ولا أشجار نشرّك تحتها للطيور . فوق هذا وذاك لم تك فيها عمتي عشّة بت طه أو أبوي أُمْحمد أو أبوي الزين ولا أخوي جمال . كنت أتعاطف مع خالي في غربتو ..
الخرطوم بعد شوية صارت محل بتتعمل الإنقلابات , أها , وبقبضو النميري وبفكوهو . وفي قرية من ريف الجزيرة أجري مع المتظاهرين مرتين ؛ فرحا بقبض النميري وفرحا آخرا بفكه من القبض . كل هذا يقع في الخرطوم ؛ يا قاتلها الله تلك المكان البعيد الغريب . محل بجو المرتزقة كمان , ايام محمد نور سعد , وكنت قد وعيت قليلا للحياة .
الخرطوم قبل مطلع الثمانينات , بضع عشرة فردا عزّاب من القرية , أسرة أسرتين نسمع بهم في الخرطوم , عندما تحضر البنات يكنّ بنات الخرطوم , تسريحة مختلفة وفساتين غير . الأولاد لعابين في الكورة لكن ما بعرفو (التيوة) الخرطوم شئ آخر .
ثمّ الخرطوم محل الجامعة , بعض طلبة يدرسون فيها , عندما يحضرون في العطلات كل القرية تعرف خبر مجيئهم ويذهبون للسلام والدردشة مع أولادنا المتعلمين . نسمع في الراديو علي قاقارين لكن الهلالاب منهم شافوهو عدييل , وكمال عبدالوهاب اللعاب أيقونة المريخاب . قبل الثمانينات بقليل وده كلو في الخرطوم, حيث الاستاد نجيلة , وستاد الحوش فرناغة وسور شوالات .
الثمانينات , كانت ملاقاة الخرطوم سوقا شعبيا ومواصلات , مطاعم عادية وزحمة خفيفة في الاسواق , وشمس حارقة نص النهارات , وقليل أحياء عمارات . كثير حيازات وعشش وقرى بالكاد لفقراء وجوعى تحيط كالسوار , مظنة نهب وإنفلات .. والبلد تعتنق الإسلام بقيادة أمير المؤمنين الذي أراق زجاجات الخمور في النهر في مشهد متلفز وأغلق البارات .
الخرطوم الآن , بضع أعمدة خرصانية وهياكل تتراءى من بعيد شرق شارع أركويت الوحيد الذي نهايته المركز الإسلامي الإفريقي . يقال ضمن سرديات الركاب المتعبين في تلك البصات الكحيانة , إنها المعمورة والطائف بعد الرياض . لم تك المنشية شيئا مذكورا كما في التسعينات..
الخرطوم بلد الانقلابات والإنتفاضة وإذاعة بيان البشير وقبله جلسة البرلمان وصحيفة ألوان والراية وبنك فيصل والقصر العشوائي وتخزين التموين ومواكب نصرة الجيش وقنطار الذهب تبرع الأخوات, واستقطابات زعيم المعارضة الإسلامية علي عثمان …
كان الكرتون نسيا منسيا , ومايو وجبرونا والعزبة وأطراف الثورات والمويلح ومرزوق .. إلخ يقطنها جنس خلوق .. ممن أفلتوا من حملات الكشات أو عادوا بعد النميري ومعتمد العاصمة القومية الفات .. والخرطوم العاصمة ؛ تزعل وتطنطن من هذه الاشكال , جنوبيين وجنوبيات طوال ونحاف وفقراء معدمين وسكرانين , ونوبا وفور غتيتين واقوياء وعربيدين , وبجا وأدروبات وسخانين , وكردافة نص نص , وغرّابة كريهين .. وبعض أهل العوض ساذجين . كرور .. في مقابل الدوحة ويثرب والواحة والرياض مرتين والياسمين . الخرطوم تتحشّم , والسياط والنظام العام وسقوط طرحة من شعر قرقدي أو ضفيرات خشناء سبة تستوجب نيابة وشرطة ومحكمة وجلدات وغرامة وثرثرة في جلسة إيمان تحت ظلال الفيحاء … يا رب سترك وعفوك ورضاك .. قوموا إلى صفقاتكم آمنين غانمين إن شالله . والخرطوم , تتريّف , المواصلات كارو والماء براميل والبيت سعف وخيش وجالوص .. والحمام شوالات ودلق الماء في الطريق حفيرات حفيرات من عطن الصابون والرائحة ديك . إنهم المجرمون .. النشالون , الحرامية كسارين البيوت , إنهم الجنجويد عدييل . …!!!!
الخرطوم الألفية الثالثة , ينصرم قرن , يبدأ قرني الجديد (كمخضرم) عاش في قرنين , أحتضن راديو صغير , متكرفس في غرفة أصغر مقاس من داخلية الطلبة في كلية التربية بجامعة الخرطوم , حيث يأوى الحطيئة وعبدالقديم وعبدالرحمن وفتح الرحمن وحسين وسليمان ورهط عظيم مقيم وعابر والباشمهندس المرحوم محمد علي , وغادرنا للتو مغتربين التمروتاور .. شباب زي الورد ..كلهم فقراء, إلا من العقول والأفئدة الثرية .. و من ساحة البيكاديللي سكوير وسط لندن أنشر في جريدة الصحافة (مفكرة مسافر) , يعلّق شيخي المغفور له كمال الجزولي , والله يا أبو رويس لو ما شايفك حايم معانا هنا بغبشتك دي كنت أصدقك , ياخي ما تغش القارئين وضحكنا . يا لكمال وعي كمال وعميق إنسانه .
لكن الخرطوم كانت عابسة , برفع الإصبع (طز ) في أمريكا , والتهليل والتكبير والتخوين والتجريم لنأمة ضجر المهمشين , وإعلانات الجهاد في المارقين , والزنازين وسيئة السمعة تلك البيوت , والليلة يا قرن أيامك انتهن .. الخرطوم طاردة .. الخرطوم فارغة .. شحيحة العطاء للأقربين سخية المواكب لنصرة البوسنة والهرسك وفلسطين ..الخرطوم مزعزعة السودانيين الاصليين ؛ حفية بكارلوس وبن لادن وجملة المارقين .. ويدعونها العاصمة القومية .. ألا ما أفدح التلوين . آخ من حظك يا العاصمة .. تاني كيزان . .. تاني قومية . . تاني وتاني محلية ووحدة إدارية وشوية أرزقية .. آخ من حظك يا القومية في ظل المليشيات وقانون الوجوه الغريبة ..وتنقية المجتمع من جنسو حواضن دعّامية .. آخ من حظك آ الخرطوم القومية . .