المقالات والآراء

إيران تتألم لكنها تكشف هشاشة الردع وتُفاوض على البقاء

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.

وسط مشهد إقليمي مشحون بالتوترات والصدمات المتلاحقة، تلوح طهران من جديد كورقة معقّدة في لعبة الشطرنج الجيوسياسية. فعلى طاولة المفاوضات في جنيف، لم تكن إيران تناقش فقط نسب التخصيب ومراكز التفتيش، بل كانت تفاوض على شيء أكثر جوهرية وهو ضمان بقاء النظام. عندما قبلت طهران، وإن بشروط ضبابية، بالدخول في مفاوضات مباشرة مع إدارة ترامب، فإنها لم تكن تتنازل عن مبادئ ثورتها، بل كانت تشتري الوقت بذكاء استراتيجي معتاد. فالقيادة الإيرانية، التي امتصّت سنواتٍ من العقوبات والاغتيالات والهجمات السيبرانية والهجمات الجوية، باتت تدرك أن ما تبقّى في يدها من أوراق حيوية لا يتعدّى البنية السياسية للنظام وكمية مخصّبة من اليورانيوم القابلة للانتظار، بينما برنامجها العلمي النووي تلقّى ضربات قاسية بفقدان نخبة من علمائه وانكشاف منشآت كانت سرّية، كمنشأة فوردو التي صمدت ثلاثة أعوام في عتمة المخابرات الدولية.

هذا الإدراك الخطير دفع النظام الإيراني إلى تسخير مرونة تكتيكية غير مسبوقة، فقد قَبِل على مضض بفكرة تجميد أنشطته النووية، وراوغ في ملف الصواريخ، وابتسم ابتسامة باردة عندما طُرحت عليه مسألة التفاوض مع ترامب، الخصم الذي طالما وصمته خطبه الثورية بالجنون. لكن النظام لم يفعل ذلك من موقع ضعف أخلاقي، بل من بوابة الفهم الدقيق لمعنى البقاء في بيئة دولية لا تعترف سوى بالمفاعيل، لا بالمواقف. في المقابل، كان العرض الأوروبي واضحًا في منطقه وإن بدا غامضًا في نواياه، ضمانات برفع تدريجي للعقوبات، وإعادة فتح بوابات النظام المالي الدولي، ومشاريع استثمارية ضخمة قد تُعيد الحياة إلى اقتصاد يترنّح، كل ذلك مقابل ما يشبه الهدنة الشاملة، النووية والإقليمية. لكن في ثنايا هذا العرض يكمن اعتراف ضمني ببقاء النظام إذا التزم الحدود الجديدة للعبة.

من الجانب الآخر، تقف إسرائيل، بقيادة نتنياهو، على الضفة المقابلة تمامًا لهذا المنطق. فهي ترى في أي اتفاق لا ينتهي بتفكيك النظام الإيراني إخفاقًا استراتيجيًا مؤجلًا. ولعل الغضب الإسرائيلي لا ينبع فقط من استمرار تخصيب اليورانيوم أو تهريب الصواريخ، بل من حقيقة أن كل ضربة وُجهت لإيران لم تُسقط النظام، بل دفعته إلى مزيد من الالتفاف والمناورة. فنتنياهو لم يعد يؤمن بإستراتيجية (الردع المحدود)، بل يسعى إلى تغيير البيئة من جذورها عبر استنزاف تدريجي قد يفتح ثغرة داخلية قابلة للانفجار. ورغم قساوة ضرباته التي طالت العلماء والمنشآت والبنية اللوجستية، إلا أن المشروع الإيراني ظلّ يحتفظ بجذوة مشتعلة، تنتظر بيئة دولية مواتية لتعود إلى السطح مجددًا.

وفي مفارقة لافتة، وبينما كانت إيران تتلقى الضربات على أكثر من جبهة، بدت كأنها الطرف الذي يكشف المستور. إذ لم يعد ضرر الصواريخ يتمثل فقط في ما تُحدثه من دمار، بل في ما تُحدثه من انكشاف. ففي المواجهة الأخيرة، تساقطت صواريخ إيرانية داخل المجال الإسرائيلي رغم أنظمة الدفاع الغربية المتراكبة، وتجاوزت القبة الحديدية التي طالما رُوّج لها كدرع لا يُخترق. وهذا الخلل لم يُحرج تل أبيب وحدها، بل امتد إلى صدع في مصداقية المنظومة الصاروخية الغربية بأسرها. فالصواريخ الأمريكية التي فشلت في اعتراض الهجوم بالكامل، سلّطت الضوء على ثغرات كامنة في الأداء الدفاعي، وباتت بمثابة ناقوس خطر لحلفاء واشنطن. الصين، التي تتابع عن كثب كفاءة الردع الأمريكي في آسيا، رأت في هذا الفشل إشارة ضمنية بأن الأفق مفتوح أمام جرأة جديدة تجاه تايوان. أما دول الخليج وجنوب شرق آسيا، والتي تعتمد منذ عقود على المظلة الأمريكية، فسيبدؤون بإعادة النظر في جدوى هذا الاعتماد، والتفكير في مقاربات أمنية أكثر تنوعًا واستقلالية. بدا الأمر وكأن طهران، المنهكة بقدر ما هي مصمّمة، أخرجت إلى الضوء هشاشة غير متوقعة في سردية التفوق العسكري الغربي، وقلبت موازين الإدراك الاستراتيجي، من خلال ضربة تحمل في طياتها بُعدًا رمزيًا لا يقل تأثيرًا عن أضرارها المادية.

ولا يغيب في هذا السياق أن الضربات الإسرائيلية، رغم طابعها الميداني الظاهري، لا يمكن فصلها عن السياق السياسي الأوسع الذي تتحرك فيه الإدارة الأمريكية. إذ بدا واضحًا أن واشنطن فضّلت الابتعاد عن التصعيد المباشر مع طهران، واكتفت بدور المنسق من الخلف، بينما تُركت لتل أبيب مهمة الضغط العسكري الخشن. ويمكن القول إن ثمة تقاطعًا غير معلن بين استراتيجية إسرائيل على الأرض والمصلحة الأمريكية في جعل إيران تترنّح بما يكفي لتجلس إلى طاولة التفاوض وهي أكثر ليونة. فإدارة ترامب نجحت حتى الآن في تحقيق مكسبين متوازيين، الأول إضعاف البنية الإيرانية بشتى الوسائل العسكرية والاقتصادية دون أن تتورط في مواجهة مباشرة، والثاني، تصوير إسرائيل كأنها القوة التي دفعت طهران إلى التفاوض، مما يمنح حليفها الإقليمي لحظة انتصار رمزي يمكن تسويقها للرأي العام الإسرائيلي والدولي. هذه الصورة تمنح الطرفين نقاطًا مزدوجة في لعبة التأثير، واشنطن تمسك بملف التفاوض دون كلفة عسكرية مباشرة، وتل أبيب تخرج بمشهد النصر، حتى وإن لم تُحقق أهدافها الاستراتيجية الكبرى.

بهذه المعادلة، تصبح طهران ليست الطرف الأضعف في المفاوضات، بل الأكثر مرونة ومهارة في إدارة الانكماش الذكي، فيما تزداد تل أبيب قلقًا من عدو لا يسقط وإن تلقّى الضربات، ويتقن فن الاستمرار كما لو كان يتغذى على حافة الهاوية. وفي عالم تحكمه الحسابات الباردة لا النوايا الحسنة، تبقى بوصلة القرار الإيراني متجهة نحو البقاء مهما كان الثمن، وتبقى يد نتنياهو على الزناد، لكنه يعرف أن خصمه لا يهوى الموت بل يُتقن التأقلم معه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..